(لا يقتلنكم الغضب)! بمناسة حادثة الأفلاج؛ جمع: محمد السعد
محمد بن مساعد السعد