ماذا بعد الحج وأيام العشر الفاضلة للشيخ البدير بتصرف ومختصرة

عبدالرحمن اللهيبي
1435/12/15 - 2014/10/09 22:09PM
الحمد لله الذي عمّت رحمته على عباده ووسعت، وتمّت نعمته عليهم وعظمت، نحمده على نعمٍ توالت علينا وجلت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنجي قائلها يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جاهد في الله حق جهاده حتى علت كلمة التوحيد وارتفعت، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ما ابتهلت الوفود بالمشاعر العظام ودعت...أمّا بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أربحُ بضاعة، واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرط في أمر الله وأضاعه، يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً
أيّها المسلمون، إنَّ عبادةَ العبد لربّه هي رمزُ خضوعِه ودليلُ صِدقِه وعنوان انقيادِه، فالعبوديّة لله في أي زمان ومكان هي أشرفُ المقامات وأسمى الغايات وبها ينال العبد أعلى المراتب والدرجات.
أيها المسلمون، في الأيام القليلة الماضية قضى الحجاج عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أجل القربات، تجردوا لله فيها من المخيط عند الميقات، وهلت دموع التوبة منهم في صعيد عرفات ، خجلاً ووجلا من الهفوات والعثرات، وضجت بالافتقار إلى الله كلُ الأصواتِ بجميع اللغات، وازدلفت الأرواح إلى مزدلفةَ للبيات، وزحفت الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطواف بالكعبة المشرفة، والسعي بين الصفا والمروة، في رحلة من أروع الرحلات، وسياحة من أجمل السياحات عادوا بعدَ ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضلِه, ((قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ)) أي خيرٌ من الدنيا وأعراضِها وأغراضها التي ما هي إلا طَيف خيال، مصيره الزوالُ والارتحال، متاعٌ قليل، عرضةٌ للآفات، ومآله للفَوات. فهنيئًا للحجّاج حجُّهم، وهنيئا للعُبَّاد في العشر المباركات عبادَتُهم واجتهادُهم،
وهنيئًا لهم قولُ رسول الهدى  فيما يرويه عن ربِّه جلّ وعلا: ((إذا تقرَّب العبد إليَّ شبرًا تقرّبت إليه ذراعًا، وإذا تقرّب مني ذراعًا تقرّبت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيتُه هرولة)).
فيا من حج بيت الله الحرام، اشكروا الله على ما أولاكم، واحمدوه على ما حباكم وأعطاكم، تتابع عليكم برُّه، واتصل بكم خيره، وعم عليكم عطاؤه، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
فيا مَن حجَجتم البيتَ العتيق، وجئتُم من كلِّ فجٍّ عميق، ولبّيتم من كلِّ طرف سَحيق، ها أنتم وقد كمُل حجُكم وتمّ تفثكم، بعد أن وقفتم على هاتيكَ المشاعر، وأدّيتم تلك الشعائر، فاحذَروا من العودة إلى التلوُّث بالمحرّمات والتلفُّع بالمعرّات والتِحاف المسَبَّات, وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَـٰثًا، هي امرأةٌ حمقاءُ خرقاء ، تجْهَدُ صباحَ مساء في معالجة صوفها، حتى إذا صار خيطًا سويًّا ومحكَمًا قويًّا عادت عليه تحلُّ شُعيراتِه، وتنقُض محكماتِه، وتجعله بعد القوّة منكوثًا، وبعد الصّلاح محلولاً، ولم تجنِ من صنيعها إلاّ الإرهاقَ والمشاقّ، فإيّاكم أن تكونوا مثلَها، فتهدِموا ما بنَيتم، وتبدِّدوا ما جمَعتم، وتنقُضوا ما أحكمتم.
فيا من حج البيت العتيق، لقد فتَحتم في حياتِكم صفحةً بيضاء نقيّة، ولبستم بعد حجّكم ثيابًا طاهرة نقيّة، فاحذروا من العودة إلى تسويد الصحائف بالمعاصي والمنكرات ، حَذار حَذار من الأفعال المخزية والمسالكِ المردية ، والأعمال المشينة , فما أحسنَ الحسنة تتبعُها الحسنة، وما أقبحَ السيئة بعدَ الحسنة .


