لرحلة العظمى (1)
عبد الله بن علي الطريف
1437/07/08 - 2016/04/15 08:36AM
الرحلة العظمى (1) 8/7/1437هـ
يقول الله تعالى(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1] الإسراء والمعراج الرحلة العظمى والحدث الكبير الذي هز مكة وأهلها ومن حولها.
أحبتي: هذه القصة نعلمها بإجمال لكننا لا نحيط بدقائقها والدروس المستفادة منها.. تعالوا بنا نخترق حجب الزمن، ونطوى الفيافي والقفار لنقف على هذا الحدث المهم بجلاء.. إن حادثة كهذه الحادثة تحتاج إلى ضبط وتدوين بكل تفاصيلها وقد نقلت كتبُ السنةِ والسيرةِ النبويةِ صحيحَ الآثارِ وحسنِها ودقائقَ ما فيها من الأحدث ومنها نستقي حديثنا بحول الله، أما تحديد زمانها في أي سنة كان ذلك.. وفي أي شهر.. وفي أي يوم.. فكل ذلك غير معروف على وجه الدقة بدليل صحيح.. عليه فتحديد ليلة معينة للإسراء رجم بالغيب.. والاحتفال بذكرى تلك الليلة يحتاج إلى دليلين دليل التوقيت ودليل المشروعية، ولا يوجد شيء منها.
وكل ما نقطع به أنه حدث في ليلة من ليالي مكة قبل الهجرة.. وما دام الأمر كذلك.. فدعونا منه.. إلى أحداث الإسراء والمعراج من بدايتها إلى مواجهة قريش بما حدث.. فكيف كانت البداية..؟
في ليلة من الليالي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمًا في بيته، فانشق سقف البيت ليدخل منه جبريل عليه السلام. وأخذ الرسولَ صلى الله عليه وسلم من بين النيام.. وكان في حالة بين النائم والمستيقظ.. قال الراوي: أُخِذَ إلى بئرِ زمزم "فَأُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَشُقَّ مِنْ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا." رواه البخاري وشق صدره صلى الله عليه وسلم للمرة الثالثة وحشي إيمانًا وحكمة استعدادًا لهذه الرحلة العظيمة، وتحضيراً لتلك الرحلة الخارقة.. ثم أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُرَاقِ وهو دَابَّةٍ أَبْيَضَ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، مُسْرَجًا مُلْجَمًا فَاسْتَصْعَبَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا؟ فَوَاللَّهِ مَا رَكِبَكَ خَلْقٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ قَالَ فَارْفَضَّ عَرَقًا. [أَيْ جَرَى عَرَقُهُ وَسَالَ ثُمَّ سَكَنَ وَانْقَادَ وَتَرَكَ الِاسْتِصْعَابَ] وكان البراق كلما صعد عقبةً استوت رجلاه مع يديه، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه..
وما أن ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصل بيت المقدس. وهذا يدل على سرعته.. وعلى أن البراق قد ركبه الأنبياءُ من قبل أو بعضُهم عليهم السلام.. ثم قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ» قَالَ "ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ" [وفسروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة والمعنى والله أعلم اخترت علامة الإسلام والاستقامة وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا سائغا للشاربين سليم العاقبة، أما الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل.. وبهذا ينتهى الإسراء ويبدأ المعراج.
أيها الإخوة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ أَخَذَ جِبْرِيلُ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، [نعم لقد صعد صلى الله عليه وسلم هناك.. إلى أعلى من السحب.. وأعلى من الشمسِ والنجومِ والمجراتِ والكواكب.. لقد اخترقها كلها.. وقص علينا ما رآه في هذه الرحلة العجيبة وفي هذا العلو المقدس وفيه أوحى الله إليه ما أوحى من فرض للصلاة..] يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ: لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ اليَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ.. جعلنا الله ووالدينا من أهل اليمن..
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وجرى حوارٌ بين جبريل عليه السلام وخازن هذه السماء كالحوار الأول. ووجد عيسى بنَ مريمَ وابنَ خالته يحيى بنَ زكريا عليهم الصلاة والسلام فرحبا به. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاه عيسى بنَ مريم عليه السلام.. فقال: وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبِطَ الرَّأْسِ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ [وهو الحمام] وَأُرِيَ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) [السجدة:23]
ثُمَ عَرَجَ بِهِ لجِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِما وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ وفي هذه السماء.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا هُوَ قَدِ اُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، قال: فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم:57].
ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ،فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ووصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي؛ مُوسَى، رَجُلاً آدَمَ طُوَالاً جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. [(جعد) قال العلماء المراد بالجعد هنا جعودة الجسم وهو اجتماعه واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر و(شنوءة) قبيلة معروفة] ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ودخل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ هذا البيت وَقَالَ جِبْرِيلُ لِهُ سَلِّمْ عَلَى أَبِيكَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فرحب بي.. وحمَّلَه وصيةً لأمته قَالَ فيها: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. رواه الترمذي وحسنه الألباني. ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم عليه السلام فقال: وَرَأَيتُ إِبْرَاهِيمَ فَلاَ أَنْظُرُ إِلَى أَرَبٍ مِنْ آرَابِهِ إِلاَّ نَظَرْتُ إِلَيهِ كَأَنَّهُ صَاحِبُكُمُ. وفي رواية قَالَ: ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به. بارك الله لي ولكم..
الثانية:
أما بعد: ثم أتم قصة المعراج فقال صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ ذَهَبَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى سِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وهى سدرة عظيمة [إليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها، وفي تفسير قوله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) قال: فراش من ذهب] ويصف صلى الله عليه وسلم ما حدث لها فيقول: ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها: جمالٌ وألوانٌ وثمارٌ تقفُ لغاتُ الدنيا ملجمة أمامها.. لا تستطيع مهما أوتيت من الإبداع تجليتها ووصفها.. أو التعبير عن معاناة الوقوف أمامها وأسرها..! هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم يقول: فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها. فكيف يكون جمال الجنة يا ترى.؟ وفي أصل هذه السدرة أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران. أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران: النيل والفرات أي عنصرهما.. وليس معناه أن النيل والفرات الآن متصلان بها.
يقول صلى الله عليه وسلم: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام.. ووصف صلى الله عليه وسلم رفيقَ المعراج جبريلَ عليه السلام كيف كانت هيأته وهو في الملأ الأعلى: بقوله: مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله كان جبريل كالثوب الرقيق.. قد ذاب من خشية الجبار سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة: في هذه الأجواء الشفافة المتوهجة الطاهرة.. في هذا العلو المقدس.. أوحى اللهُ إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم ما أوحى: أوحى له بفرض خمسين صلاة في اليوم والليلة. رجع بها صلى الله عليه وسلم مطيعًا كعادته.. لكنه وفي طريق النزول.. اعترضه موسى سائلًا.. فأجابه بأن الله قد فرض عليه خمسين صلاة.. فأرشده موسى إلى أن أمته تحتاج إلى تخفيف.. فصعد إلى ربه يسأله التخفيف. وما زال يتردد بين المكان الذي يُوحى إليه فيه وبين موسى عليه السلام حتى وصل التخفيف إلى خمس فَقَالَ لَهُ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ" فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ" نعم أحبتي: لقد جعلها الرحمن الرحيم خمسَ صلوات في اليوم والليلة لكن لها أجر خمسين صلاة. تفضلًا منه سبحانه وتعالى.
الله أكبر أيها الإخوة: هناك في مكان فوق السموات السبع فرضت ولم يرجع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفريضة غيرها، وكأن الباري سبحانه يقرر للأمة أهميتها وشدة فرضيتها.. وأنا أقول: الله الله بالصلاة؛ وكما أنها فرضت في عليين، هي كذلك وصيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته فقد كان يقول الصلاة الصلاة وهو في النزع.. اللهم اجعل الصلاة قرة عيوننا وأدخلنا الجنة من بابها يا رحمن..
أحبتي: نقف هنا في وصف الرحلة العظمى ونكملها في الجمعة القادمة بحول الله.. وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة فقد أمركم ربكم بذلك....
يقول الله تعالى(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء: 1] الإسراء والمعراج الرحلة العظمى والحدث الكبير الذي هز مكة وأهلها ومن حولها.
أحبتي: هذه القصة نعلمها بإجمال لكننا لا نحيط بدقائقها والدروس المستفادة منها.. تعالوا بنا نخترق حجب الزمن، ونطوى الفيافي والقفار لنقف على هذا الحدث المهم بجلاء.. إن حادثة كهذه الحادثة تحتاج إلى ضبط وتدوين بكل تفاصيلها وقد نقلت كتبُ السنةِ والسيرةِ النبويةِ صحيحَ الآثارِ وحسنِها ودقائقَ ما فيها من الأحدث ومنها نستقي حديثنا بحول الله، أما تحديد زمانها في أي سنة كان ذلك.. وفي أي شهر.. وفي أي يوم.. فكل ذلك غير معروف على وجه الدقة بدليل صحيح.. عليه فتحديد ليلة معينة للإسراء رجم بالغيب.. والاحتفال بذكرى تلك الليلة يحتاج إلى دليلين دليل التوقيت ودليل المشروعية، ولا يوجد شيء منها.
وكل ما نقطع به أنه حدث في ليلة من ليالي مكة قبل الهجرة.. وما دام الأمر كذلك.. فدعونا منه.. إلى أحداث الإسراء والمعراج من بدايتها إلى مواجهة قريش بما حدث.. فكيف كانت البداية..؟
في ليلة من الليالي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمًا في بيته، فانشق سقف البيت ليدخل منه جبريل عليه السلام. وأخذ الرسولَ صلى الله عليه وسلم من بين النيام.. وكان في حالة بين النائم والمستيقظ.. قال الراوي: أُخِذَ إلى بئرِ زمزم "فَأُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَشُقَّ مِنْ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا." رواه البخاري وشق صدره صلى الله عليه وسلم للمرة الثالثة وحشي إيمانًا وحكمة استعدادًا لهذه الرحلة العظيمة، وتحضيراً لتلك الرحلة الخارقة.. ثم أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُرَاقِ وهو دَابَّةٍ أَبْيَضَ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ، مُسْرَجًا مُلْجَمًا فَاسْتَصْعَبَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا؟ فَوَاللَّهِ مَا رَكِبَكَ خَلْقٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ قَالَ فَارْفَضَّ عَرَقًا. [أَيْ جَرَى عَرَقُهُ وَسَالَ ثُمَّ سَكَنَ وَانْقَادَ وَتَرَكَ الِاسْتِصْعَابَ] وكان البراق كلما صعد عقبةً استوت رجلاه مع يديه، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه..
وما أن ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصل بيت المقدس. وهذا يدل على سرعته.. وعلى أن البراق قد ركبه الأنبياءُ من قبل أو بعضُهم عليهم السلام.. ثم قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ» قَالَ "ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ" [وفسروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة والمعنى والله أعلم اخترت علامة الإسلام والاستقامة وجعل اللبن علامة لكونه سهلا طيبا سائغا للشاربين سليم العاقبة، أما الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل.. وبهذا ينتهى الإسراء ويبدأ المعراج.
أيها الإخوة: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ أَخَذَ جِبْرِيلُ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، [نعم لقد صعد صلى الله عليه وسلم هناك.. إلى أعلى من السحب.. وأعلى من الشمسِ والنجومِ والمجراتِ والكواكب.. لقد اخترقها كلها.. وقص علينا ما رآه في هذه الرحلة العجيبة وفي هذا العلو المقدس وفيه أوحى الله إليه ما أوحى من فرض للصلاة..] يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ: لِخَازِنِ السَّمَاءِ افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ اليَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ.. جعلنا الله ووالدينا من أهل اليمن..
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وجرى حوارٌ بين جبريل عليه السلام وخازن هذه السماء كالحوار الأول. ووجد عيسى بنَ مريمَ وابنَ خالته يحيى بنَ زكريا عليهم الصلاة والسلام فرحبا به. وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاه عيسى بنَ مريم عليه السلام.. فقال: وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبِطَ الرَّأْسِ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ [وهو الحمام] وَأُرِيَ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ (فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ) [السجدة:23]
ثُمَ عَرَجَ بِهِ لجِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِما وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ وفي هذه السماء.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا هُوَ قَدِ اُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، قال: فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) [مريم:57].
ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ،فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ووصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي؛ مُوسَى، رَجُلاً آدَمَ طُوَالاً جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. [(جعد) قال العلماء المراد بالجعد هنا جعودة الجسم وهو اجتماعه واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر و(شنوءة) قبيلة معروفة] ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ودخل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ هذا البيت وَقَالَ جِبْرِيلُ لِهُ سَلِّمْ عَلَى أَبِيكَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فرحب بي.. وحمَّلَه وصيةً لأمته قَالَ فيها: يَا مُحَمَّدُ أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ وَأَنَّهَا قِيعَانٌ وَأَنَّ غِرَاسَهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. رواه الترمذي وحسنه الألباني. ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم عليه السلام فقال: وَرَأَيتُ إِبْرَاهِيمَ فَلاَ أَنْظُرُ إِلَى أَرَبٍ مِنْ آرَابِهِ إِلاَّ نَظَرْتُ إِلَيهِ كَأَنَّهُ صَاحِبُكُمُ. وفي رواية قَالَ: ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به. بارك الله لي ولكم..
الثانية:
أما بعد: ثم أتم قصة المعراج فقال صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ ذَهَبَ بِي جِبْرِيلُ إِلَى سِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وهى سدرة عظيمة [إليها ينتهي ما يعرج من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيقبض منها، وفي تفسير قوله تعالى: (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) قال: فراش من ذهب] ويصف صلى الله عليه وسلم ما حدث لها فيقول: ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها: جمالٌ وألوانٌ وثمارٌ تقفُ لغاتُ الدنيا ملجمة أمامها.. لا تستطيع مهما أوتيت من الإبداع تجليتها ووصفها.. أو التعبير عن معاناة الوقوف أمامها وأسرها..! هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم يقول: فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها. فكيف يكون جمال الجنة يا ترى.؟ وفي أصل هذه السدرة أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران. أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران: النيل والفرات أي عنصرهما.. وليس معناه أن النيل والفرات الآن متصلان بها.
يقول صلى الله عليه وسلم: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام.. ووصف صلى الله عليه وسلم رفيقَ المعراج جبريلَ عليه السلام كيف كانت هيأته وهو في الملأ الأعلى: بقوله: مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله كان جبريل كالثوب الرقيق.. قد ذاب من خشية الجبار سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة: في هذه الأجواء الشفافة المتوهجة الطاهرة.. في هذا العلو المقدس.. أوحى اللهُ إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم ما أوحى: أوحى له بفرض خمسين صلاة في اليوم والليلة. رجع بها صلى الله عليه وسلم مطيعًا كعادته.. لكنه وفي طريق النزول.. اعترضه موسى سائلًا.. فأجابه بأن الله قد فرض عليه خمسين صلاة.. فأرشده موسى إلى أن أمته تحتاج إلى تخفيف.. فصعد إلى ربه يسأله التخفيف. وما زال يتردد بين المكان الذي يُوحى إليه فيه وبين موسى عليه السلام حتى وصل التخفيف إلى خمس فَقَالَ لَهُ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ" فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ" نعم أحبتي: لقد جعلها الرحمن الرحيم خمسَ صلوات في اليوم والليلة لكن لها أجر خمسين صلاة. تفضلًا منه سبحانه وتعالى.
الله أكبر أيها الإخوة: هناك في مكان فوق السموات السبع فرضت ولم يرجع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفريضة غيرها، وكأن الباري سبحانه يقرر للأمة أهميتها وشدة فرضيتها.. وأنا أقول: الله الله بالصلاة؛ وكما أنها فرضت في عليين، هي كذلك وصيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند موته فقد كان يقول الصلاة الصلاة وهو في النزع.. اللهم اجعل الصلاة قرة عيوننا وأدخلنا الجنة من بابها يا رحمن..
أحبتي: نقف هنا في وصف الرحلة العظمى ونكملها في الجمعة القادمة بحول الله.. وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة فقد أمركم ربكم بذلك....
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق