لطائف اللطيف

لطائفُ "اللطيف"

                                                                                                                                                                                     27/7/1439هـ

أمَّا بعد:

فِي الْيَمِّ أَلْقَتْ طِفْلَهَا، وهي ضَعِيفَةٌ مَقْهُورَةْ، تُجَابِه لِوَحْدِهَا مِنْ غَيْرِ حَمُولةٍ وَلَا عَشِيرة، كانت تواجه قراراتِ دولة

فرعونية جائرة، كَادَ قَلبُهَا أن يَنْخَلِعْ وهي تلقي رضيعها في اليم، وَحقّ لَه أن يَنْخَلِعْ، فَإِذَا بلطائف اللطيف تربطُ على

قلبها، وتسلي وحشتها، وتُذهبُ كمدها: (لَوْلَا أن ربطنا عَلَى قَلَبِهَا لِتَكُونَ مَن الْمُؤْمِنِين).

امرأةٌ في عينِ العَاصِفةْ دَفَنتْ حُبّهَا لِابْنِهَا وَأَلْقَتْه فِي الْيَمّ؟ ثُمّ كَيْف بَات فُؤَادُهَا فَارِغًا مَن كَلّ شَيْء سِوَى هَمِّها

بِابْنِهَا، ثُمّ كَيْف كادتْ أن تُبْدِي بِه لَوْلَا أن رَبَط اللَّطِيفُ على قَلْبِهَا، ثُمّ تَأَمَّلْ كَيْف انْتَشَلَ اللَّطِيفُ كليمَه مِن قَبْضَةِ

العدو، كُلُّ هَذَا لُطْفًا بِتِلْكَ المرأةِ (كَي تَقرَّ عَيْنُهَا ولا تَحْزَن).

وهذه سَيِّدَةُ نِسَاءِ الْعَالَمِين انْتَبَذَتْ عَن أَهْلِهَا، فَدَنَتْ مِنْه تَعَالَى، فَوَهَب لَهَا غُلَامًا زَكَّيَا مُعْجِزَةً تَلِيدَةً إِلَى يَوْم الدّيْنْ.

جَاءَهَا الْمَخَاضُ واجتمعَت عَلَيْهَا الْكُرُوبْ: كُرْبَةُ الطَّلْقِ، وَكُرْبَةُ الْغُرْبَةِ وَكُرْبَةُ الْبُهْتَانْ، حتى: (قالت يَا لَيْتَنِي مِتّ قبل

هَذَا وَكُنْت نَسْيًا مَنْسِيًّا)، فَإِذَا اللُّطْفُ الرَّبَّانِيُّ بِهَا أَقْرَبُ إِلَيْهَا مَن حَبْلِ الْوَرِيدِ: (أَلَا تحزني قَد جَعَل رَبُّك تَحْتِكّ سَرَيَا).

أيّها الفضلاء:

لِكُلِّ بُنْيَانٍ مِفْتَاحْ، وَمِفْتَاحُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ: مَعْرِفَةُ الرَّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ أَسَاسُ بِنَاءِ الدّيْنْ، عَلَيْهِ تُبْنَى مَقَامَاتُ الدّيْنِ

وَمَرَاتِبُه الْمُنِيفَةْ، وَكَيْف يَسْتَقِيمُ أَمْرُ الْبَشَرِيَّةِ دُوْنَ مَعْرِفَتِهِم بِفَاطِرِهِمْ وَبَارِئِهِمْ؟! وصدقَ العِزُّ بِنُ عَبْدِالسّلامِ حين

قال: "وَاَللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَى شَيْءٍ إلَّا بِاَللَّهْ، فَكَيْفَ يُوصَلُ إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ اللَّهِ؟!".

ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ أَنْ امرأةً مَن الْعَابِدَاتِ قَامَتْ مِن أَوَّلِ اللَّيْلِ فَقَرَأْت: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} فجعلت ترددُها حتى

أصبحت! فعلًا كم يغمُرنا لطفُ اللهِ ونحنُ لا نشعر؟!

أيها الأحبة:

هذا وإن لِلْأَوْلِيَاءِ مَع اسْمِ رَبِّهِم "اللَّطِيفِ" عَبَرَاتٌ ووقفات، عَبَّر عَنْه ابْن الْقَيِّم فَقَالْ:

وَهُوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِه وَلِعَبْدِهْ..

                                             وَاللُّطْفُ فِي أَوْصَافِه نَوْعَانِ

إدراكُ أَسْرَارِ الْأُمُورِ بِخِبْرَة..

                                           وَاللُّطْفُ عِنْدَ مَوَاقِعِ الْإِحْسَانِ

فَيُرِيْكَ عِزَّتَه وَيُبْدِي لُطْفَه..

                                        وَالْعَبْدُ فِي الْغَفَلَاتِ عَن ذَا الشَّانِ!

(أَلَا يَعْلَمُ مَن خَلَق وَهُو اللَّطِيفُ الْخَبِير) لَطِيفٌ "يَلْطُف بِعَبْدِه وَوَلِيِّهْ، فَيَسُوقُ إلَيْه الْبَرَّ وَالْإِحْسَانَ مَن حَيْثُ لا يَشْعُرْ،

وَيَعْصِمُه مَن الشَّرّ، مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبْ، وَيُرْقِيه إِلَى أَعْلَى الْمَرَاتِبْ، بِأَسْبَابٍ لا تَكُونُ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى بَالْ، حَتَّى إنَّه

يُذِيقَه الْمَكَارِهْ، لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى المَحَابِّ الْجَلِيلَة، وَالْمَقَامَاتِ النَّبِيلةْ".

يَهْتِفُ الصَّالِحُون فِي دَعَوَاتِهِم: يَا لَطِيفْ، فَإِذَا رَحْمَةٌ خَاصَّةٌ تَغْشَاهُمْ، تَصْلُح أَحْوَالَهم الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وبِها تَنْدَفِعُ

عَنْهم الْمَكَارِهُ مَن الْأُمُورْ، فاندفاعُ الشرورِ عنهمْ بالْأُمُور ِالداخليةِ لُطْفٌ بِالْعِبَادْ، وَبالْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ لُطْفٌ لَهُمْ.

"فِي عُمقِ الْبَلَاءِ يَجِدُ الْمُؤْمِنُ أَثَرَ اسْمِ اللَّهِ اللَّطِيفِ فَرْجًا مُعَجَّلًا، وَلَطَائِفَ خَفَايَا، بِها يَفْهَمُ مَعْنَى اسْمِ رَبِّه اللَّطِيف".

وَقَد جَرَت عَادَةُ اللَّطِيفِ سُبْحَانَه أَنَّه يَسُوقُ إِلَى عَبْدَه الْخَيْرْ، وَيَدْفَعُ عَنْه الشَّرَّ بِطُرُق لَطِيفَةٍ تَخْفَى عَلَى الْعِبَادْ، وَمِن

لُطْفِه يُرِي عَبْدَه عِزَّتَه فِي انْتِقَامِه، وَكَمَالِ اقْتِدَارِه، ثُمّ يُظْهِرُ لُطْفَه بَعْد أن أَشْرَف الْعَبْدُ عَلَى الْيَأْسِ وَالْهَلَاكْ.

 إنَّ مَن عَادَتِه تَعَالَى أَنَّه كَلَّمَا عَظَمَ الْبَلَاءُ عَظَم اللُّطْفُ وَالْفَرْجْ.

وَمَنّ لَطِيف لُطْفِه بِعَبْدِه إِذ يؤهلُه لِلْمَقَامَاتِ الساميةِ الَّتِي لا تُدرَكُ إلَّا بِعَظَائِمِ الْأَسْبَابِ وَعُلْيَا الْعَزَائِمِ أن يُقدِّرَ لَه فِي

ابْتِدَاءِ أَمْرِه بعضَ الْأَسْبَابِ الْمُحْتَمَلَةِ الْمُنَاسِبَةِ لَمَّا يُؤَهَّلُ لَه لِتَتَمَرّنَ نَفْسُه وَتَصِيرَ لَه مَلَكَةً مَن جِنْسِ ذَلِك الأَمْرُ.

وكذلك يُذِيقُ عَبْدَه حَلَاوَةَ بَعْضِ الطَّاعَاتِ فَيَنْجَذِبُ وَيَرْغَبُ وَيُصَيِّر لَه مَلَكَةً قَوِيَّةً بَعْد ذَلِك عَلَى طَاعَاتٍ أَعْلَى وَأَجَلّ

لَم تَكُن حَاصِلَةً بِتِلْك الْإِرَادَةِ السَّابِقَة حَتَّى وَصْلَ إِلَى هَذِه الْإِرَادَةِ وَالرَّغْبَةِ التَّامَّة.

