مؤلفات الشيخ العلامة: بكر أبو زيد رحمه الله doc

المشاهدات 4958 | التعليقات 1

اللهم اغفر لبكر.. وارفع درجته في المهديين د. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف


فارق الشيخ العلاَّمة بكر بن عبدالله أبو زيد -رحمه الله- هذه الدنيا نهار يوم الثلاثاء الموافق 27/1/1429هـ، فصُلِّي عليه ودُفن بعد العشاء في مقبرة الدرعية في الرياض، وقد كانت وفاته إثر مرض لازمه بضع سنين، وقد شهد الصلاةَ عليه ودفنَه جموع من أهل العلم والفضل والصلاح.


- عاش العلاّمة بكر سنيَّ حياته مجانباً الشهرة، مُؤْثِراً الخمول، ولسان حاله يقول: الشهرة آفة وكلٌّ يتحرّاها، والخمول راحة وكلٌّ يتوقّاها[1]، مع أن الشيخ العلامة بكراً قد ولي القضاء في المدينة النبوية (1388-1400هـ)، وأمَّ حيناً من الدهر في المسجد النبوي، ثم صار وكيلاً لوزارة العدل، ثم رئيساً للمجمع الفقهي.


كان من أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء، وهيئة كبار العلماء، وكان متعففاً شجاعاً، أبيَّ النفس، كريم الخصال، زاهداً في المناصب والأعطيات، وما أجمل ما سطّره -قدّس الله روحه- قائلاً: ((من أعظم أسباب الفوز والنصر: الزهد في المناصب والولايات، والكف عن زخرفها؛ فمسكين من يتطلع إليها ويقول: أنا لها، ومغبون -والله- من دفع ثمنها مُقدّماً بالتنازل عن شيء من دينه، والملاينة على حساب علمه ويقينه، وكل امرئ حسيب نفسه))[2].


وقال أيضاً: ((فهل يعتبر من ابتُلوا بالتسول على مستوى رفيع، ويتنمّر على معارفه وإخوانه، والرفعاء منهم يعلمون أنه في الظاهر مطاع متبوع، وهو في الباطن عبدٌ تابع ذليل مطيع. على أن الأرض لا تخلو من المتأسِّين بالصالحين، الذين تجردوا من هذه الحظوظ))[3]، ونحسب أن أبا عبدالله من تلك الصفوة الباقية.


وقال العلامة بكر: ((وقد كان شيخنا محمد الأمين الشنقيطي المتوفَّى في 17/12/1393هـ -رحمه الله- متقللاً من الدنيا، وقد شاهدته لا يعرف فئات العملة الورقية، وقد شافهني بقوله: لقد جئت من (شنقيط) ومعي كنز، قلَّ أن يوجد عند أحد، وهو (القناعة) ولو أردت المناصب لعرفت الطريق إليها..))[4].


- فَتَحَ اللهُ -تعالى- على شيخنا بكر في باب التصنيف والتأليف، فعكف على تحرير الرسائل، وتحقيق القضايا، ودوَّن المؤلفات النفيسة في الفقه، والاعتقاد، ومصطلح الحديث، وسائر الفنون، ولقد أضحى تأليفه -طيّب الله ثراه- أنموذجاً يُحتذى ومناراً يُقتدى، فلقد تميّزت مصنفاته بحسن اختيار المسائل، وعمق البحث، وبلاغة الأسلوب، وفصاحة العبارة، وسعة الاطِّلاع، وقوة البحث والمطالعة.


فإن الناظر -مثلاً- في كتابه (معجم المناهي اللفظية) لينبهر من سعة اطِّلاعه، وظهور جَلَده وعمق تحقيقه، وجمال أسلوبه؛ فقد حوى هذا المعجم الفريد خمسَمائة وألفاً من الألفاظ والمصطلحات، وقد استخرجها العلامة بكر من المطولات في التفسير والحديث والفقه والتاريخ وسائر الفنون، وطالع كمّاً هائلاً من كتب هذا العصر وأنواع الدوريات وغيرها، ثم أوْلى هذه الألفاظ حقَّها من الدراسة والتحقيق والتوثيق. ومع هذه الجهود التي ينوء بها أولو القوة من الباحثين والمحققين، إلا أنك لا ترى في هذا المعجم، ولا في سائر مؤلفاته لغة الأَثَرة، أو حديث الذات، مثل: أنا، ولي، وقلت.. ونحوها، بل التواضع وهضم النفس هو السائد على تلك المصنفات.


كما يُلحظ في مؤلفاته حرصُه التام على إظهار السنَّة، وعنايتُه الفائقة بالألفاظ الشرعية، واحتفاؤه بلسان العرب، وحزمه تجاه الألفاظ المحدَثة والمولَّدة.


- لقد غلب على كثير من علماء قلب الجزيرة العربية قلة التأليف، وندرة التصنيف؛ تواضعاً، واشتغالاً بالتدريس في حِلَق الجوامع، ونحو ذلك، لكنّ بكراً -مع إخباته وتواضعه- قد أدرك أهمية التصنيف، وعظيم أثره، فحرَّر وعلَّق، وكتب وحقَّق، وها هي ذي مؤلفاته البديعة ملء السمع والبصر، ورحم الله ابن الجوزي إذ يقول: ((رأيتُ من الرأي القويم أنَّ نفْع التصنيف أكثر من نفْع التعليم بالمشافهة؛ لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقاً لا يُحْصَوْن ما خُلقوا بعدُ، فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وُفِّق للتصنيف المفيد؛ فإنه ليس كل من صنَّف صنّف، وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يُطْلِع الله -عز وجل- عليها من شاء من عباده، ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فُرِّق، أو يرتِّب ما شُتِّت، أو يشرح ما أُهْمِل، هذا هو التصنيف المفيد))[5].


- جاهد العلامة بكر أبو زيد بقلمه ولسانه، وسخَّر قلمه في الذبِّ عن حرمات الإسلام، كما عالج نوازل عصره ومستجدات أهل زمانه كما هو بيِّن في كتابه (فقه النوازل).


يقول ابن تيمية في شأن هذا الجهاد: ((مجاهدة الكفار باللسان مشروعة من أول الأمر إلى آخره؛ فإنه إذا شُرِع جهادهم باليد فباللسان أَوْلى))[6].


وقال أيضاً: ((وجوب بيان الإسلام وإعلامه ابتداءً ودفعاً لمن يطعن فيه أَوْلى من جهاد الكفار بالسيف ابتداءً ودفعاً))[7].


فسطَّر العلامة بكر (الإبطال) في نقض مقالة دعاة وحدة الأديان، وصنَّف (حراسة الفضيلة) في هتك دعاة الرذيلة، كما ألَّف في التحذير من المدارس الأجنبية، وكشف كيدها وإفسادها، ودوَّن رسالة في التحذير من أعياد الكافرين ونحوها من الأعياد المبتدعة، وسمَّاها (عيد اليوبيل بدعة في الإسلام)، وتصدَّى لأهل الأهواء والبدع كما في كتبه (تحريف النصوص من مآخذ أهل الأهواء في الاستدلال) و(براءة أهل السنة) وغيرها.


- لم يكن العلامة بكر مجاملاً ولا غافلاً عمّا وقع من متسنِّنة هذا العصر من تجاوزات ومآخذ، فإنه لما رأى تحزباً للجماعات والحركات، ألّف رسالته (حكم الانتماء)، ولما استحوذ وباء التصنيف، والولوغ في أعراض العلماء والدعاة، حرر رسالته (التصنيف بين الظن واليقين)، ولما أصابت لوثة الإرجاء بعض المنتسبين لأهل السنة، وظهر من خلال كتب ورسائل؛ تصدّى لهم -مع بقية أعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية- عبر فتاوى محرَّرة في نقد هذه المؤلفات والتحذير منها، ولما رأى إغراقاً في مسألة دعاء ختم القرآن ألَّف رسالة صغيرة في مرويات ختم القرآن، وبيَّن عدم مشروعية ذلك.


بل إنّه -رحمه الله- تعقَّب هذا الوصف ((اللجنة الدائمة)) مع أنه من أعضائها[8].
- ومن جوانب خصاله المغمورة في ثنايا كتبه ما كان عليه من قوة الحجة وسرعة البديهة، كما في هذه الواقعة التي دوَّنها -بشأن الرفض والانقباض من الجديد- حيث قال: ((ولما دخلت (عمّان البلقاء) عام 1407هـ، أراد بعض الحضور التنكيت على النجديين بأنهم حرّموا (الهاتف) لأنه سحر، فقلتُ: على رِسْلِكم؛ فإن من أوابد الشاميين تحريم المطابع لشيء فيه آية من القرآن العظيم؛ لأن الحروف كانت بواسطة الرصاص المذاب، ولا يجوز تعريض القرآن للنار، بل صدرت بالتحريم فتوى من (المشيخة التركية) كما في ((تاريخ مطبعة بولاق)). ومن أوابدهم: تحريم القهوة والشاي، وإباحة الدخان، كما ذكر الرحيباني الحنبلي رسالة لبعض الشاميين في ذلك في كتابه ((مطالب أولي النهى بشرح غاية المنتهى)). وفي مصر هُجِرت السيارة، وكان لا يركبها إلا السوقة، وهكذا))[9].


والعلامة بكر -فيما نحسبه- إمام سنَّة وعالم رباني، فلم تعصف به المتغيرات، أو تجرفه التحولات، كما كان صاحب دعوات ومناجاة لله رب العالمين، كما يُلْمَح في مؤلفاته الكثيرة، ومن ذلك: ما في مقدمة كتابه (التأصيل): ((اللهم امْنُنْ -وأنت المانُّ وحدك- على امرئ متذلِّل بين يديك، بصالح النية في العلم والعمل، والثبات على الإسلام والسنة إلى بلوغ الأجل[10].


فاللهم ارحم أبا عبدالله، وأكرم نُزُلَه، وارفع درجته في المهديين.


ـــــــــــــــــــــــــــــ
[1] قالها الروياني كما في طبقات الشافعية، للسبكي، 7/326.
[2] الجامع لسيرة ابن تيمية، ص: ق، ل. وانظر: حلية طالب العلم، ص 52 - 53.
[3] المرجع السابق.
[4] حلية طالب العلم، ص 12.
[5] صيد الخاطر، ص 207.
[6] الجواب الصحيح: 1/74.
[7] المصدر السابق: 1/75.
[8] انظر: معجم المناهي اللفظية، ص 641.
[9] تصحيح الدعاء، ص 424 - 425.
[10] التأصيل، ص 10.


المصدر: تأصيل