أيها المسلمون، إن الحاج منذ أن يُلبي وحتى يقضي حجه وينتهي فإن كل أعمال حجه ومناسكه تعرفه بالله، تذكره بحقوق ربه وخصائص ألوهيته جل في علاه، وأنه لا يستحق العبادة أحد سواه، تعرفه وتذكره بأن الله هو الأحد الذي تُسلَم النفس إليه، ويوجَّه الوجه إليه، وأنه الصمد الذي له وحده تصمد الخلائقُ في طلب الحاجات، والعياذ به من المكروهات، والاستغاثة به عند الكربات، فكيف يهون على الحاج بعد ذلك أن يصرف حقًا من حقوق الله من الدعاء والاستعانة والاستغاثة والذبح إلى غيره؟! ؟ أي حجٍّ لمن عاد وهو يفعل شيئًا من ذلك الشركِ الصريح والعمل القبيح ، أي حج لمن يأتي المشعوذين والسحرة ، ويُصَدِّقُ أصحابَ الأبراج والتنجيمِ وأهلَ الطِيرة, ويتبرك بالأشجار ، ويتمسح بالأحجار ، ويعلق التمائمَ والحروز , ويتمسح بالأضرحة والقبور؟
أين أثرُ الحج فيمن عاد بعد حجه مضيعًا للصلاة ، مانعًا للزكاة ، آكلاً للربا والرِشا ، متعاطيًا للمخدرات والمسكرات ، قاطعًا للأرحام ، والغًا في الموبقات والآثام , واقعا في أعراض الأنام ؟
يا من حج البيت العتيق، يا من امتنعتم عن محظورات الإحرام أثناء حجِ بيت الله الحرام، إن هناك محظورات على الدوام، وطول الدهر والأعوام، فاحذروا إتيانَها وقربانَها، يقول جل وعلا: تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ
يا من حج بيت الله العتيق، ليكن حجكم أول فتوحِكم، وتباشير فجركم، وإشراق صبحكم، وبداية مولدكم، وعنوانَ صدقِ إرادتكم..
تقبل الله حجكم وسعيكم، وأعاد الله علينا وعليكم هذه الأيام المباركة أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، والأمة الإسلامية في عزة وكرامة، ونصر وتمكين، ورفعة وسؤدد.

الحمد لله الذي آوى مَن إلى لُطفه أوى، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له داوى بإنعامِه من يئس من أسقامه الدّوا، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، من اتّبعه كان على الخير والهدى، ومَن عصاه كان في الغواية والردى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عبد الله ، يا من غابت عنه شمس هذه الأيام ولم يقضها إلا في المعاصي والآثام، يا من ذهبت عليه مواسم الخيرات والرحمات وهو منشغل بالملاهي والمنكرات، أما رأيت قوافل الحجاج والمعتمرين ؟! أما رأيت تجردَ المحرمين، أما سمعت صوت الملبين المكبرين المهللين؟! أما رأيت جموع المتعبدين في الأيام العشر الفاضلة؟ وأكفّ الراغبين، ودوي التالين وكثرة الصائمين ودموعَ التائبين؟! فما لك قد مرّت عليك خير أيام الدنيا على الإطلاق وأنت في الهوى قد شُد عليك الوثاق؟!.فلم تكن بين ركب الحجيج الملبين, ولم تكن بين الذاكرين الصائمين العابدين .
يا من راح في المعاصي وغدا، يقول: سأتوب اليوم أو غدًا، يا من أصبح بالشهوات محبوسًا مقيدًا، تذكر ليلة تبيت في القبر مفردًا، وبادر بالمتاب ما دمت في زمن الإنظار، واستدرك فائتًا قبل أن لا تُقال العثار، وأقلع عن الذنوب والأوزار، واعلم أن الله يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار.
ويا من تقربت في الأيام الخالية بأنواع الطاعات والعبادة بين ذكر وصيام وقيام وتلاوة ورفادة ، إلزم طريق الخير والاستقامة، وداوم العمل فلست بدار إقامة، واحذر العجب والرياء فربّ عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية .
عباد الله، أنتم في الدنيا أغراضُ المنايا، وأوطان البلايا، فاغتنِموا زمنَكم، وجاهدوا أنفسَكم، فإنّ المجاهدة بضاعة العُبَّاد ورأسُ مال الزُهَّاد ومدارُ صلاح النفوس .
المرفقات

ماذا بعد الحج.docx

ماذا بعد الحج.docx

المشاهدات 2939 | التعليقات 1

فتح الله عليك شيخ عبدالرحمن على وقفاتك الطيبة وتساؤلاتك الواقعية بارك الله فيك ونفع بك ! اسأل الله تعالى أن يتقبل من الجميع وأن يثبت الكل وأن يختم بالصالحات أعمالنا وأعمالكم وكل الإخوة المشاركين!