عِبادَ الرحمن:

وَمِنْ عَظِيمِ لُطْفِه غِيرَتُه تَعَالَى عَلَى عَبْدِه إِذَا فَتْحَ لَه بَابٌ مَن الصَّفَاءِ وَالْأُنْسِ فيساكنُه العبدُ وَيَطْمَئِنُّ إلَيْه فَيَشْتَغِلُ

بِه عَنِ الْمَقْصُودِ فيغارُ عَلَيْه مَوْلَاه الْحَقِّ فَيُخَلِّيه مِنْه وَيَرُدُّه إلَيْه بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ والانكسار للطيف الخبير، وَذَرَةٌ مَن

هَذَا أَحَبُّ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَأَنْفَعُ لِلْعَبْدِ مَن الْجِبَالِ الرَّوَاسِي مَن ذَلِك الْأُنْسِ الْمُجَرَّدِ عَن شُهُودِ الْفَقْرِ، وَهَذا بَابٌ لا يَتَّسِع

لَه قلبُ كُلّ أَحَدْ.

وَيُبَيَّنُ هَذَا اللُّطْفُ قِصَّةُ الْخَلِيل عَلَيْه السَّلَامِ عِنْدَمَا أُمِرَ بِذَبْح ابْنِه ابتلاءً منه، فَغَارَ الْخَلِيلُ عَلَى خَلِيلِه: أن يَكُونَ فِي

قَلَبِه مَوْضِعٌ لِغَيْرِه، فَأَمَرَه بِذَبْح الْوَلَدِ لِيُخْرِجَ الْمُزَاحِمُ مِن قَلَبِه: {يا إبراهيم قَد صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إنَّا كَذَلِك نَجْزِي

الْمُحْسِنِين * إن هَذَا لَهُو الْبَلَاءُ الْمُبِينْ}.

اللهم الطف بنا، والطف لنا، واجعلنا ممن يبتهل إليك بأحب أسمائك إليك، وَهَيِّئْ لَنَا مَن أَمَرِنَا رُشْدًا يا لطيف يا خبير.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

أيها الأحبة:

وَلُطْفُ الرَّبِّ تَعَالَى كَمَا يَتَجَلَّى فِي أَقْدَارِه، فَإِنَّه يَظْهَرُ فِي شَرَائِع دِينِه، الَّتِي وَضَعْهَا لعِبَادِه، دَالَّةً عَلَيْه سُبْحَانَه، شَاهِدَةً

لَه بِكَمَال عِلْمِه وَحِكْمَتِه، وَلُطْفِه بِعِبَادِه وَإِحْسَانِه إلَيْهِمْ، فَمَا تَكَالِيفُ دِينِه إلَّا اخْتِيَارُه تَعَالَى لَهُم أَعْظَمَ المصَّالِحِ، وَإِن

فَاتَت أَدْنَاهَا، وَدَفْعِه عَنْهُم أَعْظَمَ الْمَفَاسِدِ وَإِن فَاتَت أَدْنَاهَا.

وفِي نَفَحَاتِ اسْمِ اللَّهِ اللَّطِيفِ وروحانياتِه جَلَاءٌ لِلْحُزْنِ عَن قلبِ الْمُؤْمِنِ، وَوَقُودٌ لَه عَلَى الْمُضِيِّ قُدُمَا فِي الطَّرِيق

بِثَبَاتْ.

فِرَارًا مَن لَفَحَاتِ الْحَيَاةِ، ولهيبِ مُصَابِهَا وفواجعِ دَهْرِهَا، يَرْفَعُ الْمُؤْمِن يَدَيْه: يَا لَطِيفْ! فَإِذَا باستشعاره لِمَعْنَاهَا يَتَبَدَّدُ

الْأَسَى ويترمّمُ القلب، ثُمّ يَعُودُ أَقْوَى ما كانَ وَأجْلَدُ ما يكونْ.

وَبُلُوغُ الْمُؤْمِنِ لِمَرَاتِب الْيَقِين بِمَوْعُود اللَّه تَعَالَى فِي قَوَلِه: (ولقد سَبَقَت كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين * إنَّهُم لَهُم

الْمَنْصُورُون * وَإِنّ جُنْدَنَا لَهُم الْغَالِبُون) وَحُسْنُ الظَّنّ بِاَللَّه كَمَا بَلَغ يُونُس عَلَيْه (فَظَنّ أن لَن نَقْدِر عَلَيْه) مَرْهُونٌ كُلُّهَا

بِفِقْهِ الْعَبْدِ لِاسْم رَبِّه اللَّطِيفْ!

إنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَرِف رَبُّه بِأَسْمَائِه وَصِفَاتِه وَأَفْعَالِه أحبَّه لا مَحَالَة، لِهَذَا كَان محورُ الرِّسَالَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وخلاصتُها مَعْرِفَةُ

الْعَبْدِ لِرَبِّه.

وَالْمُؤْمِنُ حِين يَعِيشُ فِي ظِلَالِ اسْمِ اللَّه اللَّطِيفِ فَإِنَّه يَتَحَرَّى اللُّطْفَ مَع خَلْقِ اللَّهِ فَتَجِدُه سَهْلًا لَيِّنًا يَأْلَف وَيُؤَلَف:

(رُحَمَاء بَيْنَهُم)، (أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِين).

متأسّيًا بنبيه صلى الله عليه وسلم الذي وصفته زوجه عائشة أنه كان لطيفًا بها حين تمرض رضي الله عنها، كما

أخرجه البخاري في صحيحه. 

وبعد أيها الإخوة في الله، إِنَّ فِيمَا مَضَى غُرْفَةٌ مَنْ بَحْر فِقْه اِسْمِ اللَّهِ اللَّطِيفِ وَحَريٌّ لِمَنْ يَنْشُدُ لُطْفَ اللَّهِ أَنْ يَتَفَقَّهَ

فِي اِسْمِ اللَّهِ اللَّطِيفِ مُسْتَحْضِرًا أَنَّ فِقْه أَسْمَاء اللَّه الْحسنَى هُوَ الْفِقْهُ الْأكْبَرْ.

 أخي المسلم:

لَا تَنفكُّ لَحْظَةٌ مَنْ لَحَظَاتِكَ عَنْ لُطْفِ رَبِّكَ فَتَلَمّسْهَا، وَلَا تَكُنْ غَافِلًا، إِنْ أَقْبلَتْ مُصِيبَةٌ فَابْحَثْ عَنْ لُطْفِ رَبِّكَ ففي

بَطْنِ المحنةِ تكونُ المنحةْ، وَإِنْ كَانَتْ السَّرَّاءُ فَذَاكَ لُطْفٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ غفلتِهِمْ بِالنّعمةِ عَنْ تَلَمُّس

لُطْفِ اللَّه بِهُمْ.

أخيرًا أيها الصَّفِيّ:

 حِينَ تَتَفَقَّهُ فِي بَابِ مِنْ أَبَوابِ الطَّاعَةِ فَلَا تَغَفلْ عَنْ لُطْفِ اللَّهِ بِالْعِبَادِ فِي تَشْرِيعِهِ لهُمْ، وإِنْ أَرَدتَّ أَنْ تَحْلُوَ لَكَ الْحَيَاةَ

فَاعْبَدْ رَبَكَ بَاسِمِه اللَّطِيفْ، وَاهْتِفْ دَومًا فِي مُرِّ الْحَيَاةِ وَحُلْوِهَا به، مُسْتَجِيبَا لِنِدَاءِ اللَّطِيفِ: (وَلِلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحسنَى

فَاُدْعُوهُ بِهَا).

اللَّهُمّ اُلْطُف بِنَا فِي تَيْسِيرِ كَلِّ عَسِيرْ، فَإِن تَيْسِيرَ كَلّ عَسِيرٍ عَلَيْك يَسِيرْ، وَنَسْأَلُك الْيُسْرَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

المرفقات

اللطيف

اللطيف-2

اللطيف-2

اللطيف-1

اللطيف-1-2

اللطيف-1-2

اللطيف-2-2

اللطيف-2-2

اللطيف-2-3

اللطيف-2-3

المشاهدات 1377 | التعليقات 0