لِجوا الباب .. قبل أن ينتهي الشهرُ ويُغلق الباب
عبدالرحمن اللهيبي
الحَمْدُ للهِ الغَفُورِ الرَّحِيمِ، الجَوَادِ الكَرِيمِ، بَاسِطِ الخَيْرَاتِ، وَاسِعِ الرَّحَمَاتِ، مُقِيلِ العَثَرَاتِ، مُغِيثِ اللَّهَفَاتِ، مُفِيضِ العَبَرَاتِ نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ رَفَعَ الله ذِكْرَهُ فِي المَلَأِ الأَعْلَى، وَعَرَجَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ الكُبْرَى، وأثنى عليه فِي كِتَابٍ يُتْلَى؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أما بعد: فعليكم بتقوى الله أيها الناس؛ فإن لباسَ التقوى خيرُ لباس، وهي المُرتجَى حين الرَّحيل وعند الإياس
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ..
أيها الصائمون، ما أسرعَ ما تنقضي الليالي والأيام، وما أعجلَ ما تتصرم الشهور والأعوام، فهذا شهرُنا المبارك قد أوشك تمامُه ، وتصرَّمت لياليْه وأيامُه، قرُب رحيله، وأزف تحويله، ولم يبق منه إلا قليله، سار مسرعا، وسيرحل مودعاً, ولله الحمد على ما قضى وأبرَم، وله الشّكر على ما أعطى وأنعم. فاختموا يا صائمون شهركم بخير ختام فالعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات ، واستغفروا ربكم من كل خلل وتقصير ، ومن كل إثم وخطأ وتفريط .. قال الحسن أكثروا من الاستغفار فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة
يا صائمون : إن ضيفنا شهرَ رمضانَ وإن أوشك رحيله إلا أنه لا يزال بين أيدينا ، وملء أسماعنا وأبصارنا ، وحديث منابرنا ، وحياة مساجدنا ، فكيف الحال بعد فراقه ، فالعين لفراقه تدمع والقلب لرحيله يوجل..
فيا لحسن الفائرين الذين اغتنموا شهر رمضان بأكمل وجه من صلاة وصيام ، وتلاوة وقيام ، وصدقة وإحسان .. فنظر الله إليهم وهم يبتهلون بالدعاء ، فغفر لهم ، وأجاب دعاءهم ، وعتق رقابهم
ويا لخسارة المفرطين الذين لم يعرفوا لرمضان قدره ، فأمضوا وقتهم بالملهيات ، واشغلوا أنفسهم بمقارفة الشهوات
ويوشك أن يمضى عليهم الشهر وهم على هذه الحال التي لا ترض رب البريات.
وَمَعَ هَذَا أيها الصائمون: فلئن مضَى أكثرُ شهرنا فلقد بقِيَ منه ما هو أرجاه، وإنك لا تعلم -يا عبد الله- أيَّ ساعةٍ سوف تُظِلُّك فيها النجاة ، ولا تعلم أيَّ ليلةٍ تُعتَقُ فيها من النار ، لتلحَقَ بركبِ الناجين الأبرار
فيَا أَيُّهَا الصُّائِمُونَ ، هَا أَنتُمُ اليَومَ في السادس والعِشرِينَ مِن رَمَضَانَ ، وَربما أنتم مُستَقبِلُونَ فِيما بقي من الليالي لَيلَة القَدرِ وَمَا أَدرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدرِ ، لَيلَةُ القَدرِ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ
فيا عَبدَ اللهِ ، يَا مَن قَصَّرتَ فِيمَا مَضَى وكلنا وربي كذلك ، لا تَقُلْ فَاتَ الأَوَانُ ! نَعَم ، لا تَقُلْ فَاتَ الأَوَانُ ، فَوَاللهِ مَا فَاتَ ، فإنه لم تزَل أبوابُ الجنان مفتحة وأبواب النيران مغلقة ، ولم تزَل الملائكةُ حاملةً أقلامَها لتكتُب الحسناتِ ، ولا زال لله عتقاء من النار فيما نحن مقبلون عليه من الليالي المباركات ، ولن يمَلَّ مُوفَّقٌ من خيرٍ حتى يكون مُنتهاهُ الجنة. (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)
فاغتنموا يا صائمون فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، ولِجوا قبل أن ينتهيَ الشهرُ ويُغلق الباب، ألا والله ما أحوجَ العبدَ لخلوة بربه في ختام شهره، يناجيه ويدعوه، مع التوبة والاستغفار، والأوبة والانكسار، والتضرع والافتقار، فلعل الله أن ينظر لحاله فيقيلُ منه العثار، ويحطُ عنه الذنوب والأوزار، فربنا غفور كريم لمن طرق بابه ، وارتجى رحمته وغفرانه
نعم يا عبد الله، والله لو بلغت ذنوبك كثرةً عنان السماء، وما انتهى إليه البصر من الفضاء، فإن الله يغفر لك إذا استغفرته ولا يبالي ، يقول رسول الله الهدى صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)) والله تعالى يقول: " وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ"
أقول قولي...
أما بعد: أيها المسلمون، ، ما أعجل ما تمضي الأيام، كنا بالأمس نستقبل رمضان، واليوم على عتبات وداعه، ولم يكن بين استقبالنا ووداعنا إلا أيام قلائل مرّت مرور الطيف ، ولمعت لمعان البرق ، ثم غادرتنا مُقَرِّبة إلينا آجالَنا ، مُقَصِّرة من آمالنا ، وعما قريب ستنقضي أعمارنا ، وعندها يفارق المرء دنياه، غير حامل زادًا إلا زادَ العملِ الصالح، فأيّنا أعدّ لذلك اليوم عُدّته واتخذ له أهبته ، والله تعالى يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ
فالله الله في ساعة لا شكّ في مجيئها، واجعلوا في تصرّم شهركم عبرةً تذكّركم بتصرّم أعماركم.
فيا عبد الله، جَدّ القوم وأنت قاعد، وقاموا لله وأنت غافل أو راقد، وأقبلوا على مولاهم وأنت عنه شارد ، وانتهو عن المحارم وأنت فيها شاهد ولها مشاهد..
فيا من أضعت ليالي رمضان الشريفة في اللهو والشهوات، يا لها والله من خسارة لا تشبهها خسارة، أن ترى أهلَ الإيمان واليقين، وقوافل القائمين العابدين ، قد حظَوا في ساعات هذا الشهر العظيم ، من الرب الكريم الرحمن ، بالقرب والزلفى والرضوان، وعُتقت رقابهم من النيران ، وقد رُميتَ أنت بالطرد والإبعاد والحرمان ، أعاذني الله وإياك من ذلك
فاستدرك يا عبد الله من رمضان ما فات، ودع اللهو جانباً، وأدرك الركب والحق بالقافلة، واجعل خواتيم الشهر بطاعة ربك حافلة، اجعَلْ مِن هَذِهِ اللَّيَالي المتبقية القَلِيلَةِ مَطِيَّتَكَ إِلى الجِنَانِ ، وفكاك النفس من رق الهوى والشيطان ، وأعظم الرجاءَ في الرب الكريم المنان ، وَسَابِقْ في الخيرات وسارع إلى الطاعات ، فَعَسَى أَن تَكُونَ مِمَّن قِيلَ فِيهِم : " وَفي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ "
وَاعْلَمُوا يا مسلمون أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَيْكُمْ زَكَاةَ الْفِطْرِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ثم احرصوا يا مسلمون على إدراك صلاة العيد والتبكير لها وإننا سوف نقيمها في هذا الجامع للرجال والنساء بإذن الله بعد وقت الإشراق بربع ساعة ..
هذا وصلوا وسلموا..