ليالي الرجاء
خالد الكناني
ليالي الرجاء
الحمد لله ربّ العالمين الذي له الخلق والأمر تبارك ربنا وتفضل علينا بهذا الشهر الكريم وبلغنا أواخره العشر، فنَحمدُ الله ونشكره ، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خيرُ من صام واعتكف وصلى وسجد ولربه تقرب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا .
أما بعدُ : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه وعلقوا به قلوبكم ورطبوا به ألسنتكم وأسالوا الله تعالى حاجاتكم فهذه الليالي هي ليالي الرجاء وهي ليالي السؤال وهي ليالي العفو والمغفرة وهي ليالي العطاء والرحمة وهي ليالي العتق من النار ، تقربوا إلى الله تعالى ينالكم قربه جل في علاه ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي، أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ "
أيها الصائمون : الله سبحانه وتعالى يمنح عباده فرصا للخير واوقاتا تتضاعف فيها الحسنات ولياليا مباركات غاليات ... فشهر رمضان موسم للخيرات والعشر الأواخر منه هبات وبركات وهي خير ليال العام وفيها ليلة القدر، خير من ألف شهر ، قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) } ، ليلة القدر فيها يفرق كل أمر حكيم ،وتكتب فيها الحوادث والتدبير ، يصل فيها الرب ويقطع ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويميت ويحيي ويسعد ويشقي وتجري أقلام القضاء والقدر، قال تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) } فعظموها بالقيام والدعاء والقراءة والصدقة والاعتكاف والاستغفار والتكبير ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَيَقُولُ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» ، وقالت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»
فاجتهدوا عباد الله في هذه الليالي طلبا لليلة القدر المباركة وتحروا خيرها وبركتها بكثرة الطاعات واهتدوا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها ، فقد كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» وقالت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»
أيها الصائمون : هذه ليالي المنافسة أكثروا من الصلاة وعليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين ،
وقد خاطب سبحانه وتعالى رسوله ومصطفاه بقوله تعالى : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا }
قيام الليل هو عادة الصالحين وشأنهم أوصى به رسول الله عليه وسلم
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ
هذه الليالي غاليات مباركات أكثروا فيها من الصلوات أحيوها بالذكر والدعاء والسجود لأرب الأرض والسماء فإن أقرب ما يكن العبد من ربه وهو ساجد ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»
يا من يريد القرب من الله ، والدخول من الريان والزوجات الحسان والنخل والرمان وفوق ذلك رؤية الرحمن اغتنم جوف الليل بالذكر ة والقرآن والصلاة.......جاء في الحديث { أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ }
عباد الله : الخشوع في الصلاة وتدبر الآيات والتضرع بالدعاء للرحمن في ساعات الليل يرجى فيها الاجابة فكيف بهذه الليالي المباركات لنتضرع إلى الله ونسأله خيري الدنيا والآخرة ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ»
أبشروا يا أهل القيام والصيام والصدقة والاحسان .
فعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الكَلاَمَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ )) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أيها الصائمون : للطاعات لذة لا يدركها كل الطائعين ولا يصل إليها كل السائرين فهي لا تنال إلا بالإخلاص والمجاهدة والصبر ولا يبلُغُها إلا أصحاب المقامات العالية ، والصلاة من أعظم اللذات عند المخبتين كما أنها أثقل شيء على المنافقين وقد قال أكمل الناس لذةً بالطاعة صلى الله عليه وسلم : (( وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَلَاةِ )) ومن دلائل اللذة بالصلاة طول القيام فيها ، يناجي المصلي ربه بالقرآن فلا يشعر بنفسه ، كما أخبرت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورً ... ))
أيها الصائمون : هذه العشر بين يديكم ولا ندري في عامنا القادم ندركها أم ننتقل من هذه الدار ... فشمروا واجتهدوا فيما بقي منها فإنها أرجى ما تكون فيها ليلة القدر فإنه عمل يسير بليل قصير وعقباه ثواب كبير وعطاء عظيم ، ولا تتكاسلوا فكلُّ ليالي العشر حريةٌ بها ، وأرجاها ليالي الوتر وفي كل ليلة لله عتقاء من النار .
اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات ووفقنا لاغتنام الأوقات بالصالحات
هذا وصلوا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه قال تعالى { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }