ليث الإسلام : نور الدين زنكي
أبو عبد الله الأنصاري
1435/11/04 - 2014/08/30 00:10AM
[align=justify]معاشر الناس : في ظل صراعات الناس على كراسي الحكم ، وتمكن التافهين من كثير منها تشتد الحاجة لتصفح سير ملوك العدل والاستقامة ، وهذه الأمة أمة ودود ولود لا يقتصر خيرها على أولها ، بل لا يزال الخير فيها حتى تقوم الساعة ، وفي أواسط القرن السادس الهجري – ورغم الانحراف الكبير الذي طرأ على الأمة حكاماً ومحكومين - تحدث التاريخ عن ملك من ملوك الإسلام وصفه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله : ( العدل المتبع للشريعة ذو القوة والأمانة ، المقيم للجهاد وللعدل ) ، إنه الملك نور الدين الشهيد الذي عرف به المؤرخ الإمام الذهبي بقوله : ( نور الدين صاحب الشام، الملك العادل، نور الدين، ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الاسلام، أبو القاسم، محمود بن الاتابك قسيم الدولة أبي سعيد زنكي بن الأمير الكبير آقسنقر، التركي السلطاني الملكشاهي ) ، من لا يعرف نور الدين محمود زنكي فحسبه ما قاله عنه ابن الاثير في تاريخه : طالعت السير، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريا منه للعدل ) وقال ابن خلكان : ( له من المناقب ما يستغرق الوصف ) ، قال الذهبي : ( كان دينا تقيا ) ، (ذا تعبد وخوف وورع) ( لا يرى بذل الاموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق، وفيه يقول أسامة :
( قال مجد الدين ابن الاثير : لم يلبس نور الدين حريرا ولا ذهبا، ومنع من بيع الخمر في بلاده ، وكان كثير الصوم، وله أوراد في الليل والنهار ) ( كان نور الدين مليح الخط، كثير المطالعة، يصلي في جماعة، ويصوم، ويتلو ويسبح، ويتحرى في القوت، ويتجنب الكبر، ويتشبه بالعلماء والاخيار، روى الحديث، وأسمعه بالاجازة، وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه، رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره ) ، أما نزاهته وعفافه عن الدنيا ف( يقول الموفق: كان يأكل من عمل يده ، ينسخ تارة ، ويعمل أغلاقا تارة ، ويلبس الصوف ، ويلازم السجادة والمصحف )، قال سبط الجوزي : كان له عجائز، فكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر - أي الأقفال -، فيبعنها له سرا، ويفطر على ثمنها ) وصفه ابن كثير بأنه كان : ( عفيف البطن والفرج مقتصدا في الانفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا ) قال ابن الاثير: ( وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها، وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئا، ولو مات جوعا ) ، و( طلبت زوجته منه، فأعطاها ثلاثة دكاكين، فاستقلتها، فقال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن ) أي مؤتمن عليه ، (حكى من صحبه حضرا وسفرا أنه ما سمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وكان يواخي الصالحين، ويزورهم، وإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوجهم بجواريه، وغالب ما تملكه من البلدان تسلمه بالأمان، وكان كلما أخذ مدينة، أسقط عن رعيته قسطا) .
