لماذا يغلبنا الهوى؟ وكيف ندافعه؟ هدى عبد الرحمن النمر
الفريق العلمي
أرأيتَ لو أن 100 شخص أتيح لهم "بوفيه" مفتوح ومجاني تماما، يعرض كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين من الحلوى المشرقية والمغربية. فلما همّ الناس بالمبادرة إليه، قيل لهم إن ثمة تفصيلة صغيرة، مفادها أن في تلك الحلوى نوع سمّ مدسوس بقدر صغير جدا، بحيث لا يؤثر في البَدَن إلا على مدار سنوات.
ماذا تتوقع؟ إذا كنت تظن أن الكل -أو على الأقل الغالبية- امتنعت عن الأكل وقاومت إغراء الموجود ومجانيته المادية، فيؤسفني أن أخيب توقعاتك. 95% توجهوا على دفعات ومراحل للأكل من الحلوى، في البداية على تحرّج وتخوّف وحسبان لقدر ما يأخذون، ثم مع مضي الوقت والانغماس في الملذات التي كانت تتسع، كاد الناس ينسون قصة السم المدسوس أصلا!
لعلك تظن أن أولئك مجانين لا ريب! وأنك لو كنت مكانهم لما خاطرت بحياتك أو بعض منها لقضمات من الحلوى المجانية!
هكذا إذن؟!
فكيف لو قلت لك إن تلك الحلوى المسمومة، وتعامل تلك المجموعة معها، ليس إلا صورة مصغرة من تعاملنا اليوم مع أهوائنا وملذاتنا الشخصية، من المرئيات والموسيقى والقصص والنوم والخروجات وحفلات التجمعات ومجالس الغيبة والنميمة والفشر والتنكيت! أترى أن الذي يصرف غالب عمره وزهرة شبابه في مثل ذلك اللهو والعبث وإدمان اتباع الهوى والانغماس في السُّكْر الرّوحي، هو أحرص من أولئك المجانين على حياته وأعقل منهم في حفظها؟ أليس في "مجانية" اتباع الهوى دون رقيب أو حسيب من السم ما كان في تلك الحلوى؟!
ترى، ما الذي يغيّب عقولنا وقت الهوى مع أنه يثوب إلينا ونحن نحكم عليه من الخارج؟ إنه إغراء نشوة اللذة وزينتها، الفورية، العاجلة، الملموسة، المادية (كالحلوى أو أي نوع ملذات مشابهة التوصيف). أما العقل فيحاول تنبيهنا وإيقاظنا لمحاذير تمثل في شعورنا ألما ووجعا وخطرا، وعلى خوفنا من الألم والوجع والخطر إلا أنه مؤجل، مؤخر، غيبي، ليس حاضرا الآن ولن نواجهه في التو والحال. ومن هنا تكون الغلبة لسطوة الهوى على سلطان العقل في مواقف كتلك، ولجاذبية اللذة المشهودة المحسوسة فورًا، على مخاوف الأذى المُغيّبة حتى حين.
إن إدمان اتباع الهوى وتدليل النفس على راحتها يشعرنا بلذة فورية عاجلة، لكن هذا النهج على المدى البعيد يخلق شعورًا موازيًا بالألم والوخز الداخلي. في المقابل، عندما نقرر أن نضبط نهج حياتنا ليكون أكثر رشادًا وترشيدًا، سنشعر في البداية بسبب فارق الاعتياد بنوع ألم عاجل، متمثلًا في الجهد والمجاهدة لضبط دلال النفس ومقاومة إغراءاتها. ثم بالصبر على النهج الجديد حتى تنقاد له النفس، يستشعر صاحبه لذة آجلة من اتساقه مع ما يعلم أنه ينبغي أن يكون.
اللفتة هنا أننا نستسهل اللذة العاجلة على الآجلة، وننجرف لقبضتها، ونضعف عندما نوازن بين ألم "مؤجل" وألم "معجّل"، ولا نتوقف دقيقة لنتفكر أننا سنكابد على كل حال! لكن أن تكابد على مسار متسق مع مقاصد خلقك، وتنسجم مع ما وقر في نفسك من أنك لم تخلق للعبث واللهو المطلق وإهدار العمر فيما لا ترجو ثوابه وتتحمل حسابه، هذه المكابدة خير وأبقى من تلك التي مهما أمتعتك ساعة آلمتك دهرًا، خاصة حين لا ينفع ندم ولا رجعة.
ومن تفسيرات تسمية يوم الحساب بيوم التغابن -من الغُبْن وهو النقصان والخسارة- أنه يوم "غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان"(تفسير البغوي).
السُّكْر الروحي وإهدار العمر
حينما نتأمل في حكمة تحرّيم الله -تعالى- للمُسْكِرات نجد أنها تذهب بتكريم الإنسان وتاجه: العقل؛ فالمُسكِر هو كل ما يُسْكِرُ، أَيْ يُحْدِثُ دَوَرَاناً فِي الرَّأْسِ وَيُفْقِدُ شَارِبِهِ الوَعْيَ والإدراك. ومن هنا سمّيت الخمر خمرا لأنها تَخْمُر العقل أي تغطيه وتطمسه.
وما هو ذاك العقل الذي كرّمنا الله به؟ والذي ذكر في عدة مواضع في القرآن الكريم، فوردت لفظة (تعقلون) في القرآن 24 مرة، منها 13 مرة بصيغة (أفلا تعقلون) وهي صيغة استنكارية لإهمال تشغيل هذه النعمة العظيمة وأما (يتفكرون) فقد ذكرت في 10 مواضع، و(يتدبرون) في موضعين.
هل خطر لك أنك قد لا تكون شاربا للخمر فعليا، لكنك غارق في السُّكْر حقيقة؟ إن كل محاولة "لتنسى"، "لتسلو"، "لتغفل"، "لئلا تفكر"، "لئلا تتذكر"، "لئلا تعلم"، "لئلا تعقل" … وما شاكلها، كلها من صور السكر: لأنك تغرق فيما يُغيّب عقلك عن الحاضر أو يعطّله عن مواجهة مسؤولياته. قد يتخذ ذلك السكر صورة الإغراق في مشاهدة فيلم بعد فيلم أو مسلسل وراء مسلسل، في الدوران العبثي في الفيسبوك وتقليب الصفحات الانترنت بلا طائل، في الدردشات والمحادثات المسموعة والمكتوبة عن السفاسف والتوافه، في البطء المستميت في الحركة وإنجاز المهام الروتينية حتى ينقضي اليوم والسلام، في الانغماس في دوامات لقمة العيش حتى يتسرب العيش نفسه من بين أصابعك، في النوم الكثير والخمول الممتد بلا أمد.
إننا حين نتأمل توجيهات الله -تعالى- عن أعدى أعداء بني آدم من كيد الشيطان واتباع الهوى وخواطر النفس الأمّارة، بالسوء، لا نجد فيها توجيها يدعو للهرب أو الفرار أو الخوف.
لم يأمرنا الله بالخوف إلا منه، ولم يدعو للفرار إلا إليه ؛ أما أولئك فكانت الأوامر بصددهم دائما تقوم على فعل إيجابي لا تولٍّ سلبي: استعذ، استعن، قاوم، استغفر، تب، أصلح.
قمة السَّكر هو أن تعيش حياتك هاربا من حياتك، غير أنه سَكَر مقنّع مادتّه النفوس لا الكؤوس!
ما تفِرّ منه فإنه ملاقيك!
ما تفر منه لا مفر منه، وهو لا بد ملاقيك. فإن سَكِرت عنه هنا عَقِلته هناك حيث لا ينفع إبصار بعد أن اختار صاحبه العمى: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[قّ:22].
ليس من ديننا الهروب من مواجهة مسؤولية الحياة ومسؤولية العقل ومسؤولية الاختيار، إن هذه المسؤوليات هي ما تجعل منك إنسانا، فلا أنت حيوان ولا ملاك ولا شيطان، وإنما تكوينك الفريد من جماع خصائصهم هو عين الامتحان وحكمة الاختبار، وطالما أنك موجود فأنت ممتحن شئت أم أبيت.
ثم إن خشية ثقل المسؤولية لا يحلها الهرب منها! لماذا لا ننتبه أن الهروب ليس حلا؟ وأن تولية الظهر لأمر لا يلغي وجوده؟ يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير آية (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[البقرة : 44]: "ليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر، بل على تركهم له. فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف" ا.هـ
في المرة القادمة التي تهم فيها بالفرار، فر إلى الله، لا منه، ومبدأ القوة في أخذ الحياة بقوة كامن دائمًا في جَثوة على الركبتين، ورفع لليدين، ونداء رب العالمين.
اقتباسات:
لعلك تظن أن أولئك مجانين لا ريب! وأنك لو كنت مكانهم لما خاطرت بحياتك أو بعض منها لقضمات من الحلوى المجانية!
هل خطر لك أنك قد لا تكون شاربا للخمر فعليا، لكنك غارق في السُّكْر حقيقة؟
طالما أنك موجود فأنت ممتحن، شئت أم أبيت.
المصدر/ المحجة