لعل الله سخرها لتعمل لغيرها

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان والعقيدة ... اتقوا الله – تعالى – حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى ، واعلموا أنكم غدا بين يدي الله موقوفون وبأعمالكم مجزيون وعلى كسبكم محاسبون ، وأن المصير إلى جنة أو نار ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) .
عباد الله ... سئل أحد المشائخ عن امرأة تقوم الليل وتصوم النهار وتختم كل شهر، ولكن لا تدع أحدًا من غيبة، ونُصحت بلا فائدة ! فقال : لعل الله سخرها لتعمل لغيرها . هذه العبارة فعلا تحرك القلب الغافل، تأملها جيدا وتخيل أن تعبك في قيامك الليل وصيامك مكتوب أجره لغيرك بسبب الغيبة.
لقد جاءت الشريعة بالآداب والتوجيهات والأحكام والحدود التي تعظم الحرمات وتحمي جناب المسلم أن يمُس بأدنى أذى ولو كان لمشاعره وأحاسيسه ، وقرر الإسلام الأخوة مبدأ يستوجب الإحسان وينفي الأذى مهما كانت صوره وأشكاله ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) وقال النبيصلى الله عليه وسلم ( لا تَحاسَدُوا ولا تناجشُوا ولا تباغَضوا ، ولا يبِعْ بعضُكُمْ على بيعِ بعْض ، وكُونوا عبادَ الله إخوانَا ، المسلمُ أخو المسْلم لا يظلمْهُ ولا يحقِرْه ولا يَخْذُله ، التقوى هَا هُنا ، وأشارَ بيدِه إلى صدرِهِ ثلاثا ، بِحسْبِ امرئٍ منَ الشرِّ أنْ يحقرَ أخاهُ المسلِم. كلُّ المسلِمِ على المسلِمِ حرَام دمُهُ ومالُهُ وعِرْضُهُ ).
وكانت حجة الوداع إعلانا لحقوق المسلم وإشهارًا لمبدأ كرامته وتعظيم حرمته وقدره عند الله وتحريم أذيته بأي وجه من الوجوه في ميثاق تاريخي نودي به في أعظم محفل .
إن انتهاك هذه الحرمة التي عظمها الله والتعدي على المسلمين بأذيتهم لمن أعظم الذنوب والآثام ، قال الله ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ).
وتزداد الجريمة إثمًا إن كانت الأذية للصالحين والأخيار من المؤمنين، جاء في الحديث القدسي يقول الله ( مَنْ عَادَ لي وليًّا فقدْ آذنتُهُ بالحرْب ) فمَن المخذول الذي يتصدى لحرب الله وقد قال ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) فاحذر من أذية من تولى الله الدفاع عنهم، فقد يكون المسلم الضعيف المغمور وليًّا لله وأنت لا تدري.
عباد الله ... إن مجرد كف الأذى عن المسلم لَهُو معروفٌ وإحسان يثاب عليه المسلم، قال صلى الله عليه وسلم ( تكفُّ شرَّكَ عنِ الناسِ فإنها صدقةٌ منكَ على نفسِك ) ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ المسلمين خَير ؟ قال : مَنْ سَلِمَ المسلِمُونَ مِنْ لسانِهِ ويدِه ) وفي رواية ( المسلمُ مَنْ سلِمَ المسلمونَ من لسانِه ويدِه ) إذ سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبة ، وأذى المسلم حرام باللسان واليد.
أيها المسلمون ... إن للأذية صورًا لا تكاد تتناهى ، وعلى المسلم أن يتجنبها جميعا ؛ خاصة ما ورد النص عليه تنبيها لخطره وتعظيما لأثره، كما ورد في الغيبة والنميمة وأذية الجيران والخدم والضعفاء ، قال صلى الله عليه وسلم ( مَنْ ظلمَ معاهَدًا أو انتقصَه أو كلَّفهُ فوقَ طاقتِه أو أخذَ منه شيئا بغير طيب نفسه فَأنا حجِيجُهُ يومَ القيامة ) فإذا كان هذا في ظلم المعاهَدِين فكيف بمن ظلم إخوانه المؤمنين ؟! عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " قِيلَ يا رسولَ الله .. إنّ فلانةَ تصلِّي الليلَ وتصومُ النَّهارَ وتؤذِي جيرانَها بلسانِها ، فقال ( لا خيْرَ فيها، هي في النَّار ) وقال صلى الله عليه وسلم ( مَنْ كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلا يؤذِ جارَه ) فمن الإيذاء السباب والشتام والغيبة والنميمة والقدح في الأعراض ، والله تعالىيقول ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ) صعِدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المنبر فنادَى بصوتٍ رفِيع ، فقال ( يامعشرَ مَنْ أسلَمَ بلسانِهِ ولمْ يُفضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا تُؤذُوا المسلمِينَ ولا تُعيرُوهُمْ ولا تتَّبِعُوا عورَاتِهِم ؛ فإنَّ مَنْ تتبَّعَ عورةَ أخيهِ المسلمِ تتبعَ اللهُ عورتَه ، ومنْ تتبعَ الله عورتَه يفضحْهُ ولو في جوفِ رَحلِه ) .
أيها المسلمون : احذروا أذية المؤمنين والإساءة إلى الناس أجمعين. إن أذية المؤمن ظلم ، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب ، والصبر على أذى الخلق أفضل من الدعاء عليهم ( وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ) وإن من الأذى ما لا تكفِّره الصلاة ولا الصدقة ولا الصوم ، بل لا يُغفَر للظالم حتى يَغفِر له المظلوم ، وهيهات أن يعفو المظلوم يوم تتطاير الصحف وتعز الحسنات ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتدرونَ مَنْ المفلِس ؟ ) قالوا : المفلسُ فينا مَنْ لا درهمَ لهُ ولا متاع ، فقال ( إنَّ المفلسَ مِنْ أمتي مَنْ يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة .. ويأتي وقد شتمَ هذا وقذفَ هذا وأكلَ مالَ هذا وسفكَ دمَ هذا وضرب هذا ؛ فيُعطَى هذا من حسناتِهِ وهذا من حسناته .. فإن فنِيَتْ حسناتُهُ قبلَ أنْ يُقضَى ما عليه أَخذَ منْ خطاياهُم فطُرِحَتْ عليه ثُمَّ طُرِحَ في النار ).
يقول العزيز المجيد ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ) بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة .. أقول قولي هذا وأستغفر الله – تعالى – لي ولكم .


الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
معاشر المؤمنين ... إن الأذية كلما انتشرت دائرتها وتوسعت كان إثم مرتكبها أعظم وعقوبته أشد.
فاتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
عباد الله ... كيف كان حال السلف ـ رحمهم الله ـ في معاملتهم لبعضهم البعض؟
روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً على المدينة، فمكث عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر الصديق إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر لعمر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ قال عمر: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلتهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟
هكذا كانوا ـ رحمهم الله، أصلحوا ذات بينهم فأصلح الله حالهم وأعلى درجتهم ورفع ذكرهم، بذلوا الحب للعالم، وسلّوا الضغينة والبغض والشحناء من قلوبهم.
هذا رجل من الصحابة يشهد له الرسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فيتبعه أحد الصحابة إلى بيته ويبقى معه ثلاثة أيام ليرى الأعمال التي يعملها وكانت سبباً في دخوله الجنة، وبعدما انتهت الأيام الثلاثة قال له: يا أخي لقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد لك بالجنة ولم أر فيك كثير صلاة ولا صوم، فَبِمَ سبقتنا إلى الجنة؟ قال: ولكني أبيت وليس في قلبي غِلٌّ على مسلم.
أسأل الله سبحانه أن يرزقنا الاهتداء بهديهم والسير على طريقتهم ونهجهم.
يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت، فكما تدين تدان
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ..
اللهم وفّق خادم الحرمين الشريفين لهداك ، واجعل عمله في رضاك ، وهيئ له البطانة الصالحة يارب العالمين ..
اللهم وفق ولي عهده لما تحب وترضى ، اللهم أتم عليه الصحة والعافية ، اللهم وفق النائب الثاني لما فيه الخير للعباد والبلاد ، واسلك بهم جميعا سبيل الرشاد ، اللهم كن لهم جميعا موفقا مسددا لكل خير وصلاح .
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن .
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، اللهم اجمعهم على الحق والهدى ، اللهم احقن دماءهم ، وآمنهم في ديارهم ، وأرغد عيشهم ، وأصلح أحوالهم ، واكبت عدوهم ..
هذا ، وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية محمدًا بن عبد الله الهاشمي القرشي .. كما أمر ربنا في كتابه فقال ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً‏ ) اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد
المشاهدات 2457 | التعليقات 1

الله يبارك فيك شيخ إبراهيم ويزيدك من فضله ويكتب أجر ما خطيت وكتبت ونصحت خطبة قيمة بحق