ولما كان أمر المسلمين قبيل عهده في ضعف وضعة فقد كان الأمراء يبالغون في جباية الأموال من الناس وفرض الضرائب عليهم لسد حاجة الدولة والجند أما نور الدين فقد عني بتنمية موارد دولته بطرق صحيحة ليُغني الدولة بذلك عن ظلم الناس بأخذ الضرائب والجبايات الباطلة منهم وليتمكن من كفاية وكفالة المصالح العامة ورعاية طلبة العلم وذوي الحاجة فاعتنى عناية بالغة ببناء الأوقاف ورعايتها وفي ذلك يقول ابن كثير : ( وله أوقاف دارة على جميع أبواب الخير، وعلى الارامل والمحاويج ، وسمى مال المصالح ، ورتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وما أشبه ذلك ) ، وبذلك تمكن من رعاية وإنشاء المصالح العامة التي يحتاجها الناس قال الذهبي : (وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، واستخراج العين بأُحد دفنها السيل، وفتح درب الحجاز، وعمر الخوانق والربط والجسور والخانات والمدارس بحلب ودمشق وبعلبك والجوامع والمساجد، وسلمت إليه دمشق للغلاء والخوف، فحصنها، ووسع أسواقها ) ، ( وكذا فعل إذ ملك حران وسنجار والرها والرقة ومنبج وشيزر وحمص وحماة وصرخد وبعلبك وتدمر ) قال ابن كثير : ( وبنى بدمشق مارستانا – أي مستشفى -لم يبن في الشام قبله مثله ولا بعده أيضاً ) ، وبذلك فقد تمكن نور الدين من إبطال تلك الجبايات كلها حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية عنه : ( أسقطَ الكُلَفَ السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالاً عظيمةً جدًّا ) ، ثم قال شيخ الإسلام واسمعوا ما قال – يا رعاكم الله - : ( فزاد الله البركات ، وفَتحَ البلادَ ، وقَمعَ العدوَّ ، بسبب عدلِه وإحسانِه ) ، ويقول الذهبي : ( لم يترك في بلاده على سعتها مكساً ) وقال العماد: ( أكثر نور الدين عام موته من البر والأوقاف وعمارة المساجد، وأسقط ما فيه حرام، فما أبقى سوى الجزية والخراج والعشر، وكتب بذلك إلى جميع البلاد، فكتبت له أكثر من ألف منشور) ، بل ( وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم ، ويقول لهم : إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم ).
قال ابن كثير : ( ويقال إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس به في ملكه ، وفيها تخويف وتحذير شديد له يقول فيها :
الخطبة الثانية
أما أعظم اهتمامات العادل نور الدين الشهيد محمود زنكي على الإطلاق فهو الجهاد في سبيل الله وصفه الذهبي بقوله : ( وكان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد ، قل أن ترى العيون مثله ) ، وقال عنه شيخ الإسلام : ( وكان أعرف الناس بالجهاد ) ( وقال أبو الفرج بن الجوزي : جاهد، وانتزع من الكفار نيفا وخمسين مدينة وحصنا ) ، لقد كان أشد ما يقظ مضجع نور الدين احتلال الصليبين للشام واحتلال الشيعة الباطنية لمصر فكان أعظم ما يسعى إليه أمرين :
الأول : تطهير البلاد الشامية من الفرنجة النصارى الصليبيين وإعادة فتح بيت المقدس الذي استولوا عليه على حين ضعف من المسلمين .
والثاني : تطهير البلاد المصرية من الشيعة القرامطة الإسماعيلية العبيدين الملقبين زوراً وبهتاناً بالفاطميين ، إذ هم مطية النصارى وحميرهم إلى ديار الإسلام وهو أمر معروف عن الشيعة الروافض في كل زمان ومكان حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع اعداء الدين ولما كانوا ملوك القاهرة قويت النصارى وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر فى دولة أولئك الرافضة المنافقين ، وفى أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين ، فلما جاءت الغزاة المجاهدون إلى ديار مصر قامت الرافضة مع النصارى ، وجرت فصول يعرفها الناس حتى قتل صلاح الدين مقدمهم شاور ) ، وقد تم لنور الدين ما أراده قال شيخ الإسلام : ( فتح أكثر الشام واستنقذه من أيدى النصارى ثم فتح مصر فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية وأظهر فيها شرائع الاسلام حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام ) ، ويقول : ( هو الذي أقام الإسلام بعد استيلاء الافرنج والقرامطة على أكثر بلاده ، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية ) ، ( عز أهل الإسلام والسنة في زمنه وذل الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم ) ، قال المؤرخ الذهبي : ( وكسر الفرنج مرات، ودوخهم، وأذلهم ) ، ( وكان بطلا شجاعا، وافر الهيبة، حسن الرمي، وكان يتعرض للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير ) ، وكان قد ( عزم على فتح بيت المقدس، فتوفي ) قبل ذلك ، ومع كل ذلك فقد كان في غاية التواضع ، ( وقد قال له القطب النيسابوري : بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف ، فقال : ومن محمود حتى يقال هذا ؟ ! حفظ الله البلاد قبلي لا إله إلا هو ).
