لقاء المنبر : مع الشيخ إبراهيم الحقيل حول(الخطباء ومطلب التأثير في الجماهير)
أبو عبد الرحمن
1432/05/27 - 2011/05/01 07:05AM
الخطباء ومطلب التأثير في الجماهير
يسرّ موقع المنبر أن يطرحَ هذه المجموعةَ من الأسئلة المتعلّقة بموضوع: "الخطباء ومطلب التأثير في الجماهير" على فضيلة الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل إمام وخطيب جامع المقيل بالرياض، حفظه الله.
المنبر:فضيلة الشيخ، من الملاحَظ في جوامع المسلمين التفاوتُ الكبير من جامع لآخر من حيث الإقبالُ عليه لأداء شعيرة الجمعة، ففي حين تمتلئ بعض الجوامع قبل الصلاة بمدّة نجد جوامعَ أخرى لا يكاد يأتيها المصلون إلا قبل إقامة صلاة الجمعة بقليل! ففي نظركم ما أسباب هذا التفاوت؟
الشيخ:حياكم الله تعالى، وشكر لكم جهودكم، وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم.
الأسباب لذلك كثيرة، أهمها:
1- الشهرة، فإذا كان الخطيب مشهورًا بإبرازٍ إعلاميٍّ ونحوه فإنَّ عامّةَ الناس ينساقون إليه ولو تعدَّوا أثناءَ المسير إليه من هو أجودُ منه.
2- كونُ الخطيب يهتمّ بمعالجة واقع الناس المحلي أو الإقليمي أو الدولي، بمعنى أنه يواكب الأحداث فهذا يحرص الناس عليه، فإن كان في معالجاته يعمد إلى الإثارة والتصعيد ازداد الحضور أكثرَ جمعةً بعد جمعةٍ، لكنه عرضةٌ لأن يوقَف فينقطِع عن المنابر كما أُوقف كثير من الخطباء بسبب ذلك.
3- كون الخطبة جيّدةَ المضمون والأسلوب، ويهتمّ الخطيب بها.
4- صوت الخطيب إن كان جميلا، وإلقاؤُه إن كان حماسيًّا يجذب كثيرًا من الناس ولو كان مضمون خطبته متوسِّطًا أو ضعيفًا.
وهناك عوامل أخرى لا تتعلَّق بالخطبة ولا بالخطيب؛ مثل كونِ المسجد يصلَّى على الجنائز فيه، فيقصده ذوو الأموات أو مَن يريدون أجرَ الصلاة على الأموات، أو كونه في سوقٍ أو قريبًا منه، أو كونه موئلًا لعلماء فيأتي الطلبة لأجلهم، أو لكبراء وأغنياء فيقصدهم أصحاب الحاجات فيمتلئ الجامع بهم.
المنبر:كثيرٌ من الخطباء يردّ اللومَ في ظاهرة التأخّر على المصلّين، وأنّ ذلك من ضعف إيمانهم، ويبرّئ ساحتَه ولا يدرس أسبابَ إخفاقِه في استقطاب الجماهير، ففي رأيكم ما الأسباب التي تحمل الناس على النفور من خطيب والإقبال على خطيب آخر؟
الشيخ: في ظني ليس ثمّةَ رابطٌ بين جودة الخطبةِ وبين التبكير للجمعة أو التأخر عنها إلا في جامعٍ يقصده الناس لأجلِ الخطبة، وهذا غالبًا يكون في الخطب المثيرة، وهو استثناء وليس قاعدةً عامّة، فالتبكير والتأخير عن الجمعة يتعلَّق بعوامل أخرى بالنسبة للمأمومين منها: حرصُ المأموم على التبكير للجمعة لنيل ثوابِ ذلك، ومنها الاستعدادُ المبكّر لها، وأكثر ما يجعل الناس يتأخَّرون عن الجمعة السّهر ليلتها، ولا سيَّما أنَّ أكثر مناسبات الناس من أعراس ونحوها تكون في تلك الليلة. وعلى الخطباء أن يذكروا بين حين وآخر بفضل التبكير للجمعة، خاصّة وأن هذا الموضوع فيه نصوص كثيرة مغرية بأجورٍ عظيمة.
