ماذا بعد العشر المباركة ( خطبة من جميل المنقول )
عبدالرحمن اللهيبي
1444/12/12 - 2023/06/30 09:51AM
الحمد لله الذي عمّت رحمتُه كلَ خير ووسعت، وتمّت نعمتُه على العباد وعظمُت، نحمده على نعمٍ توالت علينا واتسعت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمةُ التوحيد وارتفعت، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ما ابتهلت الوفود بالمشاعر العظام ودعت.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أربحُ بضاعة، واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرط في أمر الله وأضاعه، يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مَضَت أَيَّامٌ مُضِيَئَةٌ مُبَارَكَةٌ ، وَلَّت عَشرُ ذِي الحِجَّةِ بِخَيرَاتِهَا وَبَرَكَاتِهَا ورحماتها، صَامَ فيها مَن صَامَ، وَحَجَّ مَن حَجَّ ، وَضَحَّى مَن ضَحَّى ، وَتَصَدَّقَ مَن تَصَدَّقَ، وَعَجَّ بِالتَّكبِيرِ مَن هلل وكبر ، رأيت في العشر أناسا يحمل أحدهم في سيارته الخاصة كراتين من الماء البارد يسقي بها الحجيج ، ورأيت أقواما يصومون في شدة الحر والهجير ، ورأيت فئاما لا يفتر لسان أحدهم عن الذكر والتهليل والتكبير، ورأيت قلوبا تعلقت بكتاب الله قراءة وتدبرا وخشوعا وتلاوة بتحبير، ورأيتم جميعا ملايين المسلمين يجأرون إلى الله بالدعاء شعثا غبرا قد جاؤوا من كل فج عميق ، وَهَكَذَا هِيَ مَوَاسِمُ الفَضِل والبركات وَأزمنةُ الخير والرحمات ، تَمُرُّ كَلَمحِ البَصَرِ أَو هِيَ أَعجَلُ ، يسَابقُ فيها مَن سَبَقَ ممَّن سَارَعَ وَتَقَدَّمَ ، وَيتَأَخَّرُ مَن تَأَخَّرَ ممَّن تَبَاطَأَ وَأَحجَمَ ، ويَتَزَوَّدُ مِنهَا من وُفق فَيَنَالُ بِفَضلِ رَبِّهِ الأَجرَ المُضَاعَفَ ، وَيَتَقَاعَسُ فيها مُفَرِّطٌ فَيَحرِمُ نَفسَهُ مَا لَو قَدَّمَهُ لَوَجدَهُ عِندَ رَبِّهِ وَافِيًا .
والله ـ سُبحَانَهُ ـ يقول : " وَمَن يَعمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظلَمُونَ نَقِيرًا "
وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ قَالَ اللهُ " يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعمَالُكُم أُحصِيهَا لَكُم ثُمَّ أُوَفِّيكُم إِيَّاهَا ، فَمَن وَجَدَ خَيرًا فَلْيَحمَدِ اللهَ ، وَمَن وَجَدَ غَيرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفسَهُ"
فيا من اجتهد بالعبادة في أيام العشر العظام: اشكروا الله على ما أولاكم، واحمدوه على ما وهبكم وأعطاكم، فقد تتابع عليكم برُّه، وعم بكم عطاؤه، فما تقربتم إليه بالصالحات إلا بأمره وفضله .. ولا عبدتم ربكم إلا باصطفائه لكم واختياره ، فالفضل كله لله وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ فسبحانه من متفضل كريم يَهديك لعبادته ثم هو يثيبك عليها، فالفضل له في الهداية ثم الفضل له أيضا في الثواب والجزاء..
فيا من تقربت في الأيام الخالية بين ذكر وتسبيح وصلاة وصيام وقيام وصدقة وعبادة ، إلزم طريق الخير والاستقامة، واحذَر من العودة إلى التلوُّث بالمحرّمات والتلفُّع بالسيئات والتِحاف الخطيئات، وداوم يا عبدالله على العمل الصالح وإن قل فلست هنا بدار إقامة، واحذر العجب والرياء فربّ عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تتلفه النية .
ويا من مضت عليه أفضل أيام الدنيا ولم يقضها إلا في الآثام والسيئات ، ويا من ذهبت عليه مواسم الخيرات والرحمات وهو غافل منشغل بالملاهي والمنكرات، أما رأيت قوافل الحجاج والملبين؟! أما رأيت حسن إقبال الصائمين والذاكرين؟ أما رأيت أكفّ الراغبين، ودموعَ التائبين؟! فما لك قد مرّت عليك خير أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُد عليك الوثاق؟!
عباد الله : استعينوا بالله على هذه النفوس الغافلة ، فأنتم في الدنيا أغراضُ المنايا، وأوطان البلايا، فاغتنِموا زمنَكم، وجاهدوا أنفسَكم، فإنّ المجاهدة بضاعة العُبَّاد ومدارُ صلاح القلوب والأعمال .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب إنه غفور رحيم
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أَمَّا بَعدُ ، أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنْ فاتت أيام العشر المباركة فإن بَينَ أَيدِيكُم عَلَى مَدَى أَيَّامِ العَامِ أَعمَالاً جَلِيلَةً ، وأُجُورَهَا عند الله عَظِيمَةٌ وَكَبِيرَةٌ ، وإن من أجلها وأعظمها الصَّلَوَاتُ الخَمسُ ، تِلكُمُ المَحَطَّاتُ الإِيمَانِيَّةُ العَامِرَةُ والبحار من الحسنات العظيمة الزَّاخِرَةُ ، الَّتي تُمحَى بهَا الذُّنُوبُ وَالسَّيِّئَاتُ ، وَتزدادُ بها الحَسَنَاتُ، وَتُرفَعُ بها في أعالي الدَّرَجَات ..
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ إِنَّ أَبوَابَ الخَيرِ عديدةٌ ، وطرق البر كثيرة وربُنا ـ سُبحَانَهُ ـ جَوَادٌ كَرِيمٌ ، يُعطِي الكَثِيرَ مِنَ الحسنات عَلَى القَلِيلِ من القربات واليسير من الطاعات
فأقبلوا على ربكم بحسن العمل فدنياكم هذه زائلة ، وأعماركم فانية، وليحذر العبد من التمادي في اغتراره وليبادر بالتوبة وإصلاح حاله، وتغيير مساره، "ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم"
يا عبد الله! الثباتَ الثبات في هذه الدنيا ، والعزيمةَ العزيمةَ على الطاعة؛ والصبر الصبر على ترك المعاصي
ألا فابذلوا الثمن, فسلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة "يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ . مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجزَى إِلاَّ مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ "
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترجُمان، فينظُر أيمنَ منه فلا يرَى إلا ما قدَّم، وينظُر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظُر بين يدَيه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهه، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجِد فبكلمةٍ طيبةٍ».
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون من جنه وأنسه، فقال قولًا كريما: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وفضلك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.