لماذا يتنازع الورثة ؟

عبدالله محمد الحقيل
1444/06/19 - 2023/01/12 21:18PM

خطبة : لماذا يتنازع الورثة ؟

مستفادة من خطبة للشيخ عبدالمجيد الدهيشي رحمه الله 


شرع الله عز وجل اعدل واكمل وافضل من كل نظام في هذا العالم ( أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖيُوقِنُونَ ﴾ [المائدة - ٥۰]

ومن كمال هذا الشريعة المطهرة قضية توزيع الميراث وان الله عز وجل  فقد حدد الشارع الحكيم نصيب كل وارث محدد شرعاً،ولا مجال لمحاباة أحدٍ من الورثة بشيء من التركة على حساب الآخرين،

فلماذا يقع النزاع والخلاف إذاً؟ ولماذا نسمع ونرى من الخلاف الشديد الذي ينشب بين الأبناء الذين خرجوا من بطنواحد، ورضعوا لبان ثدي ،واحد، وجمعهم منزل واحد وإناء واحد ردحاً من الزمن؟ ولماذا نرى ونسمع شكايات تدور رحاها بينالزوجات،وقد تحزّب مع كل واحدة منهن أولادها، متنازعين على التركة التي خلفها المتوفى، وقد شَقِي بها عُمُرَه ، وبذل فيهامهجته، وكد وكدح حتى جمع من المال والعقار ما رزقه الله تعالى وخوّله إياه، وقد توفاه الله وهو يظن أن من خلفهم سيقتسمونميراثه على قسمة الله تعالى شاكرين الله تعالى ما رزقهم من المال دون أي تعب ولا منةٍ من أحد، وقد عَرَفوا حق مورثهم الذيترك لهم من المال والخير ما يُغنيهم به الله تعالى، فلن ينسوه من دعواتهم ولا صدقاتهم!

ولكن لو كشف له الغيب، ورأى ما تسبب به هذا المال الموروث من قطيعة وتناحر وتجاحد بين أقرب الناس إليه، لود أن لو كانماله كفافاً ولم يتسبب فيما أوقع الورثة بعده بينهم بسبب

 


هل تُصدّقون أن من الأثرياء الذين توفاهم الله وخلّفوا مئات الملايين، وعشرات العقارات ذوات الملايين، من يُتصدق على بعضورثته بسبب تأخر اقتسام التركة والتطاحن الذي نشب بينهم بعد وفاته؟!

ولا نستغرب إن وقفنا على ثري توفي، وعليه بعض الديون والحقوق التي وثقها، وأوصى بتعجيل قضائها، وقد ترك خيراً كثيراًومالاً وفيراً، ولكن بقيت هذه الديون سنوات دون قضاء بسبب تداخل الحقوق وتنازع الورثة فيما بينهم، وربما أنكر الورثة أوبعضهم هذه الديون،

وقد علمنا خطورة الديون، فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه))(۱)، ولذا كانقضاء الديون مقدماً على اقتسام التركة كما نصت عليه الآيات الكريمة في بيان المواريث

كم من غني أنعم الله عليه من الأموال ولم تسخُ يده بشيء منها في حياته، وإنما وكل ذلك لورثته عبر الوصية التي هي حقمن حقوقه،فأوصى بثلث ماله أو ربعه ونحو ذلك، يُخرج في أوجه البر والإحسان بعد وفاته، وقد ظنّ أن بركة هذه الصدقاتوالوصايا ستصله في قبره فور دفنه و انصراف الناس عنه، ولكن يطول انتظاره والوصية حبيسة التركة التي تعلقت وتأرجحتبين الورثة الذين دبّ الخلاف بينهم، فتأخر اقتسام التركة واستخراج الوصية وتنفيذها!

كم من المؤسسات والمنشآت ذات السمعة الحسنة والعلامات التجارية المعروفة في عالم المال وأسواقه تنهار بُعيد وفاة مؤسسهاوصاحبها الذي بنى تلك السمعة بعرق جبينه وعلاقاته الواسعة ورحلاته في فجاج الأرض، وقد تغرب عن أهله وعياله الأياموالشهور! والسبب في ذلك تنازع الورثة من بعده.

 


هذه تساؤلات واستفهامات وحقائق ووقائع.

 


وبالتأمل في أسباب ذلك يتبين وجود جملة من الأسباب التي تؤدي إلى النزاع والشقاق بين الورثة على اقتسام المال الموروث،منها ما يكون في حياة المورث نفسه وبفعل منه وتسبب، ومنها ما يقع بين الورثة بعد الوفاة.

 


فمن الأسباب التي يتسبب فيها المورث نفسه في حال حياته :

أولها: عدم حفظ وثائق التملك وتنظيمها ومعرفة مكان حفظها، ليسهل استدلال الورثة عليها بعد الوفاة، وقد روى احد كتابالعدل أن ثرياً توفي، وله آلاف العقارات التي لا يعرف الورثة أعيانها ولا وثائقها، فساومهم عليها أحد عمال والدهم مُشترِطاًمبلغاً مالياً كبيراً ليدلهم على هذه الوثائق.

 


وثانيها: عدم ضبط الديون التي في الذمة أو للمتوفى لدى الآخرين، أو تكون إثباتاتها متداخلة لا يُعرف المتقدم منهاوالمتأخر، ولا مقدار ما بقي منها والمسدد.

 


وقريب من هذا السبب السبب الثالث: وهو أن بعض الآباء يُسَجِّل بعض الأملاك أو الشركات أو الأسهم باسم بعضأولاده صورياً، والواقع أنه ليس لهؤلاء الأولاد أي نصيب فيها، ولكن يخطئ الأب حين لا يوثق هذه التصرفات، ويُشهد عليها منتُقبل شهادته كيلا يختلط الأمر على الورثة، ويَظُن أو يدعي بعضُ هؤلاء الأولاد أن لهم نصيباً حقيقياً في هذه الأموال محتجينبكونها موثقة بأسمائهم، وكم حصل من النزاع والشقاق بين الورثة من جراء ذلك!

 


وقريب من ذلك أيضاً السبب الرابع وهو وجود شراكات حقيقية وتداخل في ملكية بعض الأموال بين الأب وأولاده أوبعضهم، ولكن لا توثق هذه الشراكات بما يحفظ حق الجميع، وتُسجل رسمياً قدر الإمكان حفظاً للحقوق ومنعاً للمشاحةوالخلاف فيما بعد.

 


وأما السبب الخامس الذي قد يوقع النزاع بين الورثة: فهو التفريق بين الأولاد أو بين الزوجات في النفقات والهبات حالالحياة، حُبّاً في هذا وكرهاً لذاك، فيحمِلُها - في نفسه - المحرومُ منهم أو من يرى أنه مظلوم، وربما لا يتكلم في حياة والده،ولكن فور الوفاة تُثار تلك الطعون، ويتشفّى المحروم بتعطيل اقتسام التركة والمطالبة ببعض المستحقات التي يراها حقاً له، ومنذلك المطالبة بأجور المساكن التي يسكنها أولئك المفضّلون، أو المنازعة في الملكية أو الامتناع عن قسمة التراضي وإلجاءالورثة لبيع العقارات بالمزاد العلني ونحو ذلك.

 


وأما السبب السادس فهو أن بعض أرباب الأموال يستعجل قسم الأملاك بين زوجاته وذريته في حال حياته وخاصةالعقارات، ظناً منه أنه بذلك يطفئ نار الشقاق ويمنع النزاع من بعده، وهذا خطأ بيّن، فلربما ندم الأب حين تطول به الحياة،ولا يرى أثراً لما بذله لأولاده، أو كان في القسمة حيفٌ على البعض فيطوي ذلك في نفسه، وربما أبغض أباه، ولم يجرؤ علىالاعتراض خوفاً أو حياءً أو مروءة، ولكن بعد الوفاة تثار الاعتراضات وتُشغل المحاكم بطلب إلغاء تلك القسمة أو تعديلها.

والذي يُنصح به عدمُ الاستعجال في قسمة الأموال في حياة صاحبها، بل على الأب أن يدعها لقسمة الله تعالى الذي بيّننصيب كل ،وارث، ومعلوم أن إجراءات اقتسام التركة واضحة معلومة يسيرة.

 


والسبب السابع يتعلق بالوصية والوقف؛ فمن أعمال البر التي يحرص عليها الكثير من الناس الوصية والوقف، وذكر أهلالعلم أنه يُسنّ لمن يترك مالاً كثيراً أن يوصي بالخمس، ولو أوصى بالثلث كاملاً جاز، ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث، ولاالوصية لوارث بشيء، ويجوز للموصي الرجوع في الوصية؛ لأنها لا تلزم إلا بالموت، ويستحب للموصي أن يكتب وصيته ويُشهدعليها.

 


عباد الله:

ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الموصين، وقد تؤدي إلى الشقاق والنزاع أن يوصي لأحد الورثة بمال أو بانتفاع من أحدالعقارات أو السيارات ونحو ذلك دون سائر الورثة، وهذا ممنوع شرعاً.

ومن المهم للموصي أن يحرص على اختيار الوصي الكفؤ الأمين لتنفيذ الوصية، وليس بالضرورة أن يكون الوصي الابنالأكبر دوماً، فمِن حَقٌّ الموصي شرعاً أن يعهد بتنفيذ وصيته لمن يراه كفؤاً في ذلك، سواء كان الابن الأكبر أو الأصغر أوغيرهما، ولا مجال في ذلك للعتب على الأب إذا اختار لإنفاذ الوصية أحد بنيه، والأب أدرى بعياله ومن يصلح لوصيته،والوصاية تكليف لا تشريف، ومن اللؤم والعقوق الاعتراض على تولي الوصي مهام الوصية وتنفيذها، والتدخل في هذا الشأنغير مقبول شرعاً ولا عرفاً.

 


ومما يُنبه إليه في كتابة الوصية أن تكون واضحة محددة بما يريده الموصي، وخصوصاً في أعمال البر، فقد يوصي مثلاًببناء مسجد بثلث ماله، ثم يبني مسجداً في حياته، فيظن بعض الورثة أن الموصى به قد تحقق في حياة الموصي، وأنه لا يلزمإنفاذ ما أوصى به الموصي، والأصل نفاذ الوصية وعدم تحريفها أو تعطيلها.

 


ولو طرأ للموصي تعديل وصيته، فله ذلك متى شاء، لكن مع ضرورة بيان الوصية المتأخرة وأنها ناسخة لما سبقها من الوصايا،كيلا يلتبس الأمر على الورثة والوصي.

 


ومما يُنصح به من أراد الوصية، وخصوصاً من وسع الله عليهم في الرزق والأموال ألا تكون الوصية بقدر مشاع منالتركة، كالثلث أو الربع ونحوهما، بل تكون بعقار أو مبلغ محدد أو محفظة استثمارية توازي قيمتها ما ينوي الموصي التبرع بهمن تركته، ففي ذلك تسهيل للورثة وتعجيل لإنفاذ الوصية.

 


بل إن الأولى والأفضل، والأكثر أجراً لمن وسع الله عليه أن يعجل تبرعه ويوقف في حال حياته، فقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ مَن سأله : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَخْشَى الفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الغِنَى وَلاَتُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الخُلْقُومَ، قُلْتَ لِفُلَانٍ كَذَا، وَلِفُلانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلان).

 


وفي تعجيل التبرع في حال الحياة تحصيل الأنفع والأكثر أجراً، وذوق حلاوة الصدقة، ومعلوم أن للموقف أن يشترط لنفسه منريع وقفه ما يراه من المصارف والنفقات.

 


و مما يقع فيه بعض الواقفين أن يوقف عقاراته أو كثيراً منها على ذريته، سواء كانوا من الأبناء والبنات وذرياتهم أوبعضهم، وهذا ما يسمى «الوقف الذري»، ولأهل العلم كلام طويل في مدى مشروعيته، وهل فيه مصلحة شرعية أم لا، وذهببعضهم إلى كراهته أو تحريمه لما فيه من حرمان بعض الذرية وحبس المال عن الورثة؛ إذ من المعلوم أن الوقف تحبيس للأصلوتسبيل للمنفعة، فقد يشق على الورثة منعهم من التصرف في أعيان المال الذي خلفه مورتُهم، والأولى أن يكتفي صاحب المالبالوقف المشروع في أعمال البر، ويذكر المصارف التي يراها محققة للمقصود، وله أن يضمنها إعطاء المحتاج من الذرية وفقما يراه الموصي، وفي ذلك جمع بين الحسنيين، وسد المنافذ الشيطان على الأولاد والذرية.

 

 

المشاهدات 735 | التعليقات 0