المنبر:من العوامل الأساسيّة في تحقيق التأثير: مكانة الخطيب في مجتمعه، طريقة الأداء وأسلوب الإلقاء، مضمون الخطبة، مناسبة الخطبة للزمان والمكان، حجم الخطبة. نرجو منكم -حفظكم الله- أن تبيّنوا لنا كيف يستثمر الخطيب هذه العوامل لإنجاح تأثيره.
الشيخ: الكلام على هذه الفقراتِ يحتاج إلى عدّة مقالات، ويمكن أن ألخِّص ذلك فيما يلي:
1- الإخلاص لله تعالى، ثمّ قصد منفعة الناس بمنبر الجمعة.
2- الحرص على الخطبة والإجادة في اختيار موضوعها وكتابتها، ومشاورة السابقين في هذا الميدان أو المبدعين فيه.
3- تنمية الخطيب لمعلوماته وثقافته يكسبه قوةً وقدرةً على تلمّس حاجات الناس وسدها.
4- قد تكون العلّة في الخطيب نفسِه بأن يكون ضعيفًا أو غيرَ مؤهَّل أو لا يحسن هذا الفنَّ، فعليه أن ينصرف إلى غيره، ويترك منبره لمن يجيد ذلك فينفع الناس.
5- وعلى الخطيب أن يكون قدوةً صالحة في مجتمعه، فلا يقَع الناسُ على ما يُعاب منه أو يُنتَقَد.
المنبر:يشكو كثير من المصلين من بُعد الخطيب عن واقعهم، وغيابه عن الأحداث والمستجدات، فلا يجدون عنده الحلول الشرعية لمشكلاتهم، ولا يسمعون منه الموقف الشرعي المتّزن في القضايا المستجِدّة، فهل من كلمة للخطباء بهذا الخصوص؟
الشيخ: سبب ذلك في ظني يعود إلى أمرين:
أولهما: خوفُ الخطيبِ من الجهات الرّقابية؛ لأنه تقريبا في كل الدول الإسلامية يمارَس شيء من الإرهاب والتقييد للخطباء، مع فتح الحريّة على مصاريعِها للإعلاميّين والصحفيّين، ولهذا التقييد الشديدِ أثرُه على كثير من الخطباء الذين يؤثرون السلامة.
ثانيهما: عدم قدرة الخطيب على معالجة النوازل بتوازن، وضعفُ معلوماته تجاهها، فيخشى إن عالجها أن يزلَّ ويخطئ، وفي الوقتِ نفسه لا يريد أن يبحَثَ ويتعبَ ويقرأ في النازلة حتى يستوعبها. ومنهم من يخشى من الحماسِ الذي قد يضرُّه فينصرف عن الموضوع بالكلية.
فكان الخطيب بين سببين يمنعانه من معالجة المستجدات: خوف أو عجز، أو كلاهما.
نعم، يوجد منهج آخرُ منحَرفٌ لدى بعض الناس، يرى عدمَ طَرق النوازل على المنابر بحجَّة أنّ هذا محدَث في الدين، وهذا يدلّ على جهلٍ فاضح ممن يقول به، أو هوى مستحكِم، لكن هؤلاء قلّة، وهم يعيشون خارجَ سياق الزّمن وأحداثه، وأثرهم في الناس ضعيفٌ جدًّا.
المنبر:قد ينجح الخطيب أحيانًا في التأثير الآنيّ، لكن يصعب عليه التأثير الدائم المستمرّ، فما سرّ ذلك؟ وما الحلّ لتخطِّي هذه العقبة؟
الشيخ: لهذا الأمر أسباب عدة: منها ما يتعلَّق بالمصلي نفسِه من وجود مؤثّرات أخرى على الناس غير الخطبة، فالمصلّي يستمع للخطبة ويتأثر بها ويعزم على تطبيق ما فيها، لكنه ينصرف من المسجد إلى فضائيات فتمسح أثرَ الخطبة.
ومنها ما يتعلَّق بالخطيبِ في عدَم قدرته على إقناع المصلّي بأهمية الموضوع الذي عالجه في خطبته، أو ضعفه في الخطوات العلاجية، فكثير من الخطباء يشخِّص المشكلةَ تشخيصًا صحيحًا، لكنه يضعف في خطوات العلاج، وكأنه يترك ذلك للمستمع.
وكثيرًا ما يكون صاحبُ المشكلة لا يدري أنّه واقع فيها أو هو المقصود بالخطبة، فتجد مثلا الخطيبَ يتكلَّم عن ظلمِ الزوجات وخطره على الزّوج الظالم، وتجد بعضَ من ظلموا زوجاتهم في المسجِد يهزّون رؤوسهم مستنكرين الظلمَ متعوِّذين منه متَبرِّئين ممن وقَع فيه، وهم من أشدِّ الناس ظلمًا لزوجاتهم ولا يدرون، وهنا على الخطيب الحصيفِ أن يجعل الناس يشعرون بأنهم ليسوا في منأى عن هذا الظلم، وذلك بأن يعدَّ نفسه منهم فيقول: (ومن منّا أيّها الإخوة يسلَم من ظلمه لزوجته؟! فمنا من يمنعها حقَّها الشرعي...) إلخ، فحينما يعدِّد الخطيب صورَ الظلم ينتبه الظالم منهم ويحاسِب نفسه، وكون الخطيب نزَل معهم بنفسه في هذه المشكلة يجعلهم لا يأنفون ويكابرون ويعتقدون أنهم في منأى عن الظلم. هذا مثال.
فالحاصل أنّ ثمة طرقًا كثيرة تجعَل للخطبة أثرًا مستمِرًّا بإذن الله تعالى، وكلُّ خطيب هو أدرى بنفسه وجماعة مسجده وما يناسبهم من الأساليب، لكن عليه أن يتلمسَ ذلك ويبحثَ قدرَ المستطاع إلى أن يصل للأسلوب الأمثل.
المنبر:من ناحية أخرى يغلو بعض المصلين في طلب الخطيب المفوَّه المِصقع، ويتلمّسون الخطيب البليغ المعصومَ من اللحن، غافلين عن أنّ خطبةَ الجمعة قبل أن تكونَ مقطوعةً بلاغيّة أدبيّة فهي شعيرة ربانيّة وفريضة شرعيّة، يذكّر فيها الخطيب الناسَ بتقوى الله تعالى والاستعداد لليوم الآخر، فهل من نصيحةٍ لعامّة المسلمين تعيد الحقَّ إلى نصابه؟
الشيخ: في ظني أنَّ الخطابة سوقٌ يعرض فيه الخطباء بضائعَهم على الناس، والناسُ يختارون الأنفعَ لهم فلا يلامون على ذلك، لكن المهمّ هو الخطيب بأن يعتني بخطبته ما استطاع، وأن يعطيها ما تستحقّ من الوقت والجهد والبحث.
وأتّفق معك على أن الخطبةَ ليست مقطوعة أدبيّة بلاغية يتبارى الخطباءُ فيها على الفصاحةِ والبلاغة، بل هي خطابٌ شرعيّ وعظيّ إصلاحيّ، فيجب على الخطيبِ أن ينأى بنفسِه عن التكلّف في الصوَر البلاغيّة وأن لا يغربَ في مفرداتِ الخطبة وجملها؛ وذلك لأجلِ أن يفهَمَه عامّة الناس إذ هم المقصودون بها، ولئلا تتحوَّل نيّته من الإصلاح بالخطبة إلى إثباتِ ذاته وبلاغتِه وبراعته، فتمحق بركة خطبته.
كذلك ينبغي بل يجِب أن لا تكونَ الخطبة مبتذلَة ضعيفةَ الأسلوب، ركيكةَ العبارات، مفكَّكة الجمَل، كأنها حديث عامَّة في مجلسِ لهو؛ لأنها حينئذ تفقد هيبتها وتأثيرها في الناس، والتوازنُ هو الخيار في ذلك.
المنبر:كلمة أخيرة لإخوانكم الخطباء في شتى بقاع العالم.
الشيخ: أوصي نفسي وإياهم بتقوى الله تعالى، والإخلاص له سبحانه فيما نكتب ونُلقي، وإتباع القولِ العمل، وأن نكونَ قدوة حسنة للنّاس، وأن نجتهدَ في الإصلاح ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وأن نعتنيَ بنشرِ السنّة وتحبيبَ الناس فيها، ولا نستعجلَ النتائج، فالله تعالى كلَّفنا بالعمل، وأما الأثر فبتوفيقه سبحانه وتعالى.
وأكرِّر شكري لكم على هذه الاستضافةِ، وأسأل الله تعالى أن يوفِّقنا جميعًا لما يحبّ ويرضى.
المنبر:فضيلة الشيخ، من الملاحَظ في جوامع المسلمين التفاوتُ الكبير من جامع لآخر من حيث الإقبالُ عليه لأداء شعيرة الجمعة، ففي حين تمتلئ بعض الجوامع قبل الصلاة بمدّة نجد جوامعَ أخرى لا يكاد يأتيها المصلون إلا قبل إقامة صلاة الجمعة بقليل! ففي نظركم ما أسباب هذا التفاوت؟
الشيخ:حياكم الله تعالى، وشكر لكم جهودكم، وأسأل الله تعالى أن ينفع بكم.
الأسباب لذلك كثيرة، أهمها:
1- الشهرة، فإذا كان الخطيب مشهورًا بإبرازٍ إعلاميٍّ ونحوه فإنَّ عامّةَ الناس ينساقون إليه ولو تعدَّوا أثناءَ المسير إليه من هو أجودُ منه.
2- كونُ الخطيب يهتمّ بمعالجة واقع الناس المحلي أو الإقليمي أو الدولي، بمعنى أنه يواكب الأحداث فهذا يحرص الناس عليه، فإن كان في معالجاته يعمد إلى الإثارة والتصعيد ازداد الحضور أكثرَ جمعةً بعد جمعةٍ، لكنه عرضةٌ لأن يوقَف فينقطِع عن المنابر كما أُوقف كثير من الخطباء بسبب ذلك.
3- كون الخطبة جيّدةَ المضمون والأسلوب، ويهتمّ الخطيب بها.
4- صوت الخطيب إن كان جميلا، وإلقاؤُه إن كان حماسيًّا يجذب كثيرًا من الناس ولو كان مضمون خطبته متوسِّطًا أو ضعيفًا.
وهناك عوامل أخرى لا تتعلَّق بالخطبة ولا بالخطيب؛ مثل كونِ المسجد يصلَّى على الجنائز فيه، فيقصده ذوو الأموات أو مَن يريدون أجرَ الصلاة على الأموات، أو كونه في سوقٍ أو قريبًا منه، أو كونه موئلًا لعلماء فيأتي الطلبة لأجلهم، أو لكبراء وأغنياء فيقصدهم أصحاب الحاجات فيمتلئ الجامع بهم.
المنبر:كثيرٌ من الخطباء يردّ اللومَ في ظاهرة التأخّر على المصلّين، وأنّ ذلك من ضعف إيمانهم، ويبرّئ ساحتَه ولا يدرس أسبابَ إخفاقِه في استقطاب الجماهير، ففي رأيكم ما الأسباب التي تحمل الناس على النفور من خطيب والإقبال على خطيب آخر؟
الشيخ: في ظني ليس ثمّةَ رابطٌ بين جودة الخطبةِ وبين التبكير للجمعة أو التأخر عنها إلا في جامعٍ يقصده الناس لأجلِ الخطبة، وهذا غالبًا يكون في الخطب المثيرة، وهو استثناء وليس قاعدةً عامّة، فالتبكير والتأخير عن الجمعة يتعلَّق بعوامل أخرى بالنسبة للمأمومين منها: حرصُ المأموم على التبكير للجمعة لنيل ثوابِ ذلك، ومنها الاستعدادُ المبكّر لها، وأكثر ما يجعل الناس يتأخَّرون عن الجمعة السّهر ليلتها، ولا سيَّما أنَّ أكثر مناسبات الناس من أعراس ونحوها تكون في تلك الليلة. وعلى الخطباء أن يذكروا بين حين وآخر بفضل التبكير للجمعة، خاصّة وأن هذا الموضوع فيه نصوص كثيرة مغرية بأجورٍ عظيمة.
المنبر:من العوامل الأساسيّة في تحقيق التأثير: مكانة الخطيب في مجتمعه، طريقة الأداء وأسلوب الإلقاء، مضمون الخطبة، مناسبة الخطبة للزمان والمكان، حجم الخطبة. نرجو منكم -حفظكم الله- أن تبيّنوا لنا كيف يستثمر الخطيب هذه العوامل لإنجاح تأثيره.
الشيخ: الكلام على هذه الفقراتِ يحتاج إلى عدّة مقالات، ويمكن أن ألخِّص ذلك فيما يلي:
1- الإخلاص لله تعالى، ثمّ قصد منفعة الناس بمنبر الجمعة.
2- الحرص على الخطبة والإجادة في اختيار موضوعها وكتابتها، ومشاورة السابقين في هذا الميدان أو المبدعين فيه.
3- تنمية الخطيب لمعلوماته وثقافته يكسبه قوةً وقدرةً على تلمّس حاجات الناس وسدها.
4- قد تكون العلّة في الخطيب نفسِه بأن يكون ضعيفًا أو غيرَ مؤهَّل أو لا يحسن هذا الفنَّ، فعليه أن ينصرف إلى غيره، ويترك منبره لمن يجيد ذلك فينفع الناس.
5- وعلى الخطيب أن يكون قدوةً صالحة في مجتمعه، فلا يقَع الناسُ على ما يُعاب منه أو يُنتَقَد.
المنبر:يشكو كثير من المصلين من بُعد الخطيب عن واقعهم، وغيابه عن الأحداث والمستجدات، فلا يجدون عنده الحلول الشرعية لمشكلاتهم، ولا يسمعون منه الموقف الشرعي المتّزن في القضايا المستجِدّة، فهل من كلمة للخطباء بهذا الخصوص؟
الشيخ: سبب ذلك في ظني يعود إلى أمرين:
أولهما: خوفُ الخطيبِ من الجهات الرّقابية؛ لأنه تقريبا في كل الدول الإسلامية يمارَس شيء من الإرهاب والتقييد للخطباء، مع فتح الحريّة على مصاريعِها للإعلاميّين والصحفيّين، ولهذا التقييد الشديدِ أثرُه على كثير من الخطباء الذين يؤثرون السلامة.
ثانيهما: عدم قدرة الخطيب على معالجة النوازل بتوازن، وضعفُ معلوماته تجاهها، فيخشى إن عالجها أن يزلَّ ويخطئ، وفي الوقتِ نفسه لا يريد أن يبحَثَ ويتعبَ ويقرأ في النازلة حتى يستوعبها. ومنهم من يخشى من الحماسِ الذي قد يضرُّه فينصرف عن الموضوع بالكلية.
فكان الخطيب بين سببين يمنعانه من معالجة المستجدات: خوف أو عجز، أو كلاهما.
نعم، يوجد منهج آخرُ منحَرفٌ لدى بعض الناس، يرى عدمَ طَرق النوازل على المنابر بحجَّة أنّ هذا محدَث في الدين، وهذا يدلّ على جهلٍ فاضح ممن يقول به، أو هوى مستحكِم، لكن هؤلاء قلّة، وهم يعيشون خارجَ سياق الزّمن وأحداثه، وأثرهم في الناس ضعيفٌ جدًّا.
المنبر:قد ينجح الخطيب أحيانًا في التأثير الآنيّ، لكن يصعب عليه التأثير الدائم المستمرّ، فما سرّ ذلك؟ وما الحلّ لتخطِّي هذه العقبة؟
الشيخ: لهذا الأمر أسباب عدة: منها ما يتعلَّق بالمصلي نفسِه من وجود مؤثّرات أخرى على الناس غير الخطبة، فالمصلّي يستمع للخطبة ويتأثر بها ويعزم على تطبيق ما فيها، لكنه ينصرف من المسجد إلى فضائيات فتمسح أثرَ الخطبة.
ومنها ما يتعلَّق بالخطيبِ في عدَم قدرته على إقناع المصلّي بأهمية الموضوع الذي عالجه في خطبته، أو ضعفه في الخطوات العلاجية، فكثير من الخطباء يشخِّص المشكلةَ تشخيصًا صحيحًا، لكنه يضعف في خطوات العلاج، وكأنه يترك ذلك للمستمع.
