لماذا يكره ابن آدم الموت؟

الشيخ السيد مراد سلامة
1440/01/23 - 2018/10/03 11:56AM
لماذا يكره ابن آدم الموت؟()
للشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الأولى

الحمد لله لم يزل عليّا، ولم يزل في علاه سميّا، قطرة من بحر جوده تملأ الأرض ريّا، نظرة من عين رضاه تجعل الكافر وليّا، الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًا والنار لمن

عصاه ولو شريفًا قرشيًا، أنزل على نبيه ومصطفاه قولاً بهيًا {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً[[مريم: 63]

وكم لله من لطف خفي
وكم أملٌ تساق به صباحا
وكم يسر أتي من بعد عسر
إذا ضاقت بك الأحوال يوما 

ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

جاءت له الدنيا فأعرض زاهدا      يبغي من الأخرى المكان الأرفعا
من ألبس الدنيا السعادة حلّة        فضفاضة لبس القميص مرقّعا
وهو الذي لو شاء نالت كفه        كل الذي فوق البسيطة أجمعا
مسك به اختتم المهيمن رسله          وأبان أمر الدين والدنيا معا
نادى إلى الحسنى فلما أعرضوا        واستكبروا شرع الرماح فأسمعا
والحق ليس بمعتدٍ لكنه                 إن دافعته يد الضلال تدفّعا
بعض الأنام إذا رأى نور الهدى       عرف الطريق ولم يضل المرجعا
ومن البرية معشر لا ينثني            عن غيّه حتى يخاف ويفزعا
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) [آل عمران/102}

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) [النساء/1][      

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)  [الأحزاب/69-71][

أما بعد

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد –صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثاتها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

اللهم لا تعذب جمعًا التقى فيك ولك ولا تعذب ألسنًا تخبر عنك ولا تعذب قلوبًا تشتاق إلى لذة النظر إلى وجهك الكريم

ثم أما بعد:

أمة الإسلام نقف في هذا اللقاء مع سؤال مهم قد يدور في مخيلة الإنسان {لماذا يكره ابن آدم الموت؟}

لماذا يكره الإنسان الموت وما هي درجات الناس وطبقاتهم في كراهية الموت؟

امنع جفونك أن تذوق مناماً *** وذر الدموع على الخدود سجاماً

وأعلم بأنك ميت ومحاسب *** يا من على سخط الجليل أقاما

لله قوم أخلصوا في حبه *** فرضي بهم واختصهم خداماً

قوم إذا جن الظلام عليهم *** يأتوا هنالك سجداً وقياماً

خمص البطون من التعفف ضُمَّراً *** لا يعرفون سوى الحلال طعاماً

يتلذذون بذكره في ليلهم ** ويُكابدون لدى النهار صياما

فسيغنمون عرائسا بعرائس ** ويُبوّأون من الجنان خياما

وتقرّ أعينهم بما أخفى لهم ** وسيسمعون من الجليل سلاما

العنصر الأول: الموت مكروه لدي بني آدم

اعلم علمني الله تعالى وإياك: أن كراهية الموت أمر جبلي في بني الإنسان وهذا ما قرره النبي العدنان-صلى الله عليه وسلم-

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إن الله قال من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلى مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته". ([1])

فالمؤمن كره شدة الموت وغصصه كما أخبر بذلك الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم-

وها هو النبي-صلى الله عليه وسلم-يزيد الأمر وضوحا عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اثنتان يكرهما ابن آدم: يكره الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب " ([2])

واعلموا أيها الأحباب: أن الإنسان المؤمن عندما يبشر برضوان الله تعالى ورحمته وجنته عندها يحب لقاء الله فيحب الله تعالى لقائه

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحب لقاء الله، أحب لقاءه الله، ومن كره لقاء الله، كره الله تعالى لقاءه، فقال بعض أزواجه عائشة: بأبي فأينا لا يكره الموت؟ قال: إنه ليس بذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر بكرامة الله عز وجل ورضوانه، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، فأحب الله تعالى لقاءه، وأن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله تعالى وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه ، فكره لقاء الله ، وكره الله تعالى لقاءه"([3])

عن أبي عبد الله الصنابحي قال: «الدنيا تدعو إلى فتنة، والشيطان يدعو إلى خطيئة، ولقاء الله خير من الإقامة معهما» ([4])

يقول ابن الربيع ابن خثيم لما احتضر أبي بكت أختي فقال لها: يا بنية لا تبكي ولكن قولي يا بشرى فاليوم ألقى ربي

 وها هي امرأة وكانت متعبدة تقول: والله لقد سئمت الحياة ولو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله تعالى وحباً للقائه

فقيل لها: أفعلى ثقة أنت من عملك؟؟

فقالت: لا ولكن لحبي إياه وحسن ظني به اشتقت إلى لقياه أفتراه يعذبني وأنا أحبه

قلت أنا: لا والله ... فإنه يحبهم ويحبونه

وما أحسن حسن الظن بالله والرجاء بالله فمن أحب شيئاً أحسن ظنه به ورجاه

*مرض أعرابي فقيل له: إنك تموت .. قال: وأين يُذهب بي ؟؟

قالوا: إلى الله عز وجل

قال: فما أجمل الموت وما أجمل لقاء الله

العنصر الثاني: الموت خير لابن ادم من الحياة

أيها الإخوة: الإنسان العاقل هو الذي يدرك أن الدنيا دار ابتلاء وأنها سجن المؤمن وأن لقاء الله خير من الإقامة في دار الأذى والأحزان والمصائب والألآم، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن زرعة بن عبد الله مرسلا ": أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: " يحب الإنسان الحياة والموت خير لنفسه، ويحب الإنسان كثرة المال وقلة المال أقل لحسابه.)) ([5])

 والهدية  والتحفة التي يتحف الله بها أوليائه الموت فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " تحفة المؤمن الموت " ([6]).

واعلم أنك لن تصل إلى الراحة إلا إذا فارقت دار العناء والشقاء فعن ابن مسعود قال: ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله تعالى. ([7])

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود قال: ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة، فإن كان بارا فقد قال الله تعالى: {وما عند الله خير للأبرار} وإن كان فاجرا فقد قال عز وجل: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين}. ([8])

العنصر الثالث: طبقات الناس في كراهية الموت

واعلم زادك الله علما-أن الناس ليسوا على طبقة واحدة في كراهية الموت بل يتفاوتون على حسب ما عندهم من إيمان وقرب أو ما عندهم من معاصي وبعد عن الله وإليك بيان ذلك

الطبقة الأولى: الحياء من الله

أعلى هذه الطبقات طبقة أهل الحياء من رب الأرض والسماء وهو أن يستحي العبد من لقاء ربه لما جنت يداه كحياء أم هارون.

قال أحمد أبي الحواري: قلت لأم هارون العابدة الدمشقية:

أتحبين الموت؟

قالت: لا

قلت: ولم؟

قالت: لو عصيت آدميا ما أحببت لقاءه فكيف أحب لقاء الله وقد عصيته؟ ([9])

الطبقة الثانية: الخشية الحادة من أن ينزل المرء منزلة تضره ولا تسره.

وهذا من الأخطار التي ينبغي على العاقل ألا يغفل عنها فالإنسان منا لا يدري أهو من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة

قال بعض أصحاب هذه الخشية:

وكيف تنام العين وهي قرير *** ولم تدر في أي المحلين تنـزل؟

قال سعيد بن أبي عطية:

لما حضر أبا عطية الموت جزع منه، فقالوا له:

أتجزع من الموت؟

فقال: مالي لا أجزع، فإنما هي ساعة، ثم لا أدري أين يسلك بي؟ ([10])

لما حضرت أحمد بن خضرويه الوفاة، سئل عن مسألة فدمعت عيناه، وقال:

يا بني باب كنت أدقه خمسا وتسعين سنة، هو ذا يفتح الساعة لي، لا أدري أيفتح بالسعادة أو الشقاوة، فأنى لي أوان الجواب؟ ([11])

عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، أنه ذكر عمر وأبا بكر ابني المنكدر قال: " لما حضر أحدهما الموت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ إن كنا لنغبطك بهذا اليوم، قال: أما والله ما أبكي أن أكون ركبت شيئا من معاصي الله اجتراء على الله، ولكني أخاف أن أكون أتيت شيئا هينا وهو عند الله عظيم. قال: وبكى الآخر عند الموت فقيل له مثل ذلك، فقال: إني سمعت الله يقول لقوم: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون} [الزمر: 47] ، فأنا أنتظر ما ترون، والله ما أدري ما يبدو لي " ([12])

عن محمد بن المنكدر أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله وسألوه ما الذي أبكاه فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي قال يا أخي ما الذي أبكاك قد رعت أهلك أفمن علة أم ما بك قال فقال إنه مرت بي آية في كتاب الله عز وجل قال وما هي قال قول الله تعالى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون قال فبكى أبو حازم أيضا معه واشتد بكاؤهما قال فقال بعض أهله لأبي حازم جئنا بك لتفرج عنه فزدته قال فأخبرهم ما الذي أبكاهما ([13])

الطبقة الثالث: ضعف التزود من العمل الصالح

وهم أقوام أحسوا بقلة الزاد وبعد السفر وقلة الأنيس لذا فهم يكرهون الموت مخافة الفوت

قال الله –سبحانه-قد قال فيمن هذا شأنهم: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10، 11]

* تحسر بعض الناس عند الموت، فقيل له: ما بك؟

فقال ما ظنكم بمن يقطع سفرا طويلا بلا زاد، ويسكن قبرا موحشا بلا مؤنس، ويقدم على حكم عدل بلا حجة. ([14])

