ماذا ( إذا كنز الناس الذهب والفضة ) ( 2 )
د. عبدالله بن حسن الحبجر
ماذا ( إذا كنز الناس الذهب والفضة ) ( 2 )
( بقية شرح الحديث ) ألقيت في تأريخ 14 / 1 / 1417 هـ
الحمد لله الذي أنعِم على عباده بدينِه القويم وشِرعته، وهداهم لاتِّباع سيِّد المُرسلين والتمسُّك بسُنَّته، وأسبغَ عليهم من واسعِ فضلِه وعظيم رحمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُخرِج الحيَّ من الميت، ويُخرِج الميتَ من الحيِّ، يُسبِّح له الليلُ إذا عسعسَ والصبحُ إذا تنفَّس، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ المُرسلين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمةَ، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها الناس: اتقوا الله حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، واعلموا أن أحسنَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهَديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.
وعليكم بجماعة المُسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم شذَّ في النار ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾
معاشر المسلمين:
خرج الإمام أحمد من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ، وأسألك قلباً سليماً وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شرما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب).
أيها المسلمون: في جمعة مضت كان الحديث حول جمل مباركة من هذا الحديث واستكمالاً لذلك فإن قوله صلى الله عليه وسلم (وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً) يدل على أن القلب واللسان هما عبارة عن الإنسان كما يقال( الإنسان بأصغريه قلبه ولسانه).
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
فمن استقام قلبه ولسانه استقام شأنه كله، فالقلب السليم هو الذي ليس فيه شيء من محبة ما يكرهه الله. فدخل في ذلك سلامته من الشرك الجلي والخفي، ومن الأهواء والبدع والفسوق والمعاصي صغيرها وكبيرها الظاهرة والباطنة، كالرياء والعجب، والغل والغش والحقد والحسد وغير ذلك.
وهذا القلب السليم هو الذي لا ينفع يوم القيامة سواه، قال تعالى: ( يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم)
عباد الله: سلامة الصدور من الرياء ومن الغل والحسد والغش والحقد وتطهيرها من ذلك أفضل من التطوع بأعمال الجوارح. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "ما بلغ عندنا ما بلغ بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسلامة الصدور".
وأما سخاوة النفس والنصيحة وكثر أعمال الجوارح مع تدنيس القلب بشيء من هذه الأوضار فلا تزكو معها.
وحاله كزرع في أرض كثيرة الآفات لا يكاد يسلم ما ينبت فيها .
وأما اللسان الصادق فهو من أعظم المواهب من الله والمنح.
روى أبو نعيم بإسناده، أن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما كان جالساً، فأقبل إليه رجل حميري فقال عبدالله (قد أتاكم أعرف من عليها)
فلما جلس قال عبدالله: أخبرنا عن الخيرات الثلاث، والشرات الثلاث. قال نعم:
الخيرات الثلاث: لسان صدوق وقلب نقي وامرأة صالحة.
والشرات الثلاث: لسان كذوب وقلب فاجر وامرأة سوء.
فقال عبدالله: قد قلت لكم .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان).
فالكذب أساس النفاق الذي بني عليه ، كما أن الصدق أساس الإيمان قال ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الكذب لا يصلح في جدّ ولا هزل " ثم تلا قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)
وقال كعب بن مالك: " إن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقاً ، وإنما نجاني الله بالصدق ".
قال بعضهم: " حقيقة الصدق أن يصدق العبد في موطن يرى أنه لا ينجيه إلا الكذب.
كان ربعي بن خراش موصوفاً بالصدق ، يقال: إنه لم يكذب قط.
وكان له ابنان عاصيان للحجاج ، وكان يطلبهما فقدما على أبيهما فبعث الحجاج إلى ربعي وقال: سيعلم بنو عبس أن شيخهم اليوم يكذب "
فقال له: " أين ابناك " قال: تركتهما في البيت والله المستعان " فقال الحجاج " قد عفونا عنهما بصدقك " .
ومتى طًهِّر اللسان من الكذب ، طُهِّر من غيره من الكلام السيء المحرم واستقام حال العبد كلِّه ، ومتى لم يستقم اللسان ، فسد حال العبد كله .
