لست المحب وحدك (عن حب النبي صلى الله عليه وسلم)

سامي بن محمد العمر
1442/03/12 - 2020/10/29 16:04PM

لست المحب وحدك

(عن حب النبي صلى الله عليه وسلم)

أما بعد:

فهوِّن عليك أيها الجذعُ المحبُ؛ فلستَ وحدَك.

لستَ وحدَك الذي يحِنُّ ويبكي.

لستَ وحدَك الذي يُحبُّ ويشتاق.

لستَ وحدك أيها النبات؛ فهناك حجارة وجمادات، وهناك دواب وحيوانات..

كلها تُحِبُّهُ وتحِنُّ إليه... ولكنْ:

قد كان درْسُكَ - أيها الجذع - لأصحابِ القلوبِ المتحجرةِ من بني آدم درساً عظيماً، وموقفاً مهيباً، لا يستوعبه إلا أهلُ الودِّ الحقيقي، والحبِّ الصادق، الذي لا ينْقُضُهُ اعتقادٌ فاسدٌ ولا عملٌ باطلٌ.

فها هو جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - يقول: «كان في مسجد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم- جِذْعٌ في قِبلته، يقوم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في خطبته، فلما وُضِعَ المِنْبَرُ سمعنا للجِذْعِ مثل أصواتِ العِشار، حتى نزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم- فوضع يده عليه».

وفي رواية: «فصاحت النخلة صياح الصبيْ - فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم- حتى أخذها فضمَّها إليه، فجعلت تَئِنُّ أنين الصبيِّ الذي يُسَكَّتُ، حتى استقرتْ» قال: بَكتْ على ما كانت تسمعُ من الذِّكر. أخرجه البخاري([1]).

ولا تقبل الجمادات إلا أن تُسجل حُبَّها أيضاً على صفحاتِ التاريخ ممثَّلَةً في ذاك الحجرِ المكيِّ المحبِّ الذي يخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «إنَّ بمكةَ حجراً كانَ يُسَلِّم عَلَيَّ لَيَالِيَ بُعِثْتُ، إِني لأعرفه الآن» أخرجه مسلم والترمذي([2]).

وهل تبقى الحيواناتُ بمعزِلٍ عن هذا الشرف؟ كلا، وهي ترى معاني الرحمةِ والحنانِ والبِرِّ والعطفِ تتمثلُ أمامها في صورةِ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم، فلِمَ لا تسجل هي أيضاً في سجلِّ الشرفِ حُبَّها وَ وُدَّها؟.

عن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه -: قال: «أَردَفني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم- خَلْفَهُ ذاتَ يومٍ، ..... ، فدخل حائطاً لرَجُلٍ من الأنصار، فَإِذَا فيه جَمَلٌ، فلما رأى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ، وذَرَفَتْ عَيناهُ، فأتَاهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم-، ..... فقال: مَنْ رَبُّ هذا الجملِ؟ لِمَن هذا الجَملُ؟ فجاءَ فَتى مِن الأنصارِ، فقال: لي يا رسول الله، فقال له: أَفلا تَتَّقي اللهَ في هذه البَهيمةِ التي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاها، فَإِنَّهُ شَكا إِليَّ: أَنَّكَ تُجِيعُهُ وتُدْئِبُهُ -أي: تتعبه -» . أخرجه أبو داود([3]) .

وهنا نترك التعليق للإمامِ الحسنِ البصريِّ إذْ يقول: "يا عبادَ الله، الخشبةُ تِحنُّ إلى رسولِ اللهِ شوقاً إليه لِمَكَانِهِ، فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إلى لقائهِ".

صدقتَ أيُّها الإمام: نحنُ أحقُّ أن نشتاقَ لهُ، وأن نتشرفَ بدُخولنا في حديثه صلى الله عليه وسلم حيث قال: «مِن أشدِّ أمتي لي حبًا، ناسٌ يكونون بعدي، يودُّ أحدهم لو رآني بأهلِهِ ومالِهِ»([4]).

ولكنَّه قد علَّمنا: أن المحبةَ ليست شعاراتٍ جوفاء، ولا قصائدَ ثناء، ولا مقالاتِ إطراء.

لقد علمنا أنّ المحبةَ: توقيرٌ وتعظيم، واتباعٌ بلا ابتداع، وإجلالٌ بلا إخلال...

المحبةُ الصادقةُ للنبي صلى الله عليه وسلم فرضٌ لا نزاعَ فيه، وهو القائلُ بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمنُ أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِه وولدِه والناسِ أجمعين)([5]).

ولما كانَ الحبُّ أمرًا قلبيًا خفيًا... كانَ الحديثُ عنه: دعوى تحتاجُ إلى بيِّنةٍ.

ولا شكَّ أن أقوى بَينةٍ على المحبةِ: ظهورُ القبولِ لكل ما جاء به، وطاعتُه فيما أمر، وتصديقُه فيما أخبر، واجتنابُ ما نهى عنه وزجر، ودوامُ ذكرِه، والصلاةِ عليه، والرضا بشرعِه حتى لا يجدَ المرءُ في نفسِه حرجاً مما قضاه، ويسلِّمَ لهُ تسليماً.

وفي الحديث الصحيح: (من رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه.

هذه أدنى متطلباتِ الحبِ الصادقِ... يتلوها بعد ذلكَ أحوالٌ من المحبين تتفاوتُ في شدةِ الحبِّ والتعلُّقِ.

اللهم إنا نسألك الصدق في محبتك ومحبة رسولك، وأن تجمعنا به في دار كرامتك ومستقر رحمتك..

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فإننا اليوم ونحن نتلمس دروب سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ نُتَّهَمُ.

نُتَّهَمُ بأننا لا نُوقِّرُ حبيبَنَا وقدوتَنَا،

نُتَّهمُ بأننا ننتقِصُهُ ونجفُو في حقِهِ!

ويا للهِ ما هذا الهُراء؟

أحتى تكون مُحِبًّا لا بد أن تتمايلَ وتتراقص؟ أحتى تكون محباً لا بد أن تُطري وتَكْذِب؟

أحتى تكون محباً لا بد أن تُخصِّصَ يوما تقرأ فيه خُزعبلاتِ قصةِ المولد؟

أحتى تكون محباً لا بد أن تعتقدَ حضورَه لحفلتِك وتقومَ شاخصًا لذلك؟

أحتى تكون محباً لا بد أن تستغيثَ به، وتطلبَه؟

أليس المحبُّ الحقيقيُّ من ينفِذُّ كلامَ محبوبِه؟

ولقد بلغنا أنه يقول: ( لا تُطروني كما أطرتِ النصارى ابنَ مريم) ويقول : ( إياكم والغلو فإنه أهلكَ من كانَ قبلكم)

أليس المحبُّ مَنْ يتبعُ ولا يبتدع، فكيف نفعلُ شيئًا لم يفعلْه هو ولا أصحابُه من بعده؟

أليس المحب مَنْ يُجِلُّ محبوبَه ولا يُخِلُّ بحقوقِهِ؟ فكيفَ نتلو فيه قصائدَ الغزلِ والهِيامِ التي لا تقالُ إلا في دُورِ المجونِ والفجورِ؟

ألا فليعلم المتهِمون: أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، أجلُّ في قلوبنا وأعظمُ من أن نخصصَ له يومًا ماتَ فيه بيقينٍ؛ لنحتفلَ فيه بولادةٍ  ليس في تحديدها يقين!!

وأنه أعظم عندنا من أن نخصصَ له بضعَ سويعاتٍ في إطراءٍ نهانا عنه، ثم نعودَ لِلَهْوِنَا وسفهِنَا..

فقلوبنا تنبضُ كلِ حينٍ بحُبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم.. حبَّ اتباعٍ لا ابتداع، وحب إجلالٍ لا إخلال.

اللهم أعز الإسلام ...

([1]) رواه البخاري 2 / 322 في الجمعة، باب الخطبة على المنبر، وفي المساجد، باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، وفي البيوع، باب النجار، وفي الأنبياء، باب علامات النبوة في الإسلام، والنسائي 3 / 102 في الجمعة، باب مقام الإمام في الخطبة.

([2]) رواه مسلم رقم (2277) في الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، والترمذي رقم (3628) في المناقب، باب رقم (7) .

([3]) رقم (2549) في الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، وإسناده صحيح، ورواه مسلم وابن ماجة، وليس عندهما قصة الجمل.

([4]) صحيح مسلم (4/ 2178) (2832)

([5]) متفق عليه.

المشاهدات 888 | التعليقات 0