لـــــــــــــــذة العبادة

علي القرني
1442/04/23 - 2020/12/08 11:12AM

يتلذَّذ الناسُ بما يتلذَّذون به، ويستمتِعون بما يستمتِعون به، غيرَ أن تلك اللذائِذ زائلةٌ فانيةٌ؛ بل منها ما ينقلِبُ إلى حسَرات، واللذَّةُ الحقيقية هي اللذَّةُ المعنويَّة .. لذَّة القلوب، لذَّة العبادة التي تجعل المُسلمَ في أعلى درجات السعادة واللذَّة. قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «ذاقَ طعمَ الإيمان من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحمَّدٍ رسولاً».أخبرَ – صلى الله عليه وسلم – أن للإيمان طعمًا، وأن القلبَ يذوقُه كما يذوقُ اللسانُ طعمَ الطعام والشراب. وقال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان».الإيمان له حلاوةٌ ولذَّة يسعَدُ بها القلب، وتطمئنُّ النفسُ، وتأنَسُ الروح. وبهذه اللذَّة يجنِي العبدُ الثمارَ الحقيقية، والسعادةَ الأبديَّة. بهذه اللذَّة يصلُحُ القلب ويُفلِحُ ويُسرُّ ويَطيبُ، ويطمئنُّ ويسكُن، ولو حصلَ له كلُّ ما يلتذُّ به من المخلوقات. لكل ملذوذٍ في الدنيا لذَّةٌ واحدةٌ ثم تزُول، إلا العبادة لله – عز وجل -؛ فإن لها ثلاث لذَّات: إذا كنتَ فيها، وإذا تذكَّرتَ أنك أدَّيتَها، وإذا أُعطيتَ ثوابَها.  

ولقراءة القرآن لذَّة وجمال، وسُرورٌ وجلال، كلامُ الله يُتلَى على الألسُن، ويطرُقُ الآذان، فتخشع النفوسُ، وتلينُ القلوب، وتسكُن الجوارِح؛ خشيةً وخشوعًا، حبًّا وحبورًا. ولا شيءَ عند المُحبِّين أحلى من كلام محبوبِهم؛ فهو لذَّة قلوبهم، وغايةُ مطلوبهم. وكيف يشبعُ المُحبُّ من كلام من هو غايةُ مطلوبه؟! يقول عثمانُ بن عفان – رضي الله عنه -: "لو طهُرت قلوبُكم لما شبِعَت من كلام الله".

واللذَّةُ في الذكر – عباد الله – روحٌ وريحانٌ، ولهذا سُمِّيَت مجالِسُ الذكر برياضِ الجنَّة، وما تلذَّذ المُتلذِّذون بمثلِ ذكر الله – عز وجل -. فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مؤونةً، ولا أعظمَ لذَّةً، ولا أكثرَ فرحةً وابتِهاجًا للقلبِ من الذكر. قال الله تعالى:  (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) 

 وفي الإنفاق لذَّةٌ وجد حلاوتَها أبو الدحداح – رضي الله عنه -، حين أنفقَ أنفسَ ماله، وأغلَى ما لدَيه، وجعله في سبيل الله، ثم جاء إلى امرأته، وقال: يا أم الدحداح! اخرُجي من الحائِط؛ فإني قد بعتُه لله. فقالت: ربِحَ البيع.   أن أعظم منحة يمنحها الله لعبده منحة التلذذ بالعبادة، وهي راحة النفس وسعادة القلب وانشراح الصدر وسعة البال أثناء العبادة وعقب الانتهاء منها، وهذه اللذة تتفاوت من شخص إلى شخص حسب قوة الإيمان وضعفه، وتحصل هذه اللذة بحصول أسبابها، وتزول بزوال أسبابها، ويجدر بالمسلم أن يسعى جاهدًا إلى تحصيلها لينعم بالحياة السعيدة. لقد كان رسول الله   يقول لبلال رضي الله عنه: ((أرحنا بالصلاة يا بلال))؛ لما يجده فيها من اللذة والسعادة القلبية، وإطالته   لصلاة الليل دليل على ما يجده في الصلاة من الأنس والسرور بمناجاة ربه، وها هو ذا معاذ بن جبل يبكي عند موته ويقول: (إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر)، ويقول أحد السلف: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله ومعرفته وذكره، وقال آخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.    فكل هذا مما تستلذه النفوس الطيبة، وترتاح له القلوب، وتقر به العيون، أعني: عيون المؤمنين والمؤمنات، قال جل وعلا في كتابه العظيم وهو أصدق القائلين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ۝ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[الأنفال:2-4].

وقال عليه الصلاة والسلام: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وإنما عدل يخاف الله ويرجوه وشاب نشأ في عبادة الله، إنما استلذها لما عرف فيها من الخير، ولما وقر في قلبه من تعظيم الله، والإخلاص له، ومحبته سبحانه، والرغبة فيما عنده ورجل قلبه معلق بالمساجد إنما علق قلبه بالمساجد لما وجد في الصلاة من الخير، والراحة، والطمأنينة، والنعيم ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، لما وجدا في المحبة في الله من الخير العظيم، وراحة القلوب، ونعيم الأرواح، والأنس العظيم؛ لأنهم يعلمون أن هذا يرضي الله، وأن الله شرع لهم ذلك، وأنه يحصل به من الخير العظيم ما الله به عليم من التعاون، والتواصي بالحق والتناصح.
الخامس: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله لماذا قال هذا؟ لما وقر في قلبه من محبة الله، وتعظيمه، وخوفه، ومراقبته  حتى ترك هذه المرأة التي دعته إلى الفجور وهي ذات منصب وجمال فأبى عليه خوفًا من الله، ورغبة فيما عنده، وأنسًا بطاعته، وتلذذًا بما يرضيه ، وهكذا المرأة إذا دعاها ذو منصب وجمال إلى الفاحشة فقالت: إني أخاف الله، وابتعدت عن ذلك لما وقر في قلبها من المحبة لله، والنعيم الروحي، واللذة لطاعة الله، واتباع شريعته.
السادس: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه لماذا؟ لما وقر في قلبه من محبة الله، وتعظيمه، وأنه سبحانه يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه خافية، وأنه يحب الإخلاص له، ويحب العمل من أجله سراً، فلهذا لا تعلم شماله ما تنفق يمينه من عظيم إخلاصه، وعظيم رغبته فيما عند الله، وعدم مبالاته برياء الناس، وحمد الناس وثنائهم.
والسابع: رجل ذكر الله خاليًا، رجل ذكر الله خاليًا - ما عنده أحد - ففاضت عيناه خوفًا من الله، وتعظيمًا له، ومحبة له سبحانه، وأنسًا به فصار من السبعة الذين يظلهم الله في ظله.
إن الإقبال على الله بالعبادة، واستحضار عظمته، وأنك تريد وجهه الكريم، وأنك فعلت هذا ابتغاء مرضاته، وطاعة لأمره، ومحبة له سبحانه، وحرصًا على ما يرضيه ويقرب لديه، كل هذا مما يجعلك تستلذ العبادة، وتقبل عليها، وترتاح لها، وتتنعم بها. واللذَّةُ الدائمةُ – عباد الله -، اللذَّة الدائمة المُستقرَّة التي لا يشُوبُها كدَر، ولا يعقُبُها ألم، ولا يُنقِصُها همٌّ ولا غمٌّ: لذَّة الدار الآخرة ونعيمُها، فهو أفضل نعيمٍ وأجلُّه،  (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يوسف: 57].

 واللذَّة الكبرى والنعيمُ المُقيم: لذَّة النظر إلى وجه الكريم – تبارك وتعالى -، ولهذا كان دُعاء النبي – صلى الله عليه وسلم -: «وأسألُك لذَّة النظر إلى وجهِك، والشوقَ إلى لقائِك، في غير ضرَّاء مُضرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضلَّةٍ». بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية / الحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:

سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله  كيف تعالج قساوة القلب وعدم التلذذ بالطاعة ؟

فأجاب : أن يعالج ذلك بالإكثار من ذكر الله، وقراءة القرآن الكريم، والحذر من الذنوب والمعاصي، والتوبة إلى الله مما سلف، مع الصدق في ذلك، فإذا صدق مع الله في التوبة من المعاصي، وفي الإكثار من ذكره وفي الإقبال على عبادته بقلبه، واستحضار عظمة الله، وأنه يراقبه، إن الله كان على كل شيء رقيبًا ، وأن معه ملكين أحدهما يكتب الحسنات، والثاني يكتب السيئات، باستحضاره هذه الأمور يلين قلبه، ويخشع قلبه، ويستلذ الطاعة، ويرتاح لها، ويأنس بها. ثم صلوا على رسول الله

 

 

المشاهدات 1049 | التعليقات 0