لماذا منع القطر عنا ؟؟

عوض القحطاني
1437/01/17 - 2015/10/30 03:36AM
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الحمد لله مغيث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، وكاشف الكرب عن المكروبين، ورافع البلاء عن المستغفرين، ومسبغ النعم على العباد أجمعين، لا إله إلا الله الولي الحميد، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم، سبحان مجيب الدعوات وغافر الزلات، سبحان مغيث اللهفات ومنزل البركات، سبحان واهب الخيرات وفارج الكربات، سبحانه من إلهٍ كريم، ورب رحيم، ومولى عظيم، عمّ بجوده وكرمه وإحسانه جميع المخلوقات، سبحان علام الغيوب، وفارج الكروب، وكاشف الخطوب، وغافر الذنوب، وساتر العيوب، نحمدك اللهم ربنا ونشكرك، ونتوب إليك ونستغفرك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، ونشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله؛ فتقوى الله طريق النجاة والسلامة، وسبيل الفوز والكرامة. المتقون هم الناجون من عذاب الله: ثُمَّ نُنَجّى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً [مريم:72]، ولجنة الله هم الوارثون: تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً [مريم:63].
عباد الله، كلنا نعلم أن الله تعالى عليم حكيم، و أن الله تعالى بيده خزائن السموات والأرضين، ألم يقل سبحانه: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ [المنافقون:7]، ألم يقل محمد صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بربه: ((يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ)) أخرجه البخاري، وقال الله تعالى: وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ
ونحن جميعاً نعلم أن الله سبحانه يبتلي بالنقص والضراء، كما يبتلي بالعطاء والنعماء، وهو أحكم الحاكمين، وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وأرزاق الله تعالى تغدو وتروح يهبها لمن يشاء ويصرفها عمن يشاء ولا معقب لحكمه ولا راد لقضائه تعالى وتقدس نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء [يوسف:56]، ومن تلك النعم والأرزاق التي يصرفها ربنا كما يشاء إنزال الغيث كما قال سبحانه وَهُوَ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُوراً لّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـٰماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَـٰهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً [الفرقان:48-50]، وهو القائل سبحانه: وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى ٱلأرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَـٰدِرُونَ [المؤمنون:18]، وهو القائل تعالى وتقدس: قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ
أيها الناس، كلنا وقفنا على ما حصل من الضرر الذي حل بنا من تأخر نزول الغيث ، فالآبار قد نَضَبت، والأشجار يبِست، والأرض قحَطت، والنخيل قد عطِشت، والثمار قد ذبَلَت، والمواشي قد هُزِلت، والأسعار قد ارتفعت ومعها القلوب قد وجَفَت، والنفوس قد هلِعت إلا من رحم الله تعالى.
ياعباد الله من الذي ينشئ السحاب الثقال ومن الذي ينزل الماء من السماء؟ إنه الله رب العالمين أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجًا فلولا تشكرون [الواقعة: 68 ـ 70], الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفًا ـ ويجعله قطعًا ـ فترى الودق يخرج من خلاله ـ فترى المطر يخرج من خلاله ـ فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون [الروم: 48].
ولا يعرف حقيقة الاستبشار إلا من كان يعتمد على الأمطار, والعرب كانوا كذلك, فيصف الله عز وجل لنا حالهم وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ـ لقانطين ـ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [الروم: 49، 50], انظر إلى آثار رحمة الله في النفوس القانطة وفي الأرض الهامدة التي خشعت والتي أنبتت النبات, فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير,
إذن أيها الإخوة في الله ماهو سبب هذا القحط؟ وما سبب جدب الأرض؟ وما سبب عدم نزول الأمطار؟
أخرج البيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((يا معشر المهاجرين خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا, ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان, ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يُمَطروا)) يقول مجاهد بن جبير ـ رحمه الله تعالى ـ: "إن البهائم لتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدت السنين تقول: من شؤم معصية بني آدم ".
ويقول أبو هريرة رضي الله عنه : "إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم".
((ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم من غيرهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل وينظروا فيه إلا جعل الله بأسهم بينهم)) .
أمران ياعباد الله بهما يمنع القطر من السماء, بهما يحصل الجدب والقحط:
أولهما: لم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين, والأخذ بالسنين من البلاء والأخذ بالسنين من العذاب, قال تعالى عن عذاب آل فرعون في الدنيا: ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون [الأعراف: 130] فالأخذ بالسنين من العذاب.
ما هو نقص المكيال والميزان؟ نقص المكيال والميزان أن يغش الناس في معاملاتهم فإذا ذهبت إلى السوق حرص البائع على غبن المشتري فيجعل السلعة الرديئة تحت , وبعض السلعة الحسنة أعلى, يحرص على أن يطفف في المكيال والميزان, إن كان الأمر له بخس صاحبه, وإن كان الأمر لغيره اكتال عليه.
وهذا من أسباب شدة المؤنة إذ قال : ((إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجَوْر السلطان))
إذا صلح الناس صلح الولاة عليهم بإذن الله رب العالمين, إنه على كل شيء قدير ((وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان)) ثم قال : ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم)) ـ هذا هو السبب الثاني لتأخر نزول الغيث من السماء ـ ((إلا مُنعوا القطر من السماء)) , يكنزون الذهب والفضة, يكنزون أموالهم ولا يخرجون منها شيئًا, وإن أخرجوا, أخرجوا دون ما أمر الله به في النصاب, ترى بعضهم أمواله بالملايين ويخرج بضعة آلاف ظنًا منه أن هذه تغني عن الزكاة ولا يتحرى في زكاة ماله, ووالله الذي لا إله إلا هو لتبلغ زكاة مال بعضهم في السنة الواحدة بالملايين ولا يخرج منها إلا بضعة آلاف, ثم يقول أخرجت زكاة مالي. لم يا عبد الله, لم هذا البخل؟ لم هذا الكنز للمال؟ أما سمعت قول الله تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [التوبة: 34].
أتريد أن تنال هذا العذاب الأليم أتعرف ما هذا العذاب الأليم؟ يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون [التوبة: 35] , وإذا نزلت قطرات من المطر, وإذا نزل غيث من السماء ما كان ذلك إلا للبهائم, ولولا البهائم لم يمطروا, أي ولولا البهائم موجودة لم يمطروا, فإذن المطر الذي ينزل قليلاً ليس لهؤلاء العصاة المصّرين على معاصيهم, الذين لا يقلعون عنها, الذين لا ينفون أسباب القحط وعدم نزول المطر, إنما الرحمة بالبهائم, إنما الرحمة بالعجماوات, ولولا البهائم لم يمطروا, هكذا بين لنا الصادق المصدوق.
ونحن أيها المسلمون مضطرون إلى الغيث غاية الضرورة، ولا يستطيع أحد أن ينزل الغيث إلا الله تعالى وحده، الذي يجيب المضْطر إذا دعاه، ويكشف السوء عمن لاذ بحماه، فهو غياث المستغيثين وجابر المنكسرين وراحم المستضعفين، وهو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم، يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، وهو اللطيف الخبير. ولا أدل على هذا من الاستمطار الاصطناعي الذي شاهده الجميع ولم ينجح لأن الله لم يقدر نزول الغيث
أيها المسلمون، إذا علمنا أننا مضطرون إلى رحمة ربنا وغيثه غاية الضرورة، وأنه لا يكشف ضرنا ولا يغيث شدتنا إلا الرحمن الرحيم الجواد الكريم. وإذا علمنا أن الدعاء هو العبادة، وأن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً، وأن من دعا الله بإخلاص وصدق فلن يخيب، فإما أن يعطى مطلوبَه أو يْدخر له ما هو أكثر منه وأعظم، أو يدفع عنه من السوء ما هو أشد وأكبر، وإذا علمنا أن ربنا تعالى قريب ممن دعاه وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ونعلم أن للداعي المضطر منزلة خاصة أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء [النمل:62].
وهذا النبي يونس لما التقمه الحوت وأضحى رهين بطنه في الظلمات المتراكمة ماذا صنع؟ لقد لجأ إلى ربه وتضرع إليه بالتوحيد والشهادة، التوحيد الذي هو مفزع الخلائق إلى ربها، وهو ملجؤها وحصنها وغياثها، قال تعالى عن يونس: فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـٰنَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأنبياء:87]. فجاءه الغوث الإلهي العاجل فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـٰهُ مِنَ ٱلْغَمّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـى ٱلْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87]، أي وكذلك نصنع بالمؤمنين إن فعلوا مثل ما فعل. إذا علمنا ذلك كله يا عباد الله، أفلا نلجأ إلى ربنا وخالقنا ورازقنا ومولانا جل في علاه؟ أفلا نحاسب أنفسنا ونتفقد حالنا في جنب الله تعالى، ألم نسمع قوله تعالى ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ [الروم:41]، ألم نسمع قوله جل وعز وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
إذا علمنا أيها المسلمون ذلك كله فلنتوجه بقلوبنا إلى ربنا ولنرفع أيدينا إليه، مستغيثين به راجين لفضله آملين لكرمه وقدموا بين يدي ذلك توبة نصوحاً واستغفاراً من الذنوب. ألا فاتقوا الله ربكم وتوجهوا إليه بقلوبكم، وأحسنوا به الظن في نفوسكم. تعجّلوا الإنابة، وبادروا بالتوبة، وألحوا في المسألة، فبالتوبة النصوح تغسل الخطايا بطهور الاستغفار، وتستمطر السماء وتستدر الخيرات وتستنزل البركات.
عباد الله، تبارك اسم ربنا وتعالى جده، هو غفار الذنوب، وستار العيوب، ينادي عباده وله الحمد: وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ويناديهم في ملئه الأعلى: ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم)). سبحانه وتقدس هو أعلم بخلقه، علم عجزهم وضعفهم ونقصهم وتقصيرهم، ففتح لهم باب الرجاء في عفوه والطمع في رحمته. والأمل في مرضاته: وَٱللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، الرحمات من ربنا فياضة لا ينقطع مددها، والنعم من عنده دفاقة لا ينقص عطاؤها. ومن ذا الذي يتألى على الله ألا يغفر ذنوب عباده وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلاَّ ٱللَّهُ [آل عمران:135].
ياعباد الله، إذا كثر الاستغفار في الأمة، وصدر عن قلوب بربها مطمئنة دفع الله عنها ضروباً من النقم، وصرف عنها صنوفاً من البلايا والمحن: وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33]، وبالاستغفار تتنزل الرحمات: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل: 46]، وأفضل الاستغفار ـ أيها الإخوة ـ أن يبدأ العبد بالثناء على ربه ثم يثَنِّيَ بالاعتراف بالنعم، ثم يقرَ لربه بذنبه وتقصيره، ثم يسألَ بعد ذلك ربه المغفرة. كما جاء في حديث شداد بن أوس عن النبي أنه قال: ((سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) قال أهل العلم: وقد كان سيد الاستغفار لأنه تضمن الاعتراف بربوبية الله سبحانه وإلهيته وتوحيده، والاعتراف بعجز العبد وتقصيره، واعترافه بأنه في قبضة مولاه، لا مهرب منه ولا مفر، وتضمن اجتهاد العبد بدخوله تحت عهد ربه ما استطاع وأطاق، لا بحسب حق الله وجلاله وعظمة مقامه، ولكنه جهد المقل.
وما أسرع أثر الضراعة والاستكانة والابتهال إلى الله تعالى إن وافق توحيداً وتوكلاً على الله وثقة به وبواسع فضله. قحط الناس في آخر مدة الناصر لدين الله، فأمر القاضيَ منذر بن سعيد البلوطي بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهب لذلك وصام بين يديه ثلاثة أيام، تنفلاً وإنابة ورهبة، فاجتمع له الناس في المصلى بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مكان ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج والضراعة إلى الله، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى، ثم خرج نحوهم ماشياً مخبتاً، وقام ليخطب، فلما رأى الناس في ارتقابه، رقت نفسه وغلبته عيناه، فاستعبر وبكى حيناً، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيها الناس، سلام عليكم، ثم سكت، ولم يكن من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما به، ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً لقول الله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام:54]، ثم قال: استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، وتزلفوا بالأعمال الصالحات لديه. فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته ففزع الناس بوعظه، وأحس الناس الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أمر الله السماء بماء منهمرٍ، روى الثرى، والله لطيف بعباده، قريب ممن دعاه و إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11].
أقول قولي…

الخطبة الثانية
الحمد لله، والاستعانة بالله، والشكوى إلى الله، والرحمة من الله، واللطف بيد الله، والرزق عند الله، والغيث بيد الله، والتوبة إلى الله، والناس جميعاً فقراء إلى الله، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء وهو الباطن فليس دونه شيء، له الحمد كله، وإليه يرجع الأمر كله علانيته وسره، لا رب سواه ولا راحم إلا إياه، والصلاة والسلام على أعرف الخلق بمولاه، قام لربه حتى تفطرت قدماه، ضج بالدعاء والتضرع لربه حتى سقط رداؤه، وهو المجاب من ربه إذا دعاه.
فإن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله وهو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [فاطر: 15 ـ 17], وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [هود: 6].
اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم نسألك أن تغيث قلوبنا وتحييها بذكرك وتصلح باطننا وظاهرنا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً طبقاً سحاً مجللاً، عاماً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل، اللهم تُحي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد. اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق. اللهم اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحيي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا بركاتك، واجعل ما أنزلته قوةً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك.
سبحانك اللهم ربنا عليك توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، اللهم اكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم اسقنا الغيث، وآمنا من الخوف، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين. اللهم ارحم الأطفال الرضع، والبهائم الرتع، والشيوخ الركع، وارحم الخلائق أجمعين.
اللهم إن بالبلاد والعباد والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك اللهم إنا نستغفرك ونستسقيك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً. اللهم اسقنا سقيا نافعة واسعة تزيد بها في شكرنا، وتوسع فيها على فقرائنا وتحيي بها أرضنا، أنت الحي فلا تموت وأنت القيوم فلا تنام بك نصول ونجول وعليك التكلان.
اللهم لا تردنا خائبين ولا من رحمتك مطرودين ولا من عفوك محرومين
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى ................
المشاهدات 1566 | التعليقات 0