( وأظهر السنة بحلب ) ( وقمع الرافضة ) ، ( وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة ، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لان شعار الرفض كان ظاهرا بها ) .
وفي مدة قصيرة لا تتجاوز ثمانية وعشرين عاماً فعل الملك العادل نور الدين ما لم تفعله دولٌ في قرون ، صلح في نفسه ، واستقام فيما بينه وبين ربه ، فأصلح الله به أديان الناس وأصلح به دنياهم ، وكان ملكهم عزاً للإسلام ورحمة على الأنام وفي ذلك أعظم العبر( وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا به وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته ) ، وقد مر معنا شهادة ابن تيمية له بقوله : ( فزاد الله البركات ، وفَتحَ البلادَ ، وقَمعَ العدوَّ ، بسبب عدلِه وإحسانِه ).
[/align]
( قال مجد الدين ابن الاثير : لم يلبس نور الدين حريرا ولا ذهبا، ومنع من بيع الخمر في بلاده ، وكان كثير الصوم، وله أوراد في الليل والنهار ) ( كان نور الدين مليح الخط، كثير المطالعة، يصلي في جماعة، ويصوم، ويتلو ويسبح، ويتحرى في القوت، ويتجنب الكبر، ويتشبه بالعلماء والاخيار، روى الحديث، وأسمعه بالاجازة، وكان من رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه، رأى من لطافته وتواضعه ما يحيره ) ، أما نزاهته وعفافه عن الدنيا ف( يقول الموفق: كان يأكل من عمل يده ، ينسخ تارة ، ويعمل أغلاقا تارة ، ويلبس الصوف ، ويلازم السجادة والمصحف )، قال سبط الجوزي : كان له عجائز، فكان يخيط الكوافي، ويعمل السكاكر - أي الأقفال -، فيبعنها له سرا، ويفطر على ثمنها ) وصفه ابن كثير بأنه كان : ( عفيف البطن والفرج مقتصدا في الانفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا ) قال ابن الاثير: ( وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها، وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئا، ولو مات جوعا ) ، و( طلبت زوجته منه، فأعطاها ثلاثة دكاكين، فاستقلتها، فقال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي أنا فيه خازن ) أي مؤتمن عليه ، (حكى من صحبه حضرا وسفرا أنه ما سمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وكان يواخي الصالحين، ويزورهم، وإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوجهم بجواريه، وغالب ما تملكه من البلدان تسلمه بالأمان، وكان كلما أخذ مدينة، أسقط عن رعيته قسطا) .
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا * له فكل على الخيرات منكمش
أيامه مثل شهر الصوم طاهرة *من المعاصي وفيها الجوع والعطش
أما عدله في رعيته فحسبه أنه منشأ أول محكمة شرعية في الإسلام يقول ابن الاثير عنه: ( وهو أول من ابتنى دارا للعدل) ، قال ابن كثير : ( وكان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة، واتباع الشرع المطهر، ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه، ويجتمع إليه في ذلك القاضي والفقهاء والمفتيون من سائر المذاهب، ويجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق، الذي بالكشك، ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة، حتى يساويهم ) ( ويأمر بإزالة الحاجب والبوابين ) ، وكان يختار أمراءه وولاته على الناس لكن ( متى تشكوا من ولاته عزلهم ) قال ابن الأثير : رأى نور الدين رجلا يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه، فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم، وهو يزعم أن له على نور الدين حقا يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك ألقى ما بيده ، وأقبل مع خصمه ماشيا إلى القاضي الشهرزوري ، وأرسل نور الدين إلى القاضي أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم، فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة والحكومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال السلطان : إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - ولشرعه فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له.أيامه مثل شهر الصوم طاهرة *من المعاصي وفيها الجوع والعطش