وكثيرًا ما يكون صاحبُ المشكلة لا يدري أنّه واقع فيها أو هو المقصود بالخطبة، فتجد مثلا الخطيبَ يتكلَّم عن ظلمِ الزوجات وخطره على الزّوج الظالم، وتجد بعضَ من ظلموا زوجاتهم في المسجِد يهزّون رؤوسهم مستنكرين الظلمَ متعوِّذين منه متَبرِّئين ممن وقَع فيه، وهم من أشدِّ الناس ظلمًا لزوجاتهم ولا يدرون، وهنا على الخطيب الحصيفِ أن يجعل الناس يشعرون بأنهم ليسوا في منأى عن هذا الظلم، وذلك بأن يعدَّ نفسه منهم فيقول: (ومن منّا أيّها الإخوة يسلَم من ظلمه لزوجته؟! فمنا من يمنعها حقَّها الشرعي...) إلخ، فحينما يعدِّد الخطيب صورَ الظلم ينتبه الظالم منهم ويحاسِب نفسه، وكون الخطيب نزَل معهم بنفسه في هذه المشكلة يجعلهم لا يأنفون ويكابرون ويعتقدون أنهم في منأى عن الظلم. هذا مثال.
فالحاصل أنّ ثمة طرقًا كثيرة تجعَل للخطبة أثرًا مستمِرًّا بإذن الله تعالى، وكلُّ خطيب هو أدرى بنفسه وجماعة مسجده وما يناسبهم من الأساليب، لكن عليه أن يتلمسَ ذلك ويبحثَ قدرَ المستطاع إلى أن يصل للأسلوب الأمثل.
المنبر:من ناحية أخرى يغلو بعض المصلين في طلب الخطيب المفوَّه المِصقع، ويتلمّسون الخطيب البليغ المعصومَ من اللحن، غافلين عن أنّ خطبةَ الجمعة قبل أن تكونَ مقطوعةً بلاغيّة أدبيّة فهي شعيرة ربانيّة وفريضة شرعيّة، يذكّر فيها الخطيب الناسَ بتقوى الله تعالى والاستعداد لليوم الآخر، فهل من نصيحةٍ لعامّة المسلمين تعيد الحقَّ إلى نصابه؟
الشيخ: في ظني أنَّ الخطابة سوقٌ يعرض فيه الخطباء بضائعَهم على الناس، والناسُ يختارون الأنفعَ لهم فلا يلامون على ذلك، لكن المهمّ هو الخطيب بأن يعتني بخطبته ما استطاع، وأن يعطيها ما تستحقّ من الوقت والجهد والبحث.
وأتّفق معك على أن الخطبةَ ليست مقطوعة أدبيّة بلاغية يتبارى الخطباءُ فيها على الفصاحةِ والبلاغة، بل هي خطابٌ شرعيّ وعظيّ إصلاحيّ، فيجب على الخطيبِ أن ينأى بنفسِه عن التكلّف في الصوَر البلاغيّة وأن لا يغربَ في مفرداتِ الخطبة وجملها؛ وذلك لأجلِ أن يفهَمَه عامّة الناس إذ هم المقصودون بها، ولئلا تتحوَّل نيّته من الإصلاح بالخطبة إلى إثباتِ ذاته وبلاغتِه وبراعته، فتمحق بركة خطبته.
كذلك ينبغي بل يجِب أن لا تكونَ الخطبة مبتذلَة ضعيفةَ الأسلوب، ركيكةَ العبارات، مفكَّكة الجمَل، كأنها حديث عامَّة في مجلسِ لهو؛ لأنها حينئذ تفقد هيبتها وتأثيرها في الناس، والتوازنُ هو الخيار في ذلك.
المنبر:كلمة أخيرة لإخوانكم الخطباء في شتى بقاع العالم.
الشيخ: أوصي نفسي وإياهم بتقوى الله تعالى، والإخلاص له سبحانه فيما نكتب ونُلقي، وإتباع القولِ العمل، وأن نكونَ قدوة حسنة للنّاس، وأن نجتهدَ في الإصلاح ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وأن نعتنيَ بنشرِ السنّة وتحبيبَ الناس فيها، ولا نستعجلَ النتائج، فالله تعالى كلَّفنا بالعمل، وأما الأثر فبتوفيقه سبحانه وتعالى.
وأكرِّر شكري لكم على هذه الاستضافةِ، وأسأل الله تعالى أن يوفِّقنا جميعًا لما يحبّ ويرضى.