لمحات من سيرة الإمام البخاري (1)

[align=justify]لمحات من سيرة الإمام البخاري (1)
العيش مع عظماء الإسلام له جماله وبهاؤه، فالناظر في أخبارهم يجد عظيم ما بذلوه لرفعة هذا الدين، كما يجد حسن علاقتهم بالله عز وجل، وقوة عبادتهم، وروعة استقامتهم على شرعه سبحانه، وحسن أدبهم، ومن هؤلاء العظماء الذين نتعلم من لطيف شمائلهم، وكريم خصالهم: رجل مشهور بكتابه، ونسمع اسمه على المنابر، وفي الدروس العلمية، وفي المجالس بين الناس، وفي الإذاعات المرئية والمسموعة، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد اقترن اسمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتهر كتابه الذي أودع فيه أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم شهرة عظيمة بين الناس؛ حتى عدَّ العلماء كتابه من أصحِّ الكتب بعد كتاب الله تبارك وتعالى، فما اسم كتابه؟ ومن هو مؤلفه؟
أما اسم الكتاب فهو: (الجامع الصحيح المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسننه، وأيامه)، هذا الكتاب يا عباد الله معروف ومشهور بين الناس (بصحيح الإمام البخاري)، فمن هو البخاري؟ وما هي سيرته؟ وما هي مكانته؟ وكيف تبوأ هذه المكانة العظيمة؟ والمنزلة العلمية الرفيعة؟ وكيف حاز الذكر الحسن بين الناس؟ ولماذا أكب العلماء وطلبة العلم على كتابه هذا خاصة وبقية كتبه عامة؟ ونشروا علمه في الآفاق؛ حتى غدا إمامًا جليلًامن أئمة أهل السنة الكبار.
إنه الإمام المجتهد الجبل، درة العلماء، وأمير المؤمنين في الحديث، وعالم أهل زمانه، وفقيههم، ومحدثهم، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الـمُغِيرة بن بَرْدِزْبَه([1])، الجُعْفِيُّ مولاهم، أبو عبد الله البُخَاريُّ.
وُلِدَ هذا العَلَم الهمام -رحمه الله- بعد صلاة الجمعة، لثلاث عشرة ليلة خَلَتْ من شهر شوال، سنة أربع وتسعين ومائة، ونشأ في بيت علم، ومن هنا تأتي أهمية البيت الصالح، وأهمية تكوين البيت المسلم الذي ينشأ على القيم الإسلامية، والأسس الدينية، فما المجتمع إلا نسيج من هذه الأسر، فصلاح المجتمع قائم على صلاح الأسر، وصلاح الأسرة قائم على صلاح ربِّ الأسرة، ودونكم يا عباد الله طرفًا من سيرة والديه لنتعلم منهما أهمية صلاح الوالدين في صلاح الأبناء -بإذن الله-.
فوالده إسماعيل معدود من المحدثين، فقد سمع الحديث من الأئمة العلماء كمالك بن أنس عالم المدينة ومحدثها، ورأى حَمَّاد بن زيد، وصافح عبد الله بن المبارك بكلتا يديه، هكذا قال عنه ابنه محمد([2])، وقد ذكر الإمام ابن حِبَّان والد الإمام البخاري إسماعيل في كتابه (الثقات)، وذكر أنَّه روى عن مالك، وحَمَّاد بن زيد، وروى عنه العراقيون([3]).
كان والد الإمام البخاري عفيفًا في كَسْبه، متحريًا الحلال، ومُجَانبًا الشبهات، وكان يقول: "لا أعلم من مالي درهمًا من حرام، ولا درهمًا من شبهة"([4])، هكذا هم الآباء الذين يحرصون على طيب مكاسبهم، فلا يَطْعم حرامًا، ولا يُطْعم أهل بيته حرامًا.
توفي والده -رحمه الله- وابنه محمد في سن صغير، فقامت أمه بالعناية به، وتكفلت مشقة التربية، فنشأ في حجرها، وحج معها، ومع أخيه أحمد الذي كان أسَنَّ منه، وبقي -رحمه الله- في مكة، وأقام فيها لطلب العلم([5])، ونلاحظ أنَّ أُمَّهُ لم تمنعه من هذه الإقامة؛ لعلمها أنَّ العلم نور، وأنَّ للعلم أثر كبير على صلاح الإنسان واستقامته، وقد أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم الاستزاده من العلم كما في قوله سبحانه: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه:114].
أيها المؤمنون: لقد كان الإمام البخاري على موعد مع الابتلاء، فقد ابتلي -رحمه الله- بفَقْدِ بصره في صغره، وكانت أمه الصالحة تكثر الدعاء له، ومعلوم أن دعوة الوالدين مستجابة بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام الترمذي في جامعه بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)([6]). وقد حقق الله تعالى طلبها، وأجاب سؤالها، وأكرمها بكرامة لطيفة حيث رأت الأمُّ الصالحةُ في منامها خليلَ اللهِ إبراهيمَ -عليه السلام- وهو يقول لها: "يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصره لكثرة بكائك، أو لكثرة دعائك. فأصبح الإمام -رحمه الله- وقد ردَّ اللهُ عليه بصره ببركة دعوة والدته([7]).
ولا شك يا عباد الله، أنَّ من نعم الله على عبده أن يُرْزَقَ بوالدين صالحين يقومان على تربيته التربية الصالحة، وتنشئته على القيم والمبادئ الإسلامية، وهذا ما تمتع به الإمام البخاري -رحمه الله- حيث رُزِقَ بوالدين صالحين عفيفين، كما رُزِقَ بأمٍّ مجابة الدعوة، اعتنت به، واهتمت به غاية الاهتمام، فرحم الله الإمام البخاري، وأعلى منزلته، ورفع شأنه، وأجزل له المثوبة على خدمته الإسلام والمسلمين.

الخطبة الثانية:
لقد كان الإمام البخاري -رحمه الله- من النجباء في زمانه؛ حتى إنَّه أُلهم حفظ الحديث وهو ابن عشر سنين، أو أقل، كما يقول هو عن نفسه، والأخبار الدالة على نبوغه، وقوة حفظه، ومتانة علمه عديدة، منها: ما حكاه حاشد بن إسماعيل البخاري حيث قال: "كان أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري يَخْتلفُ معنا إلى مشايخ البَصْرة وهو غلامٌ فلا يَكْتب حتى أَتَى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما معناك فيما تصنع؟ فقال لنا بعد ستة عشر يومًا: إنكما قد أكثرتما عليَّ وألححتما، فأعرضا عليَّ ما كتبتما، فأخرجنا ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كُلَّها عن ظهر القلب؛ حتى جعلنا نُحْكِمُ كُتُبَنا على حِفْظه، ثم قال: أترون أني أختلف هَدْرًا وأُضيِّع أيامي؟ فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد"([8]).
لقد كانت حافظته عجيبة، وذاكرته قوية، ومن سعة حفظه، وقوة علمه، وجودة قريحته: أنه لما بلغ ست عشرة سنة، حفظ كتب ابن المبارك، ووكيع، وعرف كلاهم، وفَقِهَ مرادهم([9]).
جَدَّ -رحمه الله- في طلب العلم، وبذل حياته في تعلمه، وتعليمه، وكيف لا يجد الإمام البخاري في طلب العلم؟! وكيف لا يبذل الغالي والنفيس في سبيل تحصيله؟! أتغيب عنه البشارة النبوية، والإشارة المصطفوية التي تزف لكل طالب علم مخلص فيه؟! والله لو لم يكن لطلبة العلم سوى هذا الحديث الدال على مكانة الصحابة وعظمتهم، وأهمية نشر العلم، وفضل حامليه ومكانتهم لكفى شرفًا، فهنيئًا لطلبة العلم هذه الدعوة المباركة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (نَضَّرَ الله امْرًأ سَمِعَ منَّا حديثًا فحفِظَه حتىِ يُبَلَّغَهُ، فَرُبَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيهٍ)([10])، رواه أبو داود في سننه، وغيره.
فعلى المسلم أن يحرص على طلب العلم، خاصة زمن الصغر، وأن يصبر على مرارته وشدته، فلا قيمة لإنسان لا تقوى عنده ولا علم، ورحم الله القائل: اصبر على مُرِّ الجفا من مُعَلِّمٍ .. فإنَّ رُسُوبَ العِلْمِ في نَفَراتِهِ
ومن لم يَذُقْ مُرَّ التعلم ساعةً .. تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهْلِ طُولَ حياتِهِ
ومن فاتَهُ التعليمُ وقتَ شبابِهِ .. فــــــــكبِّرْ عليــــــــــه أربعًا لـوفـــــاتِهِ
وذاتُ الفتى -والله- بالعلم والتقى .. إذا لم يكونا لا اعتبارَ لذاتِهِ
وهكذا كان الإمام البخاري حريصًا على طلب العلم منذ نعومة أظفاره كما تقدم بيانه، قال أحمد بن سَيَّار عن الإمام البخاري: "طلب العلم، وجالس الناس، ورحل في الحديث، ومَهَرَ فيه وأبصر، وكان حسن المعرفة، حسن الحفظ، وكان يتفقه"([11]).
جاب -رحمه الله- البلدان، وسمع من الشيوخ أحاديثهم، وروى عنهم، وفَقِهَ العلم، وكان حجة الله في أرضه، قال -رحمه الله-: " كتبت عن ألف شيخ وأكثر، ما عندي حديث لا أذكر إسناده"([12]).
إنها همة عظيمة، ونفس قوي في طلب العلم، ولا نعجب، فهو إمام من أئمة أهل السنة، وعالم مجتهد من أعلام هذه الأمة، ولا أدل على ذلك من كتبه التي تُظْهر لنا جزالة علمه، ومتانة فقهه، وسيرته التي شهد لها القاصي والداني، فهي سيرة عطرة، حري بكل مسلم أن يقف معها، ويستلهم من دروسها، ومعانيها.
وللحديث بقية تأتي في الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى عن سيرة هذا العلم المبارك.




([1]) وهو بالبخارية، ومعناه بالعربية: الزراع". ينظر: تهذيب الأسماء واللغات، النووي ج1/ص67، هدي الساري، ابن حجر ص477.

([2]) التاريخ الكبير، البخاري ج1/ص342، ص343.

([3]) الثقات، ابن حبان ج8/ص98.

([4]) سير أعلام النبلاء، الذهبي ج12/ص447، هدي الساري، ابن حجر ص479.

([5]) ينظر: هدي الساري، ابن حجر ص477، ص478.

([6]) جامع الترمذي، رقم (1905)، وقال: هذا حديث حسن.

([7]) ينظر: تاريخ بغداد، الخطيب ج2/ص329, وسير أعلام النبلاء، الذهبي ج12/ص393، وهدي الساري، ابن حجر ص478.

([8]) تاريخ بغداد، الخطيب ج2/ص334.

([9]) ينظر: تاريخ بغداد، الخطيب ج2/ص325.

([10]) سنن أبي داود، رقم (3660).

([11]) تاريخ بغداد، الخطيب ج2/ص324.

([12]) تاريخ بغداد، الخطيب ج2/ص329.
[/align]
المرفقات

لمحات من سيرة الإمام البخاري1.docx

لمحات من سيرة الإمام البخاري1.docx

المشاهدات 1330 | التعليقات 0