ولما كان أمر المسلمين قبيل عهده في ضعف وضعة فقد كان الأمراء يبالغون في جباية الأموال من الناس وفرض الضرائب عليهم لسد حاجة الدولة والجند أما نور الدين فقد عني بتنمية موارد دولته بطرق صحيحة ليُغني الدولة بذلك عن ظلم الناس بأخذ الضرائب والجبايات الباطلة منهم وليتمكن من كفاية وكفالة المصالح العامة ورعاية طلبة العلم وذوي الحاجة فاعتنى عناية بالغة ببناء الأوقاف ورعايتها وفي ذلك يقول ابن كثير : ( وله أوقاف دارة على جميع أبواب الخير، وعلى الارامل والمحاويج ، وسمى مال المصالح ، ورتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وما أشبه ذلك ) ، وبذلك تمكن من رعاية وإنشاء المصالح العامة التي يحتاجها الناس قال الذهبي : (وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، واستخراج العين بأُحد دفنها السيل، وفتح درب الحجاز، وعمر الخوانق والربط والجسور والخانات والمدارس بحلب ودمشق وبعلبك والجوامع والمساجد، وسلمت إليه دمشق للغلاء والخوف، فحصنها، ووسع أسواقها ) ، ( وكذا فعل إذ ملك حران وسنجار والرها والرقة ومنبج وشيزر وحمص وحماة وصرخد وبعلبك وتدمر ) قال ابن كثير : ( وبنى بدمشق مارستانا – أي مستشفى -لم يبن في الشام قبله مثله ولا بعده أيضاً ) ، وبذلك فقد تمكن نور الدين من إبطال تلك الجبايات كلها حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية عنه : ( أسقطَ الكُلَفَ السلطانية المخالفة للشريعة التي كانت توجد بالشام ومصر والجزيرة، وكانت أموالاً عظيمةً جدًّا ) ، ثم قال شيخ الإسلام واسمعوا ما قال – يا رعاكم الله - : ( فزاد الله البركات ، وفَتحَ البلادَ ، وقَمعَ العدوَّ ، بسبب عدلِه وإحسانِه ) ، ويقول الذهبي : ( لم يترك في بلاده على سعتها مكساً ) وقال العماد: ( أكثر نور الدين عام موته من البر والأوقاف وعمارة المساجد، وأسقط ما فيه حرام، فما أبقى سوى الجزية والخراج والعشر، وكتب بذلك إلى جميع البلاد، فكتبت له أكثر من ألف منشور) ، بل ( وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم ، ويقول لهم : إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم ).
قال ابن كثير : ( ويقال إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس به في ملكه ، وفيها تخويف وتحذير شديد له يقول فيها :
مثِّل وقوفك أيها المغرور * يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين رحت مسلما * فاحذر بأن تبقى وما لك نور
أنهيت عن شرب الخمور وأنت في * كأس المظالم طائش مخمور
عطلت كاسات المدام تعففا * وعليك كاسات الحرام تدور
ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى * فردا وجاءك منكر ونكير ؟
ماذا تقول إذا وقفت بموقف * فردا ذليلا والحساب عسير ؟
وتعلقت فيك الخصوم وأنت في * يوم الحساب مسلسل مجرور
وتفرقت عنك الجنود وأنت في * ضيق القبور موسد مقبور
ووددت أنك ما وليت ولاية * يوما ولا قال الأنام أمير
وبقيت بعد العز رهن حفيرة * في عالم الموتى وأنت حقير
وحشرت عريانا حزينا باكيا * قلقا وما لك في الانام مجير
أرضيت أن تحيا وقلبك دارس * عافى الخراب وجسمك المعمور ؟
أرضيت أن يحظى سواك بقربه * أبدا وأنت معذب مهجور
مهد لنفسك حجة تنجو بها * يوم المعاد ويوم تبدو العور
فلما سمع نور الدين هذه الابيات بكى بكاء شديداً بالغاً ، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد ).إن قيل نور الدين رحت مسلما * فاحذر بأن تبقى وما لك نور
أنهيت عن شرب الخمور وأنت في * كأس المظالم طائش مخمور
عطلت كاسات المدام تعففا * وعليك كاسات الحرام تدور
ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى * فردا وجاءك منكر ونكير ؟
ماذا تقول إذا وقفت بموقف * فردا ذليلا والحساب عسير ؟
