ماذا ( إذا كنز الناس الذهب والفضة ) ( 1 )
د. عبدالله بن حسن الحبجر
بسم الله الرحمن الرحيم
ماذا ( إذا كنز الناس الذهب والفضة ) ( 1 )
ألقيت في تأريخ : 23 / 12 / 1416 هـ
الحمد لله الذي خلق الخلقَ بقدرته، ومَنَّ على من شاء بطاعته، وخذلَ من شاء بحكمته، فسبحان الله الغني عن كل شيءٍ، لا تنفعه طاعةُ من تقرَّب إليه بعبادته، ولا تضرُّه معصيةُ من عصاه لكمال غِناه وعظيم عزَّته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلاهيَّته، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه خيرتُه من خليقته، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى بدوام الطاعات، وهجر المُحرَّمات؛ فقد فاز من تمسَّك بالتقوى في الآخرة والأولى، وخابَ وخسِرَ من اتَّبعَ الهوى.
معاشر المسلمين:
كثير من الناس يتساءلون ، وربما كانوا حين التساؤل حيارى .
يتساءلون في وقت كثرت فيه الأموال ، في وقت تنوعت فيه الأرزاق ، في وقت تعددت فيه السبل لجمع المادة .
سؤالٌ جدُّ مهمٌ ،
ماذا إذا كنز الناس الذهب والفضة ؟ ماذا إذا ارتفعت الأرصدة ؟
ورأى البعض أرقاماً فلكية أو سمع عن كشوفات خيالية ، أبانها وأظهرها وأوضحها وجلّاها للناس ما يرونه من قصور مشيدة أو مراكب فخمة ، أو فرش ومجالس ناعمة وفيرة في جوّ دافئ والناس في زمهرير البرد ، أو بارد ولطيف في وقت الحر الشديد.
يعود السؤال ويتكرر مرة أخرى ، ماذا إذا رأينا كل ذلك ؟
هل نوجه السؤال إلى عامل في معمله؟ أم إلى تاجر في متجره ؟! أو موظف في وظيفته ، أم إلى صاحب عقار في عقاره؟! أم نترك هؤلاء جميعاً . ونتوجه إلى رجال الأعمال؛ لأنهم أكثر مالاً وأوسع تجربة
أيها الأخوة : كأني بالبعض قد بت في هذا السؤال وأجاب جواباً يراه صواباً .
ولكن سيتغير كل ذلك ويتبدل حينما نوجه السؤال إلى من نتفق جميعاً بلا استثناء في أخذ الجواب السديد عنه ، نتفق جميعاً في أنه الناصح الأمين والرؤوف الرحيم .
نوجه السؤال إلى حبيبنا وقدوتنا ، إلى نبينا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم
ماذا يا رسول الله إذا كنز الناس الذهب والفضة
جاء الجواب فيما رواه الإمام أحمد من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات :
اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك ، وأسألك قلباً سليماً ، وأسألك لساناً صادقاً وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب )
خرجه الترمذي مختصراً ، وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه وقال صحيح على شرط مسلم وافقه الذهبي.
وله طرق متعددة عن شداد بن أوس رضي الله عنه .
وللحديث طرق عديدة ، وأقل أحواله أن يكون معها حسناً والله أعلم ، إلا أنه يحمل معاني صحيحة ، وعبارات لها شواهد من القرآن والسنة.
فقوله صلى الله عليه وسلم ( إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم هؤلاء الكلمات )
إشارة إلى أن كنز هذه الكلمات ، أنفع من كنز الذهب والفضة.
فإن هذه الكلمات نفعها يبقى ، والذهب والفضة يفنى ، قال الله تعالى: ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخيرٌ أملاً )
وقال : ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق )
وقد رُوي أن سليمان بن داود عليهما السلام مرّ في موكبه ومعه الإنس والجن بحرث فقال الحرّاث: لقد أوتي ابن داود ملكاً عظيماً فأتاه سليمان فقال له : تسبيحة واحدة خير من ملك سليمان ، لأن التسبيحة تبقى وملك سليمان يفنى.
وفي الحديث المشهور عن ثوبان : أنه لما نزلت هذه الآية ( والذين يكنزون الذهب والفضة ) فقال صلى الله عليه وسلم : ( تباً للذهب والفضة ).
فقالوا يا رسول الله فما نتخذ ؟ قال: ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً ، ولساناً ذاكراً وزوجة صالحة تعين أحدكم على إيمانه ) أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد وأخرجه الطبراني وحسّنه الألباني.
قال بعضهم : إنما سمّي الذهب ذهباً لأنه يذهب ، وسمّيت الفضة فضة لأنها تنفض ، يعني تذهب بسرعة فلا بقاء لها.
فمن كنزهما فقد أراد بقاء ما لا بقاء له ، فإن نفعهما ما هو إلا بإنفاقهما في وجوه البر وسبل الخير.
قال الحسن: " بئس الرفيق الدرهم والدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك ، فما داما مكنوزين فهما يضران ولا ينفعان ، فإنما نفعهما بإنفاقهما في الطاعات.
وفي قول الله جلّ شأنه: ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) ذمّ ووعيد لمن يمنع حقوق ماله الواجبة من الزكاة وصلة الرحم وقرى الضيف والإنفاق في النوائب.
وقد ورد الشرع بالأمر باكتناز ما يبقى نفعه بعد الموت من الإيمان والأعمال الصالحة والكلمات الطيبة. فإن نفع ذلك يبقى وبه يحصل الغنى الأكبر قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( نعم كنز الصعلوك البقرة وآل عمران يقوم بهما من آخر الليل ، وآخر سورة البقرة من كنز تحت العرش ، أعطيت هذه الأمة ، مع سورة الفاتحة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم كنز من كنوز الجنة ).
أخرجه الترمذي وأحمد وأبو يعلى ، وابن أبي عاصم والطبراني في الكبير وغيرهم وصححه الألباني.
وقوله صلى الله عليه وسلم ( أسألك الثبات في الأمر) المراد بالأمر: الدين والطاعة.
فنسأل الله الثبات عليهما وإلى الممات
وتأملوا قوله تعالى: ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) فالذين قالوا ربنا الله كثير ، ولكن أهل الاستقامة الحقة قليل. كان عمر يقول في خطبته ( اللهم اعصمنا بحفظك ، وثبتنا على أمرك). فالاستقامة والثبات لا قدرة للعبد عليها بنفسه، فلذلك يحتاج أن يسأل ربه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " فقيل له في ذلك فقال: " إن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه "
أخرجه الترمذي وأحمد وأبو يعلى وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الألباني هو على شرط مسلم.
وفي رواية للترمذي " قلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ فقال نعم: ثم ذكر الحديث "
بربكم يا عباد الله
كيف يأمن على نفسه من قلبه بين أصبعين ؟
كيف يطيب عيش من لا يدري بم يختم له ؟
كان بعض الصالحين يسرد الصيام ، فإذا أقطر بكى وقال ( أخشى أن يكون حظي منه الجوع والعطش) وفي الصحيح : " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب "
كم من عامل يعمل الخير ، إذا بقي بينه وبين الجنة ذراع ، وشارف مركبه ساحل النجاة ، ضربه موج الهوى فغرق.
كم أهلك قبلك مثلك (قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً)
كان بعض الصالحين من السلف يبكي ويطيل البكاء ويقول (أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي)
قال أبو الدرداء رضي الله عنه (ما أهون العباد على الله إذا عصوه)
والعبد يحتاج إلى الثبات طوال حياته ، وأحوج ما يحتاج عند مماته
وفي الحديث الصحيح " لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله "
ويحتاج العبد أيضاً إلى الثبات بعد الممات قال تعالى ( يثبت الله الذين آمنوا بالقلب الثابت في الحياة الدنيا والآخرة) وفي الصحيح (أنها نزلت في سؤال القبر ، يسأل المؤمن في قبره فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله) وفي سنن أبي داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت يقول " سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" صححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه النووي والألباني.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث شداد (والعزيمة على الرشد) العزيمة مبدأ الخير فإن الإنسان قد يعلم الرشد ، وليس له عزم ، فإذا عزم على فعله أفلح .
والعزيمة هي القصد الجازم المتصل بالفعل ، والعبد دائماً يحتاج إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه ، في تحصيل العزم ، وفي العمل بمقتضى العزم بعد حصوله قال الله تعالى ( فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)
وأما الرشد فهو طاعة الله ورسوله قال تعالى (ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون)
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته (من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى)
فمن لم يكن رشيداً فهو إما غاوٍ وإما ضال .
قال أبو حازم (إذا عز العبد على ترك الآثام أتت الفتوح يشير إلى ما يفتح عليه من تيسر الإنابة والطاعة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أقول قولي هذا .....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ... أما بعد:
فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك) وهذا كما وصّى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً أ ن يقوله في دبر كل صلاة (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم وصححه الألباني
فهذان أمران: أحدهما شكر النعم وهو مأمور به، قال تعالى (واشكروا لي ولا تكفرون) والشكر يكون بالقلب واللسان وبالجوارح
فالشكر بالقلب الاعتراف بالنعم للمنعم ، وأنها منه وبفضله ، والشكر باللسان الثناء بالنعم وذكرها وتعدادها وإظهارها ، قال تعالى (وأما بنعمة ربك فحدث)
وفي حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما المرفوع (التحدث بالنعم شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله ، والجماعة بركة والفرقة عذاب) أخرجه أحمد والبيهقي وغيرهما وحسنه الألباني وغيره .
وقال عمر بن عبدالعزيز: ذكر النعم شكرها وكان يقول في دعائه (اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمك كفراً وأن أكفرها بعد معرفتها وأنساها فلا أثني بها)
والشكر بالجوارح أن لا يستعان بالنعم إلا على طاعة الله عز وجل ، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه قال تعالى (اعملوا آل داود شكراً) قال بعض السلف لما قيل لهم هذا: لم تأت عليه ساعة إلا وفيها مصلّ.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتورم قدماه ويقول (أفلا أكون عبداً شكوراً).
وأما الأمر الثاني بعد شكر النعمة يا عباد الله فهو حسن العبادة
وحسنها إتقانها والإتيان بها على أكمل وجوهها ، وإلى هذا أشار عليه الصلاة والسلام لما سأله جبريل عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك)
وكان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه. فإن القليل مع الإحسان والإتقان أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان. قال بعض السلف: " صلاة ركعتين في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه".
وقال بعض السلف: ( لا يقل عمل مع تقوى ، وكيف يقل ما يقبل؟!!)
يشير إلى قوله تعالى (إنما يتقبل الله من المتقين ) فمن اتقى في العمل قبله منه ، ومن لم يتّق فيه لم يقبله منه .
والتقوى في العمل أن يأتي به على وجه إكمال واجباته الظاهرة والباطنة وإن ارتقى إلى الإتيان بآدابه وفضائله كان أكمل.
أيها الأخوة في الله
بقي في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام " وأسألك قلباً سليماً ، وأسألك لساناً صادقاً ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علاّم الغيوب"
غير أن المجال لا يتسع للحديث عنها هنا فيترك إلى حينه في جمعة أخرى إن شاء الله.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ....
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .....
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلوباً سليمة ، وألسنة صادقة ونستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علّام الغيوب
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ........