ليس بالإمكان أفضل مما كان!

احمد ابوبكر
1434/06/06 - 2013/04/16 02:52AM
إذا استطاع العقل إدراك "الخيارات" المتاحة في قضية ما، وكانت له القدرة على تصنيفها واختيار "الأفضل" منها، فهذا فيه دليل على قدرته كذلك على إدراك ما قد يكون "ممكنًا" وما قد يكون "مستحيلاً" من تلك الخيارات المراد إعمالها واقعًا؛ إذْ لا يُعقل أن يعرف المرء بأنه اتخذ أفضل القرارات، وسار على أحسن الخيارات من دون أن يعرف حدود المستحيل في قضيته المطروحة، والسبل والحلول المتاحة في اختياره لقراراته.

وقد تكون المسألة أكثر تعقيدًا في إدراكنا للخيارات، عندما يكون للقضية المطروحة -والواجب حلها- جذور تاريخية بآثار وعواقب آنية، بحيث لا يمكن استشراف مستقبل هذه المسائل والقضايا إلا من خلال استرجاعنا لذلك الماضي، والبحث فيه؛ لعلنا نجد ما يساعدنا على اختيار أفضل القرارات؛ إذْ إن الاهتمام بمراجعة الماضي واستدراك ما فات فيه من أحداث هدفُه الاستفادة في الحاضر، وبناء الآتي من المستقبل، وليس الغرض منه الافتخار بما تم إنجازه والرضا عن الذات، مع اتهام للبقية، وجَلد وتسفيه لكل مَن نختلف معه ولا نرى ما يقول ويفعل.

وبما أننا نتحدث عن الخيارات ومسألة اتخاذ القرار، فإننا نقول بأن الأمة قد أُصيبت في أقوالها وأفعالها -أفرادًا وجماعاتٍ- بالسلبية في تقييم ما مضى، والعجز في بناء ما هو قادم. والسبب في ذلك هو التمسك بالقدرة على إدراك ما كان ممكنًا، ثم بصواب القرار الذي اتُّخذ بناءً على ذلك الإدراك. إن هذا الادعاء قد يَعرف كذبَه وزيفَه العامةُ من الناس؛ فكيف بالنخبة والمثقفين من أبناء الأمة؟! فحال الأمة وتشرذمها وقلة تماسكها، مع وجود خلل في تجميع أفرادها، يُضاف إلى ذلك وضوحُ تراجعها وتخلفها؛ لهو دليل كافٍ على وجود مأساة في اتخاذ القرار؛ حيث تنطوي هذه المأساة على تساهل وضعف شديدَينِ في فهم القضية المراد تناولها، وبسوء إدراكٍ للعواقب والخيارات المتاحة، مما عجل باتخاذ قرار خاطئ، وبالتالي الحصول على نتائج متشائمة معروفة لدى العامة والخاصة.

إذا عُرف هذا، فإن جملة (ليس بالإمكان أفضل مما كان) هي جملة سلبية قد تنزل بالناس نحو الأسفل، في حين أراد بها أصحابُها الظهور في الأعلى. إنها جملة تجعل صاحبها كمَن يربط أرجله داخل أعماق البحر بحجر، ويُوهِم الناسَ بأنه قد قام بالمستحيل لكي يسبح إلى السطح، إنها جملة يُقصد بها التستُّر على الحالة التي يصل لها الفرد أو الجماعة من تخلف وعجز وتراجع، وذلك بإقناع النفس على أنها قد قامت بما يتوجب عليها واجتهدت قبل اتخاذ القرار، وبإيهام الغير على الكفاءة والحنكة، ولو أنه قُدِّر للناس بأن يكونوا مكانَهم ما وسعهم إلا اتباع نفس الطريق، واتخاذ نفس القرارات.

(ليس بالإمكان أفضل مما كان) هي جملة في المضارع أُريد بها البراءة من قرارات الماضي، فهي تُفيد الهروب نحو المستقبل؛ إذْ لا تكون معرفة الأفضل من القرارات إلا بمعرفة ما هي الأقل منها شأنًا أو ما هي أكثرها ضررًا. ثم إن الفاصل بين الممكن والمستحيل هو درجة فهمنا للقضية، ودرجة استغلالنا للوسائل المتاحة في تسييرنا للقضايا، مع محاولة تكييف القرارات واستشرافنا للمستقبل. أما أن تُتخذ قرارات عفوية، وأخرى ليست بالمدروسة أصلاً، وبعضها مقتصر على الفهم المنغلق، والاستيعاب الناقص، والانفراد بالرأي الضيق الموصل حتما إلى المآسي والكوارث من القرارات، ثم نحتج بعد ذلك بقولنا: (ليس بالإمكان أفضل مما كان)؛ فهذا هو عين السَّفَه، مع قلة في النباهة ورجاحة في الغباوة.

لسنا هنا كي نعلم الناس عملية اتخاذ القرار -وخاصة المسئولين منهم- ولكننا هنا لنقول رِفقًا بالممكن؛ فقد تماديتم في استعمال لفظ "المستحيل" إذا تعلق الأمر بالأفعال والقرارات التي كان يمكن لها أن تكون إيجابية؛ فالأمة لا تحتاج إلى قرارات انفعالية أو عفوية أو سطحية، بل إلى قرارات فاعلة. وأحد أوليات مراتب الإدراك في اتخاذ تلك القرارات هي طبيعة الأمة ذاتها؛ فهي خير أمة، كما قال الله عز وجل: ﴿كنتم خيرَ أُمةٍ أُخرِجتْ للناسِ تأمرونَ بالمعروفِ وتنهَوْنَ عنِ المنكَرِ وتؤمنونَ باللهِ﴾، ومن حكمة الله سبحانه ربطه هذه الخيرية بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر، ولا يكون أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلا بمعرفة ما هو المعروف وما هو المنكر؛ إذْ لا يجوز بحالٍ الأمر بشيء نشك في كونه معروفًا، أو ننهى عن شيء لم يثبتْ أنه منكر؛ فكذلك إذا تعلق الأمر بالقرار لزِمَ معرفة ما هو المناسب وغير المناسب حتى نختار الأفضل. تلك قاعدة أحسبها ضرورية في اتخاذ القرار، وتستوجب منا الوقوف عندها؛ لعلنا ندرك ما هو الأنسب من الخيارات، وما هو الممكن والمتاح لنا منها، قبل اتخاذ القرار الذي قد يُدمِّر بدلاً من أن يُعمِّر، وحينها فقط قد تصلح مقولة: (ليس بالإمكان أفضل مما كان)؛ وإلا فالعفوية والسطحية لم تكن يومًا من مقومات "الأفضلية" في شيء.

رمزي بن دبكة
المشاهدات 1136 | التعليقات 0