بكى أبو هريرة قبل الوفاة فقيل له: وما يبكيك؟ فقال: [قلة الزاد، وبعد السفر، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار].([15])

تزَودْ من التقوى فإنكَ لا تدري      إذا جنَّ ليلٌ هلْ تعيشَ إلى الفجر ؟
فكمْ من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علةٍ      وكمْ من عليلٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
وكمْ من صغارٍ يرتجى طولَ عُمْرَهْم      وقدْ أُدْخِلَتْ أجسادَهُمْ ظُلمَة القبرِ
وكمْ من عرُوسٍ زَينوها لِزَوجها        وقدْ قُبضَتْ أَرْواحَهُم ليلةَ القدرِ
وكمْ من فتىَ أمسى وأصبحَ ضاحكًا      وقدْ نُسِجَتْ أكفَانَهْ وَهوَ لا يدري
روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه، وقف ذات يوم أمام الكعبة ثم قال لأصحابه " أليس إذا أراد أحدكم

سفرا يستعد له بزاد؟ قالوا: نعم، قال: فسفر الآخرة أبعد مما تسافرون!

فقالوا: دلنا على زاده؟

فقال: (حجوا حجة لعظائم الأمور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور، وصوموا يوما شديدا حره لطول يوم نشوره). ([16])

الطبقة الرابعة: الإسراف على النفس والغفلة عن محاسبتها

إخوة الإيمان: إن الغفلة عن المحاسبة، والتسويف بالمتاب يفضيان إلى تراكم السيئات، حتى يذهل من تراكمها من ينتبه إليها.

كان الشيخ توبة بن الصمة من الطيبين، وكان محاسبا لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يوما ما مضى من عمره، فغذا هو ستون سنة، فحسب أيامها، فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمائة يوم فقال: يا ويلتا، ألقى مالكي بإحدى وعشرين ألف ذنب ثم صعق صعقة كانت فيها وفاته. (وهذا بحساب ذنب واحد فقط في اليوم الواحد).([17])

وتأملوا في أحوال المحسنين الذين يخافون من الله تعالى فعن عبد الله بن مسعود، حديثين: أحدهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه» فقال به هكذا، قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه " ([18])

كانوا يتهمون أعمالهم وتوباتهم ويخافون أن لا يكون قد قبل منهم ذلك فكان ذلك يوجب لهم شدة الخوف وكثرة الاجتهاد في العمل الصالح قال الحسن أدركت أقواما لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمن لعظم الذنب في نفسه

* فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله، عند موته يقول: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدّ النظر. فقالوا له: إنك لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين. قال: إني أرى حضرة ما هم بإنس ولا جن ثم قبض رحمه الله وسمعوا تالياً يتلو: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:83). ([19])

قال معاوية -رضي الله عنه-عند موته لمن حوله: أجلسوني .... فأجلسوه .... فجلس يذكر الله، ثم بكى، وقال: الآن يا معاوية، جئت تذكر ربك بعد الانحطام والانهدام, أما كان هذا وغض الشباب نضير ريان؟! ثم بكى وقال: يا رب، يا رب، ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي .... اللهم أقل العثرة، واغفر الزلة، وجد بحلمك على من لم يرج غيرك، ولا وثق بأحد سواك .... ثم فاضت روحه رضي الله عنه ([20]).

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.

أما بعد:

الطبقة الخامس: تعلق المرء بالدنيا أو بشيء معين منها:

واعلم أن من تعلق قلبه بالدنيا وبشيء من متاعها كره الموت لأنه يعلم انه سيفوت على ذلك المحبوب  

روى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء القارئ النحوي أنه قال: بينما أنا ذات يوم -أحسبه قال في ضيعتي-سمعت قائلا يقول:

وإن امرءا دنياه أكبر همه     لمستمسك منها بحبل غرور

 فكتبت هذا البيت على فص خاتمي فكان نقشه هذا. ([21])

قال الحسن-رحمه الله-ابن آدم، لا تعلق قلبك بشيء من الدنيا، تعلقها شر تعلق، اقطع عنك حبائلها، وأغلق دونك أبوابها.

وليكن حسبك -أيها المغرور -منها ما يبلغك المحل، وإياك أن تظن أنك تُباهي يوم القيامة بمالك وولدك، هيهات أن ينفعك شيء من ذلك يوم يقوم الحساب! ذلك يوم تذهب الدنيا فيه بحالها، وتبقى الأعمال قلائد في أعناق عمَّالها.

خاتمة السوء: وها هي خاتمة السوء لمن تعلق بشيء من متاع الدنيا والخواتيم ميراث السوابق

ففي كتاب العاقبة: أن رجلا كَانَ وَاقِفًا على بَاب دَاره وَكَانَ بَابهَا يشبه بَاب حمام مُجاور له، فمرت بِهِ جَارِيَة لَهَا منظر، وَهِي تَقول: أَيْن الطَّرِيقُ إِلَى حمَّام منْجَاب ..

فَقَالَ لَهَا: هَذَا حمَّام منْجَاب ... وَأَشَارَ إِلَى دَاره .. فَدخلت الدَّار ، فَدخل وَرَاءَهَا ، فَلَمَّا رَأَتْ نَفسهَا مَعَه فِي دَاره وَلَيْسَت بحمَّام علمت أَنه خدعها ، فعلمت أنه لا نجاة لها منه إلا بالحيلة والخداع .. فأظهرت لَهُ الْبشر والفرح باجتماعها مَعَه على تِلْكَ الْخلْوَة فِي تِلْكَ الدَّار، وَقَالَت لَهُ: يصلح أَن يكون عندنَا مَا يطيب بِهِ عيشنا وتقر بِهِ عيوننا ، من طعام وشراب .

فَقَالَ لَهَا: السَّاعَة آتِيك بِكُل مَا تريدين وَبِكُل مَا تشتهين ، وَخرج فَتَركهَا فِي الدَّار ، وَلم يغلقها ، وَتركهَا مَفْتُوحَة على حَالهَا وَمضى .

فَأخذ مَا يصلح لَهما وَرجع، وَدخل الدَّار فَوَجَدَهَا قد خرجت وَذَهَبت ، وَلم يجد لَهَا أثراً ، فهام الرجل بهَا ، وَأكْثر الذّكر لَهَا ، والجزع عَلَيْهَا ، وَجعل يمشي فِي الطّرق والأزقة وَهُوَ يَقُول :

يَا رب قائلة يَوْمًا وقد تعبت *** أَيْن الطَّرِيق إِلَى حمام منْجَاب

وَفي رواية: أنه بعد أشهر مر فِي بعض الْأَزِقَّة وَهُوَ ينشد هَذَا الْبَيْت ، وَإِذا بِالجَارِيَة تجاوبه من طاق وَهِي تَقول :

هلا جعلت لَهَا إِذْ ظَفِرتَ بهَا *** حرْزا على الدَّار أَو قُــفلا على الْبَاب؟
إِنْ يَنْفَـــــد الرِّزْقُ فَالرّزَّاقُ يَخْلِفُهُ *** وَالعِرْضُ إِنْ نْفَدَ فمِنْ أَيْنَ يُنْجَابُ؟
فَزَاد هيمانه ، وَاشْتَدَّ هيجانه ، وَلم يزل كَذَلِك حَتَّى كَانَ من أمره أنه لما نزل بِهِ الْمَوْت وجاءت ساعة احتضاره ، فَقيل لَهُ قل : "لَا إِلَه إِلَّا الله " .. فلا يستطيع، إنما جعل يَقُول :أَيْن الطَّرِيقُ إِلَى حمَّام منْجَاب ؟([22])

فنعوذ بِاللَّه من المحن والفتن، ومن سوء الخاتمة.

الدعاء ............................

 

 

 

[1] - أخرجه البخاري (5/2384 ، رقم 6137)

[2] - أخرجه أحمد 5/427(24024) سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (2/ 452)

[3] - أخرجه البخاري 11/ 357 الحديث (6507)، ومسلم في الصحيح 4/ 2065

[4] - حلية الأولياء (5/ 129)

[5] - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/356، رقم 10570) .

[6] - أخرجه ابن المبارك (1/212، رقم 599) ، والحاكم (4/355 ، رقم 7900) ، وقال : صحيح الإسناد . سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (14/ 910) قال الألباني :ضعيف.

[7] - أخرجه ابن المبارك (1/6 ، رقم 17) ، وأبو نعيم في الحلية (1/136) .

[8] - مصنف ابن أبي شيبة - ترقيم عوامة (13/ 303)

[9] -(صفة الصفوة ج4 ص304)

[10] -(الحلية ج5 ص 154)

[11] -(رسالة الثبات عند الممات ص 62)

[12] - المحتضرين (ص: 170)

[13] - حلية الأولياء (3/ 146)

[14] -(الكشكول للعاملي ج1 ص 290)

[15] - مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار (1/ 35)

[16] - حلية الأولياء (1/ 165)

[17] -(الكشكول للعاملي ج2 ص 337)

[18] - أخرجه: البخاري 8/83-84 (6308)

[19] - المحتضرين لابن أبي الدنيا (ص: 84)

[20] - العاقبة في ذكر الموت (ص: 125)

[21] - الهواتف (ص: 67)

[22] - العاقبة في ذكر الموت (ص: 179)

المرفقات

يكره-ابن-آدم-الموت

يكره-ابن-آدم-الموت

المشاهدات 3446 | التعليقات 0