في سنن ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قلنا يا رسول الله: من خير الناس ؟
قال: (ذو القلب المخموم واللسان الصدوق) قلنا: قد عرفنا اللسان الصدوق ، فما القلب المخموم ؟ قال: (هو التقي النقي ، الذي لا إثم فيه ولا غل ولا بغي ولا حسد).
أيها المسلمون:
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث (وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم) فهذا سؤال جامع لطلب كل خير.
والاستعاذة من كل شر ، سواء علمه الإنسان أو لم يعلمه.
وهذا من الأدعية الجامعة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء.
بل كان يأمر بها كما خرّج الإمام أحمد وابن ماجه وابن حبان من حديث عائشة رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا الدعاء: ( اللهم إني أسألك من الخير كله ، عاجله وآجله ما علمت من وما لم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله ، عاجله وآجله ما علمت منه ومالم أعلم).
اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبدك ونبيك وأعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ونبيك ، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، وأسألك ما قضيت لي من قضاء أن تجعل عاقبته رشداً)
وسمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ابناً له يدعو يقول: ( اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونحواً من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسها وأغلالها ، فقال: لقد سألت الله خيراً كثيراً وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن سيكون قوم يعتدون في الدعاء. وقرآ هذه الآية: " ادعو ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين " وإن بحسبك (يعني يكفيك) أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل) أخرجه أبو داود وأحمد وغيرهما وذكره الألباني في صحيح الجامع.
اللهم اهدنا جميعاً صراطك المستقيم ، وجنبنا برحمتك عذاب الجحيم ، وثبتنا على دينك القويم ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ....
أما بعد: فيا عباد الله
ففي قوله صلى الله عليه وسلم ( واستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب ).
الدعاء بالاستغفار ، وأنه خاتمة الأعمال الصالحة .
وقوله (استغفرك لما تعلم) يشمل جميع ما يجب الاستغفار منه ، من ذنوب العبد ، وقد لا يكون العبد عالماً بذلك ، فإن من الذنوب ما لا يشعر العبد بأنه ذنب بالكلية، كما في الحديث المرفوع: (الشرك أخفى في هذه الأمة من دبيب النمل على الصفا. قالوا فكيف نقول يا رسول الله ؟ قال: قولوا (اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ، ونستغفرك لما لا نعلم ).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ( اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت).
ومن الذنوب ما ينساه العبد ولا يذكره وقت الاستغفار ، ويحتاج العبد إلى الاستغفار عام من جميع ذنوبه ، ما علم منها ومالم يعلم والكل قد علمه الله وأحصاه.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (واستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب).
قال الله تبارك وتعالى: (يوم يبعثهم الله جميعاً فينبّئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه).
قال إبراهيم التيمي: " لأنا على ذنوبي التي لا أذكرها ، أخوف مني على الذنوب التي أذكرها، لأني استغفر الله من التي أذكرها ".
عباد الله: من أهمته ذنوبه صارت نصب عينيه ولم ينسها ، ومن لم تهمه ذنوبه هانت عليه فنسيها فلم يذكرها إلى يوم يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى.
إذا نشر ديوان السيئات ، ضجّ أرباب الجرائم من صغارها قبل كبارها ويقولون: ( يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً ).
قال ابن مسعود رضي الله عنه : " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا ".
قال الفضيل بن عياض: " بقدر ما يصغر الذنب عنك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله ".
وقد كان سلف الأمة يخافون ذنوبهم خوفاً عظيماً فقد ركب ابن سيرين الدين فقال: " هذا بذنب أذنبته منذ أربعين سنة، قلت لرجل: يا مفلس. فَذُكِرَ ذلك لأحد السلف فقال: " قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أُتو ، وكثرت ذنوبنا فلم نعرف من أين نُؤتى "
ما للمذنبين أحد يرجعون إليه غير الله ، وصدق الله إذ يقول: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله).
ما يأمل الخطّاؤون إلا رحمة من أسبل على خطاياهم ذيل الكرم فسترها ، لولا أن حلمه وَسِع الخلق لهلكوا.
نسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا جميعا ، وبعفوه وكرمه أن يتجاوز عنّا ، وأن يغفر لنا ما أسررنا وما أعلنا ، وما قدّمنا وما أخّرنا ، سبحان المقدّم والمؤخّر ، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.