لماذا تضاءل خوف الله في قلوبنا؟ من جميل المنقول
عبدالرحمن اللهيبي
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمَلُوا فِي دُنْيَاكُمْ لآخِرَتِكُمْ، وَخُذُوا مِنْ حَيَاتِكُمْ لِمَوْتِكُمْ، وَمِنْ صِحَّتِكُمْ لِسَقَمِكُمْ
أيها المسلمون: إننا نتحدث اليوم عن أمر جليل وعمل قلبي عظيم.. كم فكَّ اللهُ بهِ من أسيرِ شهوةٍ حالت بينه وبين ربهِ، كم أطلقَ الله بهذا العمل القلبي من سجينِ لذّات وشهوات أطبقت عليهِ سُرادقُها ، ألا إنَّهُ الخوفُ من الله يا مسلمون .. عبادة قلبية جليلة عظيمة
وإن عبادة الخوف من الله باتت في هذا الزمان عند كثير من المسلمين هشة ضعيفة ، بل إنهم لا يحبون سماع من يخوِّفهم بالله تعالى ، وينفرون من خطابه ،
ويتبرمون من حديثه ، وينزعجون من قوله ، ولا يرغبون إلا فيمن يحدثهم عن سعة رحمة الله فقط ، يريدون أن يسمعوا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، ولا يرغبون أن يسمعوا: وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ
عباد الله : اعلموا أنَّ الخوف من الله هو سمةُ الأنبياء والصالحين وآيةُ المؤمنينَ والمتقين، وهو طريقُ الأمنِ في الآخرة فمن خاف من الله في الدنيا أمّنه الله في الآخرة
إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ ، وأهل الجنة يتذاكرون فيها خوفهم من الله في الدنيا : قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ
فالخوف من الله منزلة جليلة من منازل الصالحين ،
فالخوف من الله هو المانعُ للذنبِ ، هو العاصمُ من الخطأ وأنَّى لقلبٍ لم يُزرع فيه خوفُ اللهِ أن يرتدِعَ عن الهوى،
وكيفَ لفؤادٍ لم تسكنهُ خشيةُ الله ، والهيبةُ لجلالهِ ، والوجلُ من عقابه ، والإشفاقُ من وعيده ، كيف له أن يُعمرَ بالطاعةِ ويتجافى عن المعصيةِ
والله ما كثُرت الذنوبُ ، ولا أظلمتِ القلوبُ، ولا استوحشت الصدور إلاَّ حين ضعف الخوفُ من علامِّ الغيوب
قُلوبُنا يا مسلمون لضعف الخوف من الله قست وتحجرت، وجوارحُنَا في المعاصي والملذات شُغلت وانغمست، فأين القلوب الخاشعة وأين العيون الباكية،
كان النبي ﷺ يصلِّي ولجوفِهِ أزيزٌ كأزيزِ المِرجَلِ منَ البُكاءِ وكان أبو بكر رجل أسيف كثير البكاء ، وكان يُسمع نشيج الفاورق في صلاة الفجر حين يصلي بالناس، وكذلك كان الصالحون من الصحابة ومن بعدهم تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا
واليوم نجد من أحوالنا الضعف والغفلة والبعد عن الله النفوسُ بالشهوات ساهية، والعيون في رؤية المحرمات والعورات في الأفلام والمسلسلات لاهية , والألسن بالغيبة والنميمة والآفات لاغية
ها هي المعاصي تُشاهَد جهارا ولا تجد قلبا يُنكرُها، ويُشاهدُ المنكرُ عيانا وكأنَّهُ أصبح معروفا، تبدلت الموازين وانتكست المفاهيم , وتنتهك محارم الله دون أدنى حرجٍ في النفسِ منها أو إنكارٍ في القلبِ لحدوثها فأين الخوف من الله وأين تعظيم حرمات الله والله يقول: ((ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّم حُرُمٰتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ ))
هذهِ يا أخوتي حالُنا يومَ أن ضعُفَ خوفُ الله في قلوبنا، وقلت هيبةُ اللهِ في نفوسنا وتضاءلت عظمت الله في صدورنا
فلماذا لا نخافُ الله أيها المسلمون ؟
أليسَ كل ما في الكونِ شاهدٌ على عظمتهِ وقدرته : السماءُ ونجومها، والكواكبُ وأفلاكُها، والبحارُ وما فيها، والجبالُ وما يعتليها، والأنهارُ ومجاريها، والشجرُ وأوراقهُ، والبرقُ وضوءهُ، والرعدُ وصوتهُ، والليلُ وأستارهُ، والنهارُ وأنوارهُ، وكل ما في الكونِ شاهدٌ على عظمةِ الجبَّارِ جلَّ جلالهُ
لماذا ضعف خوف الله في قلوبنا ؟ أليس هو الجبار الذي يطوي السمواتِ يومَ القيامةِ ثُمَّ يأخذهُنَّ بيده، ثُمَّ يقولُ : أنا الملكُ أين الجبارون؟ أينَ المُتكبرون ؟ ثُمَّ يطوي الأرضيين، ثُمَّ يأخذهنَّ ويقولُ : أنَا الملكُ أين الجبارونَ أين المتكبرون؟
لماذا ضعف خوف الله في قلوبنا ، والملائكةُ أعظم منا خَلْقا وأحسن منا عبادة وأكثر منا طاعة وهم مع كل ذلك يخافونَ ربهم من فوقهم، ويفعلونَ ما يُؤمرُون ، وهُم من خشيتهِ مُشفقون.
بل قد خافهُ سيِّدُ الورى، وخيرُ من وطئَ الثرى، والذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال ﷺ : واللهِ إنِّي لأعلمُكَم باللهِ، وأشدُّكم لهُ خشية
وخافهُ كذلك الصالحونَ الذين إذا ذُكرَ اللهُ وجلت قُلوبُهم لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكرِ الله، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، يخافونَ يوماً تتقلبُ فيه القلوبُ والأبصار
فأين الخوف من الله لمن يصر على الموبقات والكبائر ويجاهر بالقبائح والفواحش؟
وأين الخوف من الله لمن إذا خلا بمحارم الله انتهكها؟ وأين الخوف من الله عند من يعق والديه ويقطع أرحامه ؟
وأين مخافة الله لمن يطلق لسانه يفري في أعراض المسلمين وأين مخافة الله عند من يخاصم الله في شرعه وينازعه في حكمه ويعترض عليه في أمره ونهيه؟
الخائفُ من اللهِ يا مسلمون هو من يُبادرُ بالخيراتِ قبل الممات، ويغتنمُ الأيامَ والأوقات والساعات
الخوف -رحمكم الله- يجعل العبدَ دائمَ اليقظة, جادّ العزيمة, كثير الوجل من سوء المصير.
فقد خاف الله حق الخوف, من لم يأكل حراما, ولم يشهد زورا, ولم يحلف كذبا, ولم يخلف وعْدا, ولم يخن عهدا, ولم يغشّ في معاملة, ولم يخن في شركة, ولم يمش في نميمة, ولم يهجر مساجد الله
خاف حق الخوف من الله, من أقام الصلاة, وآتى الزكاة, وصام فرضه, وأطاع ربّه, ووصل رحمه, وأمر بالمعروف, ونهى عن المنكر, وأعطى كل ذي حقّ حقّه.
الخائف من الله يغض بصره عن الحرام ويمسك لسانه عن الوقوع في الآثام
الخائف من الله إذا وقع في إثم أو خطيئة بادر بالتوبة والاستغفار ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (( وأمَّا من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى )) أقولُ قولي هذا
أيُّها المسلمون : إنَّ ربَّكم يُنادِيكم من على عرشهِ بكلماتٍ في كتابهِ نصُّها : (( فلا تخشوا الناس واخشون)) فمن منَّا استجابَ لنداءِ الله ؟
من منَّا إذا دعتهُ نفسهُ إلى مخالفةِ أمرِ الله قال : إني أخافُ اللهَ ربَّ العامين
من منَّا إذا سولت لهُ نفسهُ اتباعِ الشهواتِ عصاها وقال: إنِّي أخافُ إن عصيتُ ربِّي عذابَ يومٍ عظيم
من منا إذا سمع مناديَ الله (حي على الصلاة) بادر من فوره وترك ما في يده وأقبل مجيبا لنداء ربه
أخي أيُّها العاصي وكلُّنا وربي كذلك ..
أخي أيُّها المذنبُ وكلُّنا من أولئك
إنِّي أحذِّرُكَ ونفسي مقاماً عنت فيهِ الوجوهُ ، وخشعت فيهِ الأصوات ، وذلَّ فيه الجبَّارون ، وتضعضعَ فيه المتكبرون ، واستسلمَ فيه الأولونَ والآخرون، وقد جمعهم الواحدُ القهار، بعد طولِ البلى , للفصلِ والقضاء، في يومٍ آلَ فيه على نفسهِ أن لا يتركَ فيهِ عبداً أمرَهُ في الدنيا ونهاه، حتى يسألَهُ عن عملهِ في سرِّهِ ونجواه فانظر بأيِّ حال ستقفُ بين يدي الله ، وأعد للسؤالِ جواباً وللجوابِ صواباً
فيا عبد الله أقبل على الله البر الرحيم الغفور الكريم أقبل عليه محبة ورجاء .. وخشية وإشفاقا فهو الله جل جلاله , ملاذ كل مكروب وملجأ كل مهموم , ومنتهى كل شكوى , وكاشف كل بلوى , يجيب المضطر إذا دعاه , ويكشف السوء عن من ناداه , يمنح الجزيل لمن أمله ورجاه , ويغفر الذنوب ويستر العيوب لمن عافاه
إله.. هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها , وأبر بخلقه من أنفسهم إله.. يبسط يده بالليل ليتوبُ مسيء النهار , ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل , إله.. يفرح بتوبة عبده أشد من فرحة الضال إذا وجد , والغائب إذا وفد , والظمآن إذا ورد
إلهٌ.. يجود بالحلم على العاصي , ويتفضل على المسيء بالنعم , من ذا الذي أقبل عليه فرده , ومن ذا الذي أناخ ببابه فنحاه , إنه الله اللطيف الخبير من دعاه لباه ومن تاب إليه قربه واجتباه, فاستمعوا إلى نداء الرحيم الرحمن إلى نداء الطيف المنان , إنه الله يدعوكم وهو القوي وأنتم الضعفاء , يناديكم وهو الغني وأنتم الفقراء (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم , يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار , وأنا اغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم)
فاللهم إنا نستهديك ونستغفرك فاغفر لنا ذنوبنا واستر عيوبنا وإسرافنا في أمرنا ، واملأ قلوبنا بمحبتك ورجائك وخشيتك يا ذا الجلال والإكرام
المرفقات
1658480026_الخوف من الله .doc
المشاهدات 1186 | التعليقات 3
تصحيح:
ذكرت: والله يقول ((ذلك ومن يعظم حرمات الله فإنها من تقوى القلوب))
والصواب:
﴿ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّم حُرُمٰتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّت لَكُمُ الأَنعٰمُ إِلّا ما يُتلىٰ عَلَيكُم فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِنَ الأَوثٰنِ وَاجتَنِبوا قَولَ الزّورِ﴾ [الحج: 30 - 30]
أو لعلك أردت هذه الآية:
﴿ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعٰئِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِن تَقوَى القُلوبِ﴾ [الحج: 32 - 32]
جزاك الله خيرا، وبارك لك وفيك
تم التعديل
وجزاكم الله خيرا
عوض آل دبيس
جزاك الله خير
خطبة عظيمة جليله
تعديل التعليق