لغة الضاد فضلها وأهمية تعلمها. 140/428هـ

عبد الله بن علي الطريف
1440/05/01 - 2019/01/07 11:04AM
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: يقول الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم:22]
وَالْأَلْسِنَةُ: جَمْعُ لِسَانٍ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى اللُّغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَىِ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إِبْرَاهِيم:4]
وَاخْتِلَافُ لُغَاتِ الْبَشَرِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ.. فَهُمْ مَعَ اتِّحَادِهِمْ فِي النَّوْعِ، كَانَ اخْتِلَافُ لُغَاتِهِمْ آيَةً دَالَّةً عَلَى مَا كَوَّنَهُ اللَّهُ فِي غَرِيزَةِ الْبَشَرِ مِنِ اخْتِلَافِ التَّفْكِيرِ وَتَنْوِيعِ التَّصَرُّفِ..
أيها الإخوة: وإن من أعظمِ اللغاتِ شرفاً وأعلاها مكانةً ورفعةً وأكثرِها إبانةً وإفصاحاً لمرادِ المتكلمِ في دقةٍ متناهيةٍ وزمنٍ وجيزٍ.. اللغة العربية.
ولقد شرفها اللهُ تعالى بأنْ اختارَها لحملِ رسالةِ خاتمِ النبيين إلى الناسِ أجمعين إلى يومِ الدين قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:2]
وقال من نزَّل هذا القرآن: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:192،195]. وقال: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الزخرف:3]. وكرر سبحانه فضلَه بأن جعلَ القرآنَ عربياً في مواضع أخرى متعددة.. ولا غرو أن يُبين اللهُ تعالى فضلَه على هذه اللغةِ وتشريفَه إيها بنزول كتابه الخالد بها..
أيها الأحبة: وبياناً لما ذكره الله تعالى بفضل هذه اللغة العظيمة تحدث أعلام الأمة في فضلها، ومكانتها فقد قَالَ الخليفةُ الراشدُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ، فَإِنَّهَا تَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ" وقال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ" وسَمِعَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلًا يَتَكَلَّمُ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الطَّوَافِ فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ وَقَالَ: "ابْتَغِ إلى الْعَرَبِيَّةَ سَبِيلًا" رواها البيهقي في شعب الإيمان. ورُوي عنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: "تعلموا العربية فإنها من الدين"
وقال عبد الملك بن مروان: "أصلحوا ألسنتكم فإن المرء تنوبه النائبة فيستعير الثوب والدابة ولا يمكنه أن يستعير اللسان، وجمال الرجل فصاحته".
وقال ابن فارس في قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:3،4] قدم الله عز وجل ذكر البيان على جميع ما توحد سبحانه بخلقه، وتفرد بإنشائه، من شمس، وقمر، ونجم، وشجر، وغيرِ ذَلِكَ من الخلائقِ المحْكمة..
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اللغةُ العربيةُ من الدين، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ؛ فإنّ فهمَ الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ". ويقول أيضًا رحمه الله: "ومعلومٌ أن تعلُّمَ العربية وتعليمَها فرضٌ على الكفاية". وقال رحمه الله: "إنّ اللسان العربي شعارُ الإسلامِ وأهلهِ، واللغاتُ من أعظمِ شعائرِ الأمم التي بها يتميّزون".. ووصف ابن كثير رحمه الله اللغةَ العربيةَ وصفاً جميلاً عند قوله تبارك وتعالى: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الدخان:58] أَيْ إِنَّمَا يَسَّرْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ سَهْلًا وَاضِحًا بَيِّنًا جَلِيًّا بِلِسَانِكَ الَّذِي هُوَ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا وَأَعْلَاهَا..
وقال الثعالبي: "من أحبّ الله أحبَّ رسولَه صلى الله عليه وسلم، ومن أحبَّ النبيَّ العربيَّ أحبَّ العربَ، ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربيةَ التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب".
وقال شاعر العربية حافظ إبراهيم على لسانها:
وسعْتُ كتابَ اللهِ لفظاً وغــــــــــــــــايةً ..... ومَا ضقْتُ عنْ آيٍ بهِ وعظاتِ
فكيفَ أضيقُ اليومَ عنْ وصفِ آلةٍ ..... وتنسيقِ أسمـــــــــــــــــــاءٍ ومخترعـــــــــــــــاتِ
أنَا الْبَحْرُ فِي أحشَائهِ الدُّرُ كــــــــامنٌ ..... فهَلْ ساءَلُوا الغواصَ عنْ صدفاتِي
وقال الرافعي رحمه الله: "ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ.." فحافظوا على لغتكم واذكروا فضل ربكم حين قال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف:2]
أيها الإخوة: أن البيان الكامل لا يحصل إلا بالغة العربية: ولذا لم ينزلْ القرآنُ إلا باللغةِ العربية؛ قال تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء:195]، فدلَّ ذلك على أنَّ سائر اللغات دونها في البيان. قال بن فارس: "فلما خَصَّ جل ثناؤه اللسانَ العربيَّ بالبيانِ، عُلِمَ أن سائر اللغات قاصرةٌ عنه، وواقعة دونه" كتابه الصاحبي في فقه اللغة.
ثم إن اللغة العربية هي من أعظم اللغات ثراءً للمعنى ودقة في التعبير وإطراباً للآذان وجمالاً في الشك والنظم والخط.. وأكثرها مفردات وقد نقل بعضهم أن عدد كلماتها أكثر من اثني عشر مليون وثلاثمائة ألف كلمة.. والإنجليزية ستمائة ألف كلمة والفرنسية مائة وخمسين ألف كلمة والروسية مائة وثلاثين ألف كلمة.. فأين الثرى من الثريا..
اللغة العربية أجمل اللغات خطاً وحقٌ للعربي أن يتباهى بروعة خط لغته على اختلاف أنواعه ومدارسه الموحية.. فيجد فيها جمالاً لا يجده بفنون خطوط اللغات الأخرى..
ثم إن في شواهد التاريخ ما يثبت أن اللغة العربية استطاعت أن تحقق متطلبات المجتمع التاريخية عبر الأحقاب المختلفة، بكل المستويات، الدينية والعلمية، والاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والعسكرية.. في عصر النبوة، ثم الخلافة الراشدة، ثم في حكم بني أمية، وما وافقه من تعريب الدواوين، ونظم الإدارة للمجتمعات المختلفة، والأقاليم، والجيوش، والحياة العامة، كما استجابت اللغة لحاجات الحضارة أيام بني العباس، وما واكبها من حركة الترجمة، بل هي لا غيرها كانت لغة العلم والبحث العلمي، في الطب، والعلوم، والرياضيات، والفلك، والهندسة، وغيرها.
والدولة الإسلامية على مرّ عصورها لم تأخذ من الأمم في احتكاكها معها إلا بمقدار الحاجة الماسة، للتعبير عن بعض المعاني التي لم تكن موجودة في لغتها..
ولم تفتنهم لغات هذه الأمم رغم حضارتها العريقة، كفارس والروم واليونان، بل زادهم ذلك تمسكًا وحرصًا بلغتهم.. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم....
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسانَ، وعلَّمَهُ البيانَ، وأشهدُ أنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لاَ شرِيكَ لَهُ الملك الديان، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، سيد الأنام أرسَلَهُ ربُّهُ بلسانٍ عربِيٍّ مبينٍ ليكونَ هدًى ورحمةً للعالمينَ، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ علَيه وعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ. أما بعد....
أيها الإخوة: التقيت بمكة شرفها الله ثلاثة من المسلمين غير العرب وبعد التحية سألتهم عن جنسيتهم فقال لي أحدهم: باللغة العربية بلكنة أعجمية، نحن من مقدونيا، وأنا طالب أدرس في كلية الشريعة بالقصيم، أما الآخران فلا يتحدثان العربية لكنهما يقرآن القرآن، وقالا بحرقة نحن نقرأ القرآن ولا نفهمه، ونتمنى أن نتحدث العربية ونفهما، فقلت العربية لغة أهل الجنة وستتحدثون بها إن شاء الله في الجنة.. فقالا: إن شاء الله لكن نريد أن نتحدث بها في الدنيا ونفهم القرآن ونتمنى أن نهاجر إلى هذه البلاد الطاهرة..
فتوقفت مع هذه الأمنية وتأملتها كثيراً.! كيف أنهما يتمنيان أمنية قد يحققان بعضها لكن من المستحيل أن يحققها كلها.! فزادت عظمت هذه نعمة التي نتمتع بها في نفسي كثيراً، فلله الحمد أننا ولدنا وترعرعنا في هذه البلاد وصارت لغتنا هي اللغة العربية نكتبها ونقرأها ونستطيع الاستزادة من أدبها وضبطها، ونصل للبيت في أي وقت وفي أي زمان لا يمنعنا عنه مانع ولا يردنا عنه راد.. فاللهم لك الحمد على آلائك ونعمائك.. وحري بنا أن نحمد الله على هذه النعمة ونشكره أن جعلنا مسلمين عرب ومن أهل هذه البلاد.. وحق علينا أن نقوم بشكر هذه النعمة قولاً وعملا بأن نعتز لغتنا ونبذل قصارى جهدنا في تعلمها وتعلم القرآن وحفظه واستظهار معانيه ونعتز ببلدنا ونحافظ على أمنه ونشكر الله على هذه النعمة ونسعى جاهدين لتنمية بلادنا بكل قونا..    
تقول العرب: الفضل ما شهدت به الأعداءُ" وسنورد بعضَ ما قاله الغربُ عن ميزات لغتنا.. نقل صاحب كتاب (الفصحى لغة القرآن) عن أحد المستشرقين قوله: "جوستاف جرونيباوم": "عندما أوحى الله رسالته إلى رسوله محمَّدٍ  صلَّى الله عليه وسلَّم أنزلها قرآنًا عربيًّا، والله يقول لنبيِّه: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) [مريم:97] وما من لغةٍ تستطيعُ أن تطاولَ اللغةَ العربية في شرفِها، فهي الوسيلةُ التي اختيرت لتحملَ رسالةَ الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودعَ الله في سائرِ اللغات من قوةٍ وبيان، أمَّا السعة فالأمرُ فيها واضح، ومن يتتبع جميعَ اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية، ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتِها المدهشة في المترادفات، وتُزين الدقةُ ووجازةُ التعبير لغة العرب، وتمتازُ العربيةُ بما ليس له ضريب من اليسرِ في استعمالِ المجاز، وإن ما بها من كناياتٍ ومجازات واستعارات ليرفعها كثيرًا فوق كلِّ لغة بشرية أخرى، وللغةِ خصائصُ جمَّة في الأسلوبِ والنحو ليس من المستطاع أن يُكتشفُ له نظائر في أيِّ لغةٍ أخرى، وهي مع هذه السعةِ والكثرةِ أخصرُ اللغاتِ في إيصال المعاني، وفي النَّقلِ إليها، يبين ذلك أنَّ الصورةَ العربية لأيِّ مَثَل أجنبيٍّ أقصر في جميعِ الحالات".
ونقل صاحب كتاب (لغتنا هويتنا) عن آخر قوله "فيلا سبازا": "اللغةُ العربية من أغنى لغاتِ العالم، بل هي أرقى من لغاتِ أوروبا؛ لتضمنها كلَّ أدواتِ التعبير في أصولها، في حين أنَّ الفرنسيةَ والإنجليزية والإيطالية وسواها قد تحدرت من لغاتٍ ميتة، ولا تزال حتى الآن تعالِجُ رمم تلك اللغاتِ لتأخذَ من دمائِها ما تحتاجُ إليه".
 كما يقول أحد الفلاسفة الغرب عن اللغة العربية: "معجزةُ اللغةِ العربية من بين لغات العالم أنها ليس لها طفولة، وليس لها شيخوخة".
وبعد: على المسلم أن يعرفَ أهميةَ هذه اللغة ومكانتها، وأنه لا غنى لنا عنها، كما يجبُ أن يعتزَّ بها لا بغيرها من اللغات كما هو الحاصل عند بعضِ النَّاسِ مع الأسف، وعلينا أن نعلمَ أنَّ اللغةَ بحرٌ لا تكفي السباحة فيه، بل أن نغوصَ في مكنونِه، ونستخرج منه المعاني الجميلة والبديعة التي تصنعه وتلبسه لباسًا جذابًا.
وصلوا وسلموا على خير البرية ومعلم البشرية محمد بن عبدالله يعظم الله أجركم فقد قال صلى الله عليه وسلم من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا....  
 
المشاهدات 2056 | التعليقات 0