وتعلقت فيك الخصوم وأنت في * يوم الحساب مسلسل مجرور
وتفرقت عنك الجنود وأنت في * ضيق القبور موسد مقبور
ووددت أنك ما وليت ولاية * يوما ولا قال الأنام أمير
وبقيت بعد العز رهن حفيرة * في عالم الموتى وأنت حقير
وحشرت عريانا حزينا باكيا * قلقا وما لك في الانام مجير
أرضيت أن تحيا وقلبك دارس * عافى الخراب وجسمك المعمور ؟
أرضيت أن يحظى سواك بقربه * أبدا وأنت معذب مهجور
مهد لنفسك حجة تنجو بها * يوم المعاد ويوم تبدو العور
الخطبة الثانية
أما أعظم اهتمامات العادل نور الدين الشهيد محمود زنكي على الإطلاق فهو الجهاد في سبيل الله وصفه الذهبي بقوله : ( وكان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد ، قل أن ترى العيون مثله ) ، وقال عنه شيخ الإسلام : ( وكان أعرف الناس بالجهاد ) ( وقال أبو الفرج بن الجوزي : جاهد، وانتزع من الكفار نيفا وخمسين مدينة وحصنا ) ، لقد كان أشد ما يقظ مضجع نور الدين احتلال الصليبين للشام واحتلال الشيعة الباطنية لمصر فكان أعظم ما يسعى إليه أمرين :
الأول : تطهير البلاد الشامية من الفرنجة النصارى الصليبيين وإعادة فتح بيت المقدس الذي استولوا عليه على حين ضعف من المسلمين .
والثاني : تطهير البلاد المصرية من الشيعة القرامطة الإسماعيلية العبيدين الملقبين زوراً وبهتاناً بالفاطميين ، إذ هم مطية النصارى وحميرهم إلى ديار الإسلام وهو أمر معروف عن الشيعة الروافض في كل زمان ومكان حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وقد عرف العارفون بالإسلام أن الرافضة تميل مع اعداء الدين ولما كانوا ملوك القاهرة قويت النصارى وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر فى دولة أولئك الرافضة المنافقين ، وفى أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين ، فلما جاءت الغزاة المجاهدون إلى ديار مصر قامت الرافضة مع النصارى ، وجرت فصول يعرفها الناس حتى قتل صلاح الدين مقدمهم شاور ) ، وقد تم لنور الدين ما أراده قال شيخ الإسلام : ( فتح أكثر الشام واستنقذه من أيدى النصارى ثم فتح مصر فأزال عنها دعوة العبيديين من القرامطة الباطنية وأظهر فيها شرائع الاسلام حتى سكنها من حينئذ من أظهر بها دين الإسلام ) ، ويقول : ( هو الذي أقام الإسلام بعد استيلاء الافرنج والقرامطة على أكثر بلاده ، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية ) ، ( عز أهل الإسلام والسنة في زمنه وذل الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم ) ، قال المؤرخ الذهبي : ( وكسر الفرنج مرات، ودوخهم، وأذلهم ) ، ( وكان بطلا شجاعا، وافر الهيبة، حسن الرمي، وكان يتعرض للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير ) ، وكان قد ( عزم على فتح بيت المقدس، فتوفي ) قبل ذلك ، ومع كل ذلك فقد كان في غاية التواضع ، ( وقد قال له القطب النيسابوري : بالله لا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف ، فقال : ومن محمود حتى يقال هذا ؟ ! حفظ الله البلاد قبلي لا إله إلا هو ).
( وأظهر السنة بحلب ) ( وقمع الرافضة ) ، ( وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة ، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لان شعار الرفض كان ظاهرا بها ) .
وفي مدة قصيرة لا تتجاوز ثمانية وعشرين عاماً فعل الملك العادل نور الدين ما لم تفعله دولٌ في قرون ، صلح في نفسه ، واستقام فيما بينه وبين ربه ، فأصلح الله به أديان الناس وأصلح به دنياهم ، وكان ملكهم عزاً للإسلام ورحمة على الأنام وفي ذلك أعظم العبر( وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء لما قاموا من ذلك بما قاموا به وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته ) ، وقد مر معنا شهادة ابن تيمية له بقوله : ( فزاد الله البركات ، وفَتحَ البلادَ ، وقَمعَ العدوَّ ، بسبب عدلِه وإحسانِه ).
[/align]
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق