لقد كان لسبأ في مسكنهم آية
محمد كياد المجلاد
1432/07/14 - 2011/06/16 17:42PM
حديثنا لهذا اليوم عن مدينة من المدن قص الله قصتها علينا لتكون من المواعظ والعبر فكانت من أجمل قرى ذلكم الزمان ولكنها باتت قاعاً صفصفا لا ترى فيها خضرة ونضرة حديثنا عن آيتين من كتاب الله تعالى نستخلص منهما الحِكم والعبر لعلنا ممن يستمع القول فيبع أحسنه حديثنا عن قصة قرية سبأ وما أدراك ما سبأ هي من أعظم النبأ .
أيها المسلمون يقص الله تعالى علينا من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية ما فيه عبرة وعظة لقد أخذهم الله تعالى وراء ازدهارحضارتهم لما غمرتهم الخيرات وفتحت عليهم الدنيا ، ولكن خلت قلوبهم من الذكر والشكر ,. وفسدت أحوالهم وساءت حياتهم كلها. فأهلكهم الله .
يقول الله تبارك وتعالى{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ }.
روى الإمام الترمذي ~ في جامعه عن فَرْوَة بن مُسَيْك الغُطَيْفي ~ قال: قال رجل: يا رسول الله، أخبرني عن سبأ: ما هو؟ أرض، أم امرأة؟ قال e: "ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد، فتيامن ستة وتشاءم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا: فكندة، والأشعريون، والأزد، ومذحج، وحمير، وأنمار". فقال رجل: ما أنمار؟ قال: "الذين منهم خثعم وبجيلة". قال الترمذي حديث حسن غريب .
قال علماء النسب، منهم محمد بن إسحاق ~: اسم سبأ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب، وكان يقال له: الرائش؛ لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه، فسمي الرائش، والعرب تسمي المال: ريشا ورياشا. وذكروا أنه بشَّر برسول الله e في زمانه
حتى قال شاعرهم :
سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظيمًا *** نَبيّ لا يُرَخِّصُ في الحَرَام
وسُميَ أحْمَدًا يَا لَيْتَ أني *** أُعَمَّرُ بَعْد مَبْعَثه بعام
فأعضُده وأَحْبوه بنَصْري *** بكُل مُدَجّج وبكُل رام
وقال القزويني ~ أن سبأ مدينة كانت بينها وبين صنعاء ثلاث أيام بناها سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان فكانت مدينة حصينة كثيرة الأشجار لذيذة الثمار كثيرة أنواع الحيوان وهي التي ذكرها الله سبحانه في كتابه العزيز.
ويقول الإمام الحافظ ابن كثير ~ : في تفسيره لهذه الآيات: كانت سبأ ملوكَ اليمن وأهلها، وكانت التبابعة منهم، وبلقيس صاحبة سليمان u منهم ، وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم، وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم. وبعث الله إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء الله ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ، شذر مَذرَ . أ . هـ
وعن ابن زيد tفي قوله : لقد كان لسبا في مسكنهم قال : لم يكن يرى في قريتهم بعوضة قط ولا الذباب ولا برغوث ولا عقرب ، ولا حية ، وان الركب ليأتون في ثيابهم القمل والدواب ، فما هو إلا أن ينظروا إلى بيوتها ، فتموت تلك الدواب ، وان كان الإنسان ليدخل الجنتين ، فيمسك القفة على رأسه ، ويخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفاكهة ، ولم يتناول منها شيئا بيده .
وذكر غير واحد من السلف منهم ابن عباس رضي الله عنهما، ووهب بن منبه، وقتادة، والضحاك رحمهم الله تعالى؛ أن الله، عز وجل، لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم، بعث على السد دابة من الأرض، يقال لها: "الجُرَذ" وهي الفأرة نقبته .
وقال وهب بن منبه ~: وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب خراب هذا السد هو الجُرَذ فكانوا يرصدون عنده السنانير (أيّ القطط)برهة من الزمان، فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير، وولجت إلى السَّدّ فنقبته، فانهار عليهم.
والمتأمل في هذه القصة العجيبة يجد أن كثير من بلاد العالم تعج بالخيرات والنعم وهم يكفرون بالرحمن سواءً كفر جحود وتكذيب أو جحود وكفر النعمة التي ساقها الله تعالى لهم ولما بين الله حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان & وأنهما من القليل الذين يشكرون الله بين حال الكافرين بأنعمه بذكر هذه القصة التي تبين حال كل شاكر ومصير كل كافر فلينتبه المؤمن لذلك فإن كان من الشاكرين فيحمد الله تعالى ويزيد من شكره فإن الشكر يزيد من الله كلما زاد من العبد وإن كان ممن يكفر النعمة فليتب قبل حلول الندم.
كذلك من الناس من يكون في رغد من الحال ، واتصال من التوفيق ، وطرب من القلب ، ومساعدة من الوقت ، فيرتكب زلّة أو يسىء أدبا أو يتبع شهوة ، ولا يعرف قدر ما هو به ، فيتغير عليه الحال فلا وقت ولا حال ، ولا طرب ولا وصال يظلم عليه النهار وقد كانت لياليه مضيئة فيكفر بالنعمة ويجحدها أو يبذر أو يسرف في استخدامها أو يبخل على نفسه وعياله وقد رزقه الله تعالى خيراً كثير أو يزدري من الفقراء والمساكين وينتقص منهم وإن أعطاهم صدقة أو إحسانا منّه عليهم ويعطيهم وهو يحسب أنه هو المتفضل عليهم ولو تأمل حاله لعلم أن الله تعالى تفضل عليه بهؤلاء الفقراء الذين ترفع الصدقة عليهم الحسنات وتقيل العثرات فالله المستعان وإلى الله المشتكى.
ولو كان شرطاً يا عباد الله في الانتفاع بالنعمة أداء ثمنها من الشكر لما وفّت أعمال العبد كلها بنعمة واحدة ؛ فالاعتراف بالنعمة والاجتهاد في شكرها هو المطلوب ، والله (سبحانه) هو الذي يحب إذا أنعم على عبد أن يرى أثر نعمته عليه والله تعالى لا يريد منا أن نطعمه ولا نرزقه بل يريد الشكر على هذه النعمة .
يقول علي بن أبي طالب t :
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإنَّ المعاصي تزيل النَّعَم
فإن تعط نفسك آمالها***فعند مناها يحلُّ الندم
فأين القرون ومن حولهم ***تفانوا جميعاً وربي الحكم
محامد دنياك مذمومة ٌ***فلا تكسب الحمد إلا بذم
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة
عن الصحابي الجليل عقبة بن عامرt عن النبي e قال : ( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج " ثم تلا رسول الله (: ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ) .
قال أبو حازم ~ ( إذا رأيت الله عز وجل سابغ نعمته عليك وأنت تعصيه فاحذره ).
لهذا كان النبي e يقول: في دعائه : ( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحول عافيتك وفُجاءة نقمتك ، وجميع سخطك ) .
وقد بين الله تعالى في كتابه عاقبة كفر النعمة . وأن الإنسان لا يغتر بإنعام الله عليه مع إعراضه وجحوده فقال تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}
فالكافرون يفتح عليهم أبوابُ كل شيء - فتنةً –لهم واستدراجا ومكر بهم ، ولكنهم مع كل ذلك النعيم يحرمون " البركة " التي تفتح على المؤمنين الشاكرين .
ومن هنا يتبن لكل عاقل أن العبد لا يغتر بما يرى من فتح الدنيا بشهواتها ولذاتها على العصاة والمفسدين . فإن هذا ليس دليل رضا بل هو استدراج ، كما ثبت في السنة المفسرة للقرآن .
الاستهانة بالنعم كبيرها وصغيرها، ورميها مع النفايات مع أن كثيراً من الفقراء والمساكين يتمنون نصف ذلك أو ربعه ؛ فكيف وهم لا يجدون ما يسدون به رمقهم ، وهذه النعم ترمى مع النفايات ، وما يرمى من بعض البيوت قد يكفي لعائلة كاملة من العوائل الفقيرة .
لما ذكر الله أن آتى كل رجل من قبيلة سبأ بجانب بيته بستانين وجنتين، عن يمين وعن شمال، يخرج من بيته وبستان عن يمينه وبستان عن شماله، شجر متدلٍ ونعيم خالد، ظل وارف، وماء بارد، وطيور ترفرف، وحياة رغيدة، ولكن القلوب أعرضت عن منهج الله، مثلما يفعل الآن: بيوت وقصور وفلل وسيارات ورغد ومطاعم ومشارب، ولكن هناك من يفسد ويريد ألا ينكر عليه، ومن يفجر ويريد أن يسكت عنه، ومن يتخلع عن الدين، ويقيم المنكر ويستهزئ بالرسالة وغيرها من المعاصي التي يندى لها الجبين المؤمن .
قرية سبأ أغضبوا الله، فما حاربهم الله بجيش أو أنزل عليهم ملائكة؛ لأنهم أصغر وأذل، قال بعض العلماء: يا ضعيف العزم! يا فقير الإرادة! أتحارب الله؟ الله لما حاربه نمرود بن كنعان ، أرسل له بعوضه فقتلته .
غضب الله عليهم؛ فأرسل عليهم فأرة فنحت السد، فهوى السد، فاجتاحهم الماء، فصاروا شذر مذر، بكى الأطفال والشيوخ وولولت، النساء، ولكن ولات ساعة مندم! كذلك من يخرج عن شريعة الله ومن يتذمر عن رسالة الله ويغضب الله.
البرامكة أسرة عاشت في عصر العباسيين وزراء، وكانوا يُطْلون قصورهم بماء الذهب، لكن هل أرضوا الله؟ ما عدلوا ولا خافوا الله، وكان كأس الخمر والفتيات والغانيات في قصورهم، وتر ونغم في قصورهم، فحذرهم أحد العلماء وقال لهم: انتبهوا إن النعم لا تقيد إلا بالشكر.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم ***وحافظ عليها بتقوى الإله فإن الإله سريع النقم
قال: قيدوها بالشكر، لكن لم يفعلوا، وفي لحظة من اللحظات أغضب الله عليهم أقرب الناس إليهم هارون الرشيد فاجتاحهم بالسيف، قتل شبابهم ضحى، وأخذ شيوخهم وقادهم وهم يتباكون إلى السجن، حبسهم حبساً عظيماً، وقد بكى خالد بن يحيى البرمكي في السجن سبع سنوات، وطالت أظفاره؛ وما وجد ما يقلم أظفاره بعد النعيم، وطال شاربه وما وجد مقصاً، وعميت عيناه، قال له أحد الناس وقد زاره في السجن: ما هذا البلاء يا خالد ؟ قال: دعوة مظلوم سرت بليل، غفلنا عنها وما غفل الله عنها !
اللهم أجعلنا من الشاكرين الذاكرين لنعمتك وهدايتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحول عافيتك وفُجاءة نقمتك ، وجميع سخطك .
اللهم صلي على محمد