لُبُّ العُبُودِيَّة [خُطبة مُوجزة]
عبداللطيف بن عبدالله التويجري
1441/11/18 - 2020/07/09 17:01PM
لُبُّ العُبُودِيَّة
[خطبة مُوجزة]
1441/11/19هـ
الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾، أَمَّا بَعْد:
أيُّهَا الإخوةُ في الله ..
ذكرتْ بعضُ كتبِ السيرِ نبأَ رجلٍ صالح، وعالمٍ عابد، كان حكايةً في العبادةِ والافتقارِ إلى اللهِ عزَّ وجل، يفرُّ من جِنانِ مدينتِه البهيِّة، وأنهارِها العذبة، ويتوارى عن أناسِها وأهلِها، فلمْ تكنْ عندَه ذاتُ بالٍ واهتمام، كمَا هيَ عندَ كثيرٍ من الخلق، فالناسُ في شأنٍ وهوَ في شأنٍ آخر.
كان شأنُه الأولُ الافتقار إلى ربِه وخالقِه..
كان شأنُه.. الاغتناء باللهِ الغنيِّ عمنْ سواه منَ الخلق ..
كان شأنُه.. البقاع الطاهرة، والأماكن الخالية .. حيثُ لا تراهُ العيون، ولا يُشغلُه الشاغلون، فتحلُو له المناجاة، وتصفُو له المناداة، متمثلاً قولَ الأول:
وَأَخْــرُجُ مِنْ بَيْنِ البُيُوتِ لَعَــــــــلَّنِي
أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ بِالسِّرِ خَالِيَا
يحدثُ عنهُ تلميذُه رحمَه اللهُ تعالى فيقول: (وحضرتُ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميةَ مرةً صلى الفجر، ثمَّ جلسَ يذكرُ اللهَ تعالى إلى قريبٍ منْ انتصافِ النهار، ثمَّ التفتَ إليَّ وقال: هذهِ غدوتي، ولوْ لمْ أتغدَّ الغداء سقطتْ قوتي).
إنَّه الزادُ الحقيقيُّ في هذه الحياةِ يا عبادَ الله، زادُ الروحِ والبدنِ في الذكرِ والافتقار.. للهِ الواحدِ القهار، زادُ القلوب.. عند علامِ الغيوب.
أيُّها المؤمنون:
وإنَّ المتأملَ في جميعِ أنواعِ العبادات؛ ليبصرُّ أنَّ الافتقارَ فيها إلى اللهِ تعالى هيَ الصفةُ الجامعة، والصبغةُ الظاهرة؛ حيثُ إنها سرُّ حياةِ العبد، وأساسُ صلاحِه وإخلاصِه.
ومن كَمُلت عظمةُ الخالقِ في نفسِه، كانتْ حياتُه كلُّها للهِ تعالى، قولاً وعملاً واعتقادًا، ممتثلًا قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
ومنْ عرفَ قدرَ نفسِه وحقيقتَها حقَّ المعرفة، وفقرَها إلى ربِّها تباركَ وتعالى في كلِّ لحظةٍ وحين، عظُمتْ عندَه جنايةُ الإصرارِ على مخالفةِ ربِّه تباركَ وتعالى، وانتهاكِ محارمه.
ومنِ اكتملتْ عندَه أركانُ العبادة، وصدقُ الافتقارِ إلى ربه لا يلبثُ حتَّى يرى آثارَ ذلك في حياتِه وراحتِه وفلاحِه: فتجدُه وقَّافًا عندَ حدودِ اللهِ تعالى، مُعظمًا لها حقَّ التعظيم، فلا يبصرُ.. ولا ينطقُ.. ولا يبطشُ..
إلا وهوَ ناظرٌ إلى عملِه، فإنْ كانتْ طاعةً تقدم، وإن كانتِ الأخرى تأخر، وهذا من علاماتِ تقوى القلوبِ وصلاحِها: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.
وتمتدُّ ثمارُ ذلك أيضًا على الإنسانِ نفسِه.. في علاقتِه مع بني جنسِه، فيخلعُ عنه قناعَ الكبر، ويرمي عنهُ شعارَ الجهل، والتعالي على الناس، ومنْ عرفَ حقيقةَ نفسِه فأنى لهُ التكبرُ والتعالي؟ ومنْ عرفَ قدرَ نفسِه وفقرِه إلى ربِّه.. تواضعَ للهِ تعالى، فيكونُ طيبَ المعشر، لينَ الجانب، سمحَ النفس، وقدْ قالَ صلى اللهُ عليه وسلم: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ) [متفق عليه].
ومنْ ثمارِ عبوديةِ الافتقارِ إلى الله: صلاحُ القلبِ وفلاحُه، وراحتُه ونجاتُه، وفي هذا يقولُ إمامُنا ابنُ تيميةَ رحمَه الله تعالى: (والقلبُ فقيرٌ إلى اللهِ منْ جهتين: منْ جهةِ العبادة.. ومنْ جهةِ الاستعانةِ والتوكل.. فالقلبُ لا يصلح ولا يفلح.. ولا يلتذُّ ولا يُسرُّ.. ولا يطيبُ ولا يطمئنُّ.. إلا بعبادةِ ربِّه، وحبِّه والإنابةِ إليه، ولوْ حصلَ لهُ كلُّ مَا يلتذُّ بهِ منْ المخلوقاتِ لمْ يطمئنْ ولمْ يسكن؛ إذْ فيهِ فقرٌ ذاتيٌ إلى ربِّه منْ حيثُ هوَ معبودُه ومحبوبُه ومطلوبُه).
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)﴾.
بارك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطبة الثانية:
عبادَ الله:
وللافتقارِ إلى اللهِ تعالى آياتٌ وعلامات، يحسنُ بالعبدِ أنْ يحرصَ على الاتصافِ بهَا وملازمتِها، فهيَ المنجيةُ عندَ الفتن، والمثبتةُ عندَ المصائبِ والمحن، ومنْ أهمِّها:
«دوامُ ذكرِ اللهِ تعالى» فالذكرُ آيةُ الافتقارِ إلى اللهِ تعالى، وسؤالِ العونِ منه، ودوامِ الالتجاءِ إليه، وفي القلبِ حاجةٌ لا يسدُّها إلا ذكرَ اللهِ عزَّ وجلَّ كمَا يقولُه الإمامُ ابنُ القيمِ رحمَه اللهُ تعالى.
ومنْ أماراتِ الافتقارِ إلى الله: «تواضعُ النفسِ والإخلاصِ» معَ خشيةِ حبوطِ العمل، كمَا قالَ تعالى عنِ المسارعينَ السابقين: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)﴾.
ومنْ مناراتِ الافتقارِ إلى الله: «مشاهدةُ منةِ اللهِ تعالى وإنعامِه على العبد» لاسيمَا نعمةَ الإيمانِ الكبرى، والهدايةَ العظمى لهذا الدينِ العظيم، ونعمةَ الأمنِ والعافية، وتذكرُ ذلك معَ دوامِ الشكر، منْ أعظم مقتضياتِ الافتقارِ والعبودية.
ومنْ علاماتِ الافتقار: «دوامُ الانكسارِ إلى اللهِ والتضرعِ إليه في الاستقامةِ والثبات»، يقول أبو الدرداءِ رضيَ اللهُ عنه: (لا يأمنُ البلاء.. مَن يأمنُ البلاء، واللهِ إنَّ الرجلَ ليُفتنُ في ساعةٍ واحدة، فينقلبُ عن دينِه)، نسألُ اللهَ السلامةَ والعافية.
ومنْ آياتِ الافتقارِ إلى الله: المبادرةُ إلى التوبةِ الموجبةِ لرقةِ القلب، فالتوبةُ أنصعُ لبياضِ القلبِ وأبقى لرقتِه، ولا نجاةَ للعبدِ إلا بصلاحِه، وللهِ درُّ بعضِ الصالحين حينَ قال: (مَفاوزُ الدنيا تُقطعُ بالأقدام، ومفاوزُ الآخرةِ تُقطعُ بالقلوب).
اللهم آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا، اللهم زيِّنَّا بزينَةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدينَ غير ضالين ولا مضلين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.
المرفقات
لب-العبودية
لب-العبودية