لماذا لا نحتفي بعشر ذي الحجة ؟! الجمعة الأولى شهر ذي الحجة 1441/12/3هـ

يوسف العوض
1441/12/01 - 2020/07/22 13:32PM
الخطبة الأولى:
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : حِين تَبهتُ قيمةُ الشيءِ فِي نَفْسِ الإنسانِ بِسَبَب الإلفِ والاعتيادِ لَا يعودُ الإنسانُ يتلقّاه بِمَا هُوَ أَهْلٌ لَهُ مِنْ الحفاوةِ . وَقَد فكرتُ مَرَّة . . مَا الَّذِي يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ لَا يحتفي بِالْأَشْيَاء الثمينةِ وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ ؟
فوجدتُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أُمُورٍ : أَوَّلُهَا : أَلَّا يَكُونَ عارفاً أصلاً بِقِيمَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَلَا مدركاً لنفاستِهِ .
وَثَانِيهَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ معلوماً عِنْدَه ، لَكِنَّه محبوسٌ فِي العقلِ ، لَمْ يَنْزِلْ إلَى القلبِ حَيْث مُستقَرُّ الشُّعورِ .
وَثَالِثُهَا : أَنْ يَكُونَ عارفاً بقيمتِهِ ، مستشعراً لنفاستِهِ ولكنَّ أموراً أُخْرَى تنازعُ مَكَانَهُ فِي القلبِ ، وتجورُ عَلَى حصتِهِ مِن الأحاسيسِ . وَحِين طبّقت هَذَا الَّذِي أَقُولُهُ عَلَى موقفنا مِنْ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الحجةِ وجدتُ مصداقَ مَا ظننتُ ، ورأيتُ شواهدَ مَا كنتُ فِيهِ قَدْ فكرتُ . ووجدتُ أَن العلةَ الْحَقِيقِيَّةَ فِي انصرافِ أَكْثَرِنَا عَن الحَفَاوَةِ بِهَذِه العشرِ هِيَ الْعِلَّةُ الثانيةُ ، أَعْنِي : انحباسَ المعلوماتِ فِي العقلِ ، وَعَدَمَ نُزُولِهَا فِي القلبِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَإنَّ مَنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ أَنَّنَا ألِفْنَا الْحَدِيثَ عَنْ مَوَاسِمِ الْفَضَائِل وَأَوْقَاتِ الْبَرَكَاتِ حَتَّى تَبَلَّدَت أحاسيسُنا ، وَرُبَّمَا كــان الْبَعْضُ  لِكَثْرَةِ مَا سَمِعَ عَنْ الْعَشْرِ  سيسابقُ الْخَطِيبَ فِيمَا يَرْوِيهِ مِنْ آثَارٍ وَأَخْبَارٍ وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ رَجَعَ المحدِّثُ والمحدَّثُ إلَى سِيرَتِهِمَا الْأُولَى فَمَا عَمِل الْأَوَّلُ وَلَا اِتَّعَظ الثَّانِي ! فَأَيُّ خَيْرٍ  فِي كَثْرَةِ الْحَدِيث إذْن ؟ هَل تَحَوَّلَت مَوَاسِمُ الْخَيْرَاتِ وَأَيَّامُ الْبَرَكَاتِ إلَى مُجَرَّدِ مُنَاسِبَاتٍ لِلْحَدِيثِ وَاسْتِعْرَاضِ المهاراتِ الْبَلَاغِيَّةِ والقدراتِ الْعِلْمِيَّة ؟ إنّ كُلَّ مَا آملُهُ أَلَّا يَكُونَ حَدِيثُنَا الْيَوْم مندرجاً فِي هَذَا السياقِ !! إنّني أؤمّلُ حقّاً أَنْ يَكُونَ الحديثُ أشبَهَ شيءٍ بالمحفّزاتِ الكيمائيّةِ لَا تُضَيفُ جديداً إلَى المركّبِ ولكنّها تُعجّلُ بتفاعلِهِ . أعيروني إذْن قُلُوبَكُم وأرواحَكم… علَّ ذلكَ أَن يهبَ الحديثَ روحاً مِن صفاءٍ تَحْمُلُنِي وَإِيَّاكُم عَلَى أَنْ نجدَ جديداً مِن المشاعرِ  إذ نَقْرَأ مكروراً مِنْ الْقَوْلِ ! ولنُحاولُ إذنَ  فِي مَقَامِنَا هَذَا أَنْ نَجْعَلَ مَا نعرفُهُ عَن (العشر ِالْأَوَائِلِ مِنْ ذِي الحجةِ) ينزلُ فِي مُسْتَقَرِّ الشُّعُور . . كَيْفَ ذَلِكَ ؟ حقيقةً لَا أَدْرِي . . وَلَكِنَّنِي سأحاولُ بِمَا أَذْكُرُ مَنْ تَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ ، وَأُبَيِّنُ مِنْ مَعَارِفَ ولطائفَ أَنْ أُلامسَ مَشَاعِرَ كُلِّ رِجْلٍ مِنْكُمْ عَلّه أَنْ يَنْفُخَ فِيمَا عَلِمَ عقلُهُ مِنْ رَوْحِ قلبِهِ فتنتفضَ الْمَعَانِي لَدَيْه حيةً تؤزُه إلَى الصَّالِحَاتِ أَزاً .
آيَُها الْمُسْلِمُون : اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ ، أَدْرَى بِضَعْفِه ، وَأَدْرَى بِعَجْزِه ، وَبِحَاجَتِه الْمُسْتَمِرَّةِ إلَى التَّذَكُّرِ والتزودِ ، وَمِنْ ثَمَّ جَعَلَ لَهُ فِي أَيَّامِ عَامَّه نَفَحَاتٍ ، وَفِي مَوَاسِمِ دَهْرِه وقفاتٍ ، يَرْجِعُ مِنْهَا بِزَادٍ مِنْ التَّقْوَى مُتَجَدِّدٍ ، وبجذوةٍ مِنْ الْإِيمَانِ مُتَوَقِّدٍ . وَمِنْ هَذِهِ الْمَوَاسِمِ الْأَيَّامُ الْعَشَرَةُ الْأُولَى مِنْ ذِي الْحِجَّةِ . خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (ما مِنْ أَيَّامِ الْعَمَلُ الصَّالِحِ فِيهِنّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ ، يَعْنِي أَيَّامََ الْعَشْرِ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَال : وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بشيءٍ ) الْبُخَارِيّ . وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْعَمَلِ فِي غَيْرِهَا ، وَإِذَا كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ فَهُوَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ . وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمَفْضُولَ فِي الْوَقْتِ الْفَاضِل يَلْتَحِقُ بِالْعَمَلِ الْفَاضِلِ فِي غيرِه ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ لِمُضَاعَفَةِ ثَوَابِهِ وَأَجْرِهِ . وَلَكِنْ هَلْ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَفْضِيلُ كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَقَعُ فِي غَيْرِهَا وَإِنْ طَالَتْ مُدَّتُهُ ؟ نَقولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يَقَعُ فِي هَذَا الْعَشْرِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْعَمَلِ فِي عَشرَةِ أَيَّامٍ سِوَاهَا مِنْ أَيِّ شَهْرٍ كَانَ ! فَيَكُون تَفْضِيلًا لِلْعَمَلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الْعَشْرِ عَلَى الْعَمَلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ غَيْرِه . وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا جَاءَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (ما مِنْ أَيَّامِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هُنّ أَفْضَلُ أَمْ عِدَّتَهُنّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَال : هُوَ أَفْضَلُ مِنْ عِدَّتَهُنّ جِهَادًا فِي سَبِيلِ الله) فَلَمْ يَفْضُلْ الْعَمَلُ فِي الْعَشْرِ إلَّا عَلَى الْجِهَادِ فِي عِدَّةِ أَيَّامِ الْعَشْرِ لَا مُطْلَقًا . وَلَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ عَشَرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعُشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَرَأَى شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ أَيَّامَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ خَيْرٌ مِنْ أَيَّامِ عَشْرِ رَمَضَانَ الْأَوَاخِرِ ، وَلَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ خَيْرٌ مِنْ لَيَالِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَلَعَلَّ مِمَّا يُقَوَي هَذَا أَنَّ أَفْضَلَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَنْتَهِي بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ، عَلَى حِينِ أَنْ أَفْضَلَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، وَهِيَ تَنْتَهِي بِطُلُوعِ الشَّمْسِ . وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ يُنْكِرُ هَذَا وَيَرَى أَنَّ أَيَّامَ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلَيَالِيهَا أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَلَيَالِيهَا ، وَيَحْتَجُّ بِرِوَايَةٍ فِيهَا زِيَادَةٌ ( ولا لَيَالِي خَيْرٌ مِنْ لياليهن ) وَيَقُول رَحِمَهُ اللَّهُ : وَحَدِيثُ جَابِرٍ صَرِيحٌ فِي تَفْضِيلِ لَيَالِيه كَتَفْضِيل أَيَّامِه أَيْضًا ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ الْأَيَّامُ دَخَلَتْ فِيهَا اللَّيَالِي تَبَعًا وَكَذَلِك اللَّيَالِي تَدْخُل أَيَّامُهَا تَبَعًا ، ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالتَّحْقِيقُ مَا قَالَهُ بَعْضُ أَعْيَانِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ يُقَالَ : مَجْمُوعُ هَذِهِ الْعَشْرِ أَفْضَلُ مِنْ مَجْمُوعِ عَشْرِ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ فِي عَشْرٍ رَمَضَانَ لَيْلَةٌَ لَا يَفْضُلُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا .
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : يَقولُ بَعضُ أَهلِ العِلمِ : وَهَذِه الْعَشْرُ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فلما كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَضَعَ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِين الشَّوْقَ إلَى مُشَاهَدَةِ بَيْتِه الْحَرَامِ وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ قَادِرًا عَلَى مُشَاهَدَتِه فِي كُلِّ عَامٍ ، فَرَضَ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ الْحَجَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِه ، وَجَعَل مَوْسِمَ الْعَشْرِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ السَّائِرِين والقاعدين فَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ فِي عَامٍ ، قَدَرَ فِي الْعَشْرِ عَلَى عَمَلٍ يَعْمَلُهُ فِي بَيْتِهِ يَكُونُ أَفْضَلََ مِنْ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الحج. 
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَمِنْ فَضَائِلِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ..
1ـ إنَّ اللَّهَ أَقْسَم بِهَا جُمْلَةً فِي قَوْلِهِ : { وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ } ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ عَشْرُِ ذِي الْحِجَّةِ .
2ـ أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي واعدها اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمّ مِيقَات رَبِّه أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } 3ـ أَنَّهُ خَاتِمةُ أَشْهُرِ الْحَجِّ : شَوَّالٍ وَذِي الْقِعْدَةِ وَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، قَالَ اللَّهُ { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ }.
4ـ أَنَّهَا مِنْ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ ذَكَرَهُ فِيهَا عَلَى مَا رَزَقَ مِنْ بَهِيمَةٍ الْأَنْعَامِ ، قَالَ تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا وَعَلَى كُلٍّ ضَامِرٍ يَأْتِين مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِع لَهُم وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامِ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمُ مِنْ بَهِيمَةٍ الْأَنْعَامِ } وَجُمْهُورُ الْعُلَماءِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ هِيَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ .
5ـ أنّ فِيهَا يَومِي عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَهُمَا مِنْ أَعْظَمِ أَيَّامِ الْإِسْلَام ، وَفِي الْحَدِيثِ (أعظمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَوْمَ النفر ) رواه أحمد وَأَبُو داود .
6ـ أنَّ أَعْمَالَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةِ لَا تَجْتَمِعُ إلَّا فِيهَا ، قَالَ ابْنُ حجرٍ : والذي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غيره .
وَإِذْ كَانَتْ الْعَشْر بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْفَضِيلَةِ فَالْوَاجِبُ إذَن اِغْتِنامُها بِالْجِدِّ والاجتهاد ، فكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذَا دَخَلَتْ الْعَشْرُ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ يَقُولُ : لَا تَطفِئوا سُرُجَكُم لَيَالِي الْعَشْرِ ، تُعْجِبُه الْعِبَادَة.
الخطبة الثانية:
أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ : ثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ الْعِبَادَاتِ يَحْسِنُ الْإِكْثَارُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَمِنْ ذَلِكَ :
1ـ ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ففِي الْحَدِيثِ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : (ما مِنْ أَيَّامِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثَرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ  والتحميد ) . وَيُسْتَحَبُّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ التَّكْبِيرُ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا ، فَيَجْهَرُ الرِّجَالُ بِالتَّكْبِيرِ الْمُطْلَقِ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ ذِي الْحِجَّةِ فِي الطُّرُقَاتِ وَالشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاق ، وَبِالتَّكْبِيرِ الْمُقَيَّدِ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ  وَمِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لِلْحَاجِّ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ يَأْتِيَان السُّوقَ أَيَّامَ الْعَشْرِ فيُكبِّران وَيُكَبِّرُ النَّاسُ مَعَهُمَا ، وَلَا يَأْتِيَان لِشَيْءٍ إلَّا لِذَلِك.
2_ الصِّيَام وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ الْعَشْرَ أَوْ أَكْثَرَهَا فَعَن أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ ) رَوَاهُ أَحْمَدُ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنّه كَانَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَأَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ والخميسَ ،  وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَحُثُّ عَلَى صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَقُول : (صيامُ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ، وَاَلَّتِي بعده ) .
3ـ قِيَامُ اللَّيْلِ : وَهُوَ دَاخِلٌ فِي مُطْلَقِ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْمُبَارَك ، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ اجْتَهَد اجْتِهَادًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
4ـ الْأُضْحِيَّة : وَهِيَ مَا يُذْبَحُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تُذْبَح ضَحَّى بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَهِيَ سُنَّةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا ليذكروا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهَم مِنْ بَهِيمَةٍ الْأَنْعَامِ } وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَيُكْرَه لِلْقَادِرِ أَنْ يَدَعَهَا لِأَنَّ اللَّهَ قَرَنَهَا بِالصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } ،  وَذَبْحُهَا أَفْضَلُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِثَمَنِهَا ، وَقَدْ ضَحَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقرنينِ أَحَدِهِمَا عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْآخَر َعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِهِ ، وللإنسانِ أَنْ يُضَحِّيَ عَمَّن شَاءَ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ . وَيُشْتَرَطُ فِي الْأُضْحِيَّةِ أَنَّ تَكُونَ مِنْ بَهِيمَةٍ الْأَنْعَامِ (الإبل وَالْبَقَر والغنم) ، وَأَنْ تَكُونَ فِي السِّنِّ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا [خمسٌ لِلْإِبِل وسنتانِ لِلْبَقَر وَسُنَّةٌ لِلْمَعْز وَنِصْفُهَا للضأن] ، وَأَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ كَالْعَوَر وَالْعَرَج وَنَحْوِهِمَا ، وَأَنْ تُذْبَحَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ لِحَدِيثِ (من ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيَذْبَحْ مَكَانَهَا أخرى ) البخاري وَمُسْلِمٌ . وَتُجْزِئُ الشَّاةُ عَنْ الْوَاحِدِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَعَمَّن شَاءَ عَلَى أَنَّ يَكُونَ الْمَالِكُ وَاحِدًا وَالشَّرِكَةُ فِي الثَّوَابِ أَمَّا الِاشْتِرَاكُ فِي الْمِلْكِ فَلَا يَصِحُّ فِي الشَّاةِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا مَالِكٌ وَاحِدٌ وَأَمَّا الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ فَإِلَى سَبْعَةٍ . وَذَبْحُ الْأُضْحِيَّةِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ بِثَمَنِهَا وَلَوْ زَادَ فَإِنَّ نَفْسَ الذَّبْحِ وَإِرَاقَةِ الدَّمِ مَقْصُودٌ فَإِنَّهُ عِبَادَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالصَّلَاةِ . وَالسُّنَّة لِمَن ضَحًى إنْ يَقْسِمَ أُضْحِيَتَه ثَلَاثًا : يَأْكُلُ ثُلُثَا ، وَيَتَصَدَّقُ بِثُلُثٍ ، وَيُهْدِي ثُلُثَا . وَيَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ أَوْ ظُفْرِهِ أَوْ بَشَرَتِه [أي جِلده] مِنْ طُلُوعِ هِلَالِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالسِّرُّ فِي هَذَا مُشَابَهَةُ الْمُحرمِ  ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (إذا دَخَلَ الْعَشْرُ ، وَأَرَاد أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يَأْخُذْنَ مِنْ شَعْرِه وَلَا مِنْ بَشَرَتِهِ وَلَا مِنْ ظُفْرِهِ شيئا ) مسلم.
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ التَّحْرِيمَ خَاصٌّ بِمَنْ يُضَحِّي ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَبَّ بَيْتٍ ضَحَّى عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ لَمْ يَكُنْ التَّحْرِيمُ إلَّا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا أَهْلُ الْبَيْتِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ شُعُورِهِم أَو أَظْفَارِهِم لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمَن يُضَحِّي وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ لَا تَأْخُذُوا مِنْ شعوركم وأبدانكم شَيْئًا .
المشاهدات 1073 | التعليقات 1

مستفادة والله الموفق