لخطباء مكة : فضل العشر والرفادة

عبدالرحمن اللهيبي
1438/11/26 - 2017/08/18 00:46AM

هذه خطبة تم جمعها وتنسيقها بتصرف جعلها الله خالصة لوجهه الكريم

 

الحمد لله الذي أفاض على عباده من سحائب الجود وسوابغ الإنعام ما لا يعد ولا يحصر، أحمده سبحانه وأشكره شرع لنا مواسمَ يُنيب فيها العبدُ إلى ربه ويغسل قلبه من دنس الذنوب ويتطهر.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله نبي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المحشر.

أما بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فبِها تتحقَّق الخيراتُ وتحصل المسرَّات وتُدفع الكُرُبات " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ".

عبادَ الله، يطل علينا بعد يومين أو ثلاثةٍ أيامٌ هي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً , وأرفعُها قدرا , وأكثر الأوقات بركة وأجرًا، لَحَظَاتُهَا أَنفَسُ اللَّحَظَاتِ ، وَسَاعَاتُهَا أَغلَى السَّاعَاتِ ، وَأَيَّامُهَا هِيَ أَفضَلُ أيام الدنيا وَأَحَبُّهَا إِلى اللهِ ـ تَعَالى. إنّها أيّام العشرِ الأول من ذي الحجّة , هي للمؤمنين مغنَمٌ لاكتساب الخَيرات ...

وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ والحَطّ من السيِّئات والترقي لأرفعِ للدّرجات ، قال ابن رجب: "فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبَه نفحةٌ من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بها من النار وما فيها من الدركات".

أيها المحبون لربهم، إن كنتم تحبون ربكم حقا فإن الله يحب منكم العمل الصالح في هذه الأيام المقبلة فأروا الله فيها من أنفسكم ما يحبه منكم قال :((ما مِن أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام)) يعني أيّامَ العشر قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلاّ رجلٌ خرج بنفسه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء)) فكل عمل صالح تعملونه في أيام العشر ولو كان يسيرا هو أحب عند الله وأزكى من الجهاد في سبيل الله

وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما عملٌ أزكى عند الله ولا أعظم أجرًا من خيرٍ يعمله في عشر الأضحى)).

قال ابن رجب رحمه الله: "وقد دلت هذا الأحاديث على أن العمل في أيام العشر أحبُ إلى الله من العمل في أيام الدنيا كلِّها من غير استثناء شيء منها " فهي أفضل حتى من أيام شهر رمضان

ولأجل ما في هذه العشر المقبلة من الفضيلة فإنه يُشرع صومُها، بل ويتأكّد فضلُه فيها، عدا اليوم العاشر منها فيحرم .. فعند أبي داود والنسائيّ عن بعض نساء النبي وفيه أنّه كان يصوم تسعَ ذي الحجة.

وذلك لما للصيام من أجر عظيم عند الله، قال : ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا))أخرجه البخاري

فكيف إذن بأجر الصيام إذا وقع في هذه الأيام المباركة.

معاشرَ المسلمين، ومن خصائِص هذه العشر فضيلةُ الإكثار من التهليل والتكبيرِ والتحميد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما مِن أيّام أعظمُ عند الله ولا أحبّ إلى الله العملُ فيهنّ من أيّام العشر، فأكثِروا فيهنّ من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير))

قال البخاريّ في صحيحه: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوق في أيّام العشر يكبِّران، ويكبِّر الناس بتكبيرهما".

والتكبيرُ ـ عبادَ الله ـ عند أهلِ العلم مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع الأوقات من ليل أو نهار ، والمقيّد هو الذي يكون في أدبارِ الصّلواتِ فرضِها ونفلِها على الصّحيح، للرّجال والنّساء.

ويبدأ التكبير المطلق من بداية العشر إلى آخر أيام التشريق أي ثلاثة عشر يوما وأما التكبير المقيد فيبدأ مِن صُبح يومِ عرفة لغير الحاج إلى صلاة العصرِ من آخر أيّام التشريق , وأمّا للحاجّ فيبدأ التكبيرُ المقيّد عقِب صلاةِ الظهر من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق.

فأكثروا يا مسلمون في هذه الأيام القليلة القادمة من التكبير والتهليل والتحميد ومن الصلاة والصيام وقراءة قرآن والذكر والدعاء والصدقة وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن منكر، ورفادة الحاج والإحسان إليه وأبواب الخير مشرعة وطرق الخير كثيرة

فأَينَ الَّذِينَ يَسعَونَ إِلى مَا يُحِبُّهُ اللهُ فَلْيَجِدُّوا ؟ أين من يبغون جنة عرضها السموات والأرض فليهبوا؟
أَينَ الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا فَلْيُشَمِّرُوا ؟ أَينَ المُنفِقُونَ والمُتَصَدِّقُونَ فَلْيُكثِرُوا ؟ أَينَ مَن يَقضُونَ الحَاجَاتِ وَيُفَرِّجُونَ الكُرُبَاتِ فَلْيَبذُلُوا ؟
أَينَ السَّاعُونَ لِلدَّعوَةِ وَنَشرِ الخَيرِ فَلْيَنشَطُوا ؟
أيّها المسلمون، المغبونُ وربي من انصرَف عن طاعة الله والمحروم من خُذل عن التقرب لمولاه لا سيّما في هذه الأيام الفاضلة المقبلة، محروم وربي من حُرم العملُ فيها وجعلها كسائر أيام العام.

ألا وإنه مع انفتاح الدنيا على كثير من الناس باتوا يستغلون كل إجازة قصيرة أو طويلة، بما في ذلك إجازة عيد الأضحى في الترفيه واللعب والغفلة، بالنزهة في البراري والمنتجعات والاستراحات، وكثير منهم يشدون رحالهم فيسافرون للترويح واللهو، فيقضون الأيام المباركة التي فُضِّل العمل فيها على سائر الأيام فيما لا ينفعهم، ولربما ألحقوه بما يضرهم من تضييع الجمع والجماعات، والتهاون بالصلوات، وترك نوافل العبادات، والغفلة عن ذكر الله تعالى وشكره، وقد يشاهدون في أسفارهم ومتنزهاتهم منكرات لا يستطيعون إنكارها، ولا يفارقونها فيتحملون آثام سكوتهم عنها، ولاسيما من يسافرون خارج البلاد،

وقد يوقعون أنفسهم أو أولادهم فيما حرم الله تعالى عليهم وهم في غنى عن ذلك.

وإذا بحالهم على خلاف هؤلاء الحجاج الذين يقدمون من كل فج، ويتحملون كثرة النفقات، ومشقة الأسفار، وشدة الزحام والانتظار في المطارات؛ لأداء مناسكهم، وتعظيم شعائر الله تعالى، وذكره في الأيام المعلومات، فأي حرمان ينتظر أولئك المفرطين! وأي خسارة يخسرونها في هذا الموسم العظيم؟!

والله الذي لا رب غيره ولا إله سواه , إِنَّهَا لَخَسَارَةٌ مَا بَعدَهَا خَسَارَةٌ ، أَن تَمُرَّ هَذِهِ العَشرُ وَالعَبدُ حَالٍ قَد لا تُرضِي اللهَ ، وَأَيُّ إِعرَاضٍ أَشَدُّ مِن أَن يُحِبَّ اللهُ مِنكَ العَمَلَ الصَّالِحَ هذه الأيام ثُمَّ لا تقبل على ربك بما يحبه منك ولا تلتفت إليه وأنت الفقير وهو الغني عنك

أَينَ أَنتُم يَا مَن تَمُرُّ عَلَيكُم الأَيَّامُ لا تُؤَدُّونَ صَلاةَ الفَجرِ مَعَ الجَمَاعَةِ ؟ هَل أَنتُم عَازِمُونَ عَلَى التَّوبَةِ مِن هَذَا المُنكَرِ في هَذِهِ العَشرِ ؟! أَينَ أَنتُم أَيُّهَا القَاطِعُونَ لأَرحَامِكُم ؟! هَل سَتُرَاجِعُونَ أَنفُسَكُم فَتُسَامِحُوا مَن هَجَرتُم طَاعَةً لِرَبِّكُم ؟

و  يَا مَنِ امتَلأت بُيُوتُهم بِأَجهِزَةِ الفساد وَسَيِّئِ القَنَوَاتِ كالأم بي سي وروتانا وغيرها من قنوات السوء والفساد،

هَل ستطهرون بُيُوتِكُم من رجس سيء الفضائيات وخبيث القنوات ؟!
ويَا من يأَكلونَ الرِّبَا ، يَا مَن يبخَسون العُمَّالَ وَيجَحدون حُقُوقَ الأُجَرَاءِ ، هَل لنا في الرُّجُوعِ إِلى رشدنا وَالانتِهَاءِ عَن غينا ؟ هَل لنا في إِصلاحِ قُلُوبِنا لَتُرفَعَ أَعمَالُنا وَتُقبَلَ قُرُبَاتُنا ؟
فاغتنِموا ـ رحمكم الله ـ هذه الأيامَ المقبلة واجتهدوا في العبادةِ بشتّى أنواعها ، وَتَزَوَّدُوا مِن نَوَافِلِ الصَّلَوَاتِ بَعدَ الفَرَائِضِ وَوَاظِبُوا عَلَيهَا وَاقرَؤُوا القُرآنَ فَإِنَّهُ أَفضَلُ الذِّكرِ ، وليكن لأحدكم ختمة في هذه الأيام ، وَخُذُوا حَظَّكُم مِن قِيَامِ اللَّيلِ وَصَلاةِ الضُّحَى وَالصَّدَقَاتِ فوالذي نفسي بيده لسَرَعَانَ مَا ستَنْقَضِي هذه الأيام المباركة , وَمَا أَعْجَلَ مَا تُغَادِرُ , فَالرَّابِحُ مَنْ أَوْدَعَ فيها مَا يُقَرِّبُهُ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فنبيُّكم يروي عن ربِّه عزّ وجلّ قوله: ((يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)). بارك الله لي ولكم في القرآن..ِ

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.

أمّا بعد: عبادَ الله، مِن أعظمِ القُرُبات التي يتقرَّب بها المسلمون إلى ربِّهم في خِتام أيام العشر المباركة هي الأضاحي، ففيها أجر عظيم وهي سنة أبينا إبراهيم وشرعها لنا نبيُنا  من بعده، وحذرنا من ترك الأضحية من غير عذر، فقال : ((من وجد سعة فلم يضح فلا يقربنا مصلانا)) حسنه الألباني

وخيرُ الأضاحي أغلاها وأنفَسُها عند أهلها. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "والأجر في الأضحية على قدْر القيمة مطلقًا".

 ومَن أراد أن يضحّيَ عن نفسه أو أهلِ بيته ودخل شهرُ ذي الحِجّة فإنّه يكره له أن يأخذَ مِن شعره وأظفاره أو جِلده حتّى يذبحَ أضحيتَه، لِما روته أمّ سلمة عن النبيّ أنّه قال: ((إذا رأيتُم هلالَ ذي الحجة وأرادَ أحدكم أن يضحّيَ فلا يأخذ من شعرِه وأظفاره شيئًا حتى يضحّي))

والحكم متعلق بالمضحي فقط، فلا يعمّ من وكله بذبحها ولا بالزوجة والأولاد؛ لأن النبيّ كان يضحي عن آل محمد ولم ينقل أنه نهاهم عن الأخذ.

عباد الله : إن أهل الجاهلية في جاهليتهم كانوا يفخرون بخدمة الحجيج وهم على الكفر البواح والشرك الصراح فأنت أحق أن تفخر بذلك,

هذا وقد كان السلف -رحمهم الله- لا يرخون ستارا في بيوتهم دون الحاج فيأتي الحاج يطعم ويشرب دون سؤال أو طلب.

فيا أهل البلد الحرام قد أكرمكم الله بجواره وسكنى بيته الحرام فأكرموا أضيافه وزوار بيته فإنهم وفد الله أتوه تلبية لدعوته قال r " الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ " فحَقٌ على أهل البلد الحرام أن يكرموا وفد الله وضيوف الرحمن , قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " لَوْ يَعْلَمُ الْمُقِيمُونَ مَا لِلْحُجَّاجِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحَقِّ لأَتَوْهُمْ حِينَ يَقْدُمُونَ عليهم حَتَّى يُقَبِّلُوا رَوَاحِلَهُمْ لأَنَّهُمْ وَفْدُ اللَّهِ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ "

أرأيتم لو أن وفدا خاصا بالملك مقبل عليه ألا تعد لهم المواكب ويفسح لهم الطرق ولا يجرؤ أحد على مضايقتهم فكيف بوفد ملك الملوك,

وإنك يا عبد الله حين تقوم على خدمة وفد الله ورفادتهم فإنما تؤدي بذلك عبادة جليلة وقربة عظيمة ويعظم الأجر حين تكون في العشر المباركة وفي البلد الحرام ، ثم ما يدريك قد تحسن إلى ضيف من ضيوف الرحمن فيرفع يده في يوم عرفه يدعو لك فتكون سببا لرحمة تهبط عليك من ربك ومولاك .

فافسحوا لهم في الطريق وقفوا لهم بسياراتكم لتمكينهم من العبور وأغيثوا ملهوفهم وأعينوا محتاجهم وأنجدوا مكروبهم وأفشوا السلام بينهم وقابلوهم بالكلمة طيبة وعلى محياكم ابتسامة مشرقة ... وعلى التجار الحذر من أن يغالوا عليهم في الأسعار أو أن يغشوهم أو يخونوهم فإن غشهم وخيانتهم من أقبح الجرائم والآثام ويعظم الجرم حين تكون مع وفد الله في البلد الحرام وفي الشهر الحرام وفي العشر المباركة

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ـ  واجْتَهِدُوْا رَحِمَكُمُ اللهُ فِيْ أيام الْعَشْرِ المُبَارَكَةِ، وَفَرِّغُوا فِيْهَا أَنْفُسَكُمْ لِلْأَعْمَالِ الْصَّالِحَةِ ، فإن البقاء قليل، والرحيل قريب ((فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)). اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد…

المرفقات

عشر-ذي-الحجة-محدثة

عشر-ذي-الحجة-محدثة

المشاهدات 574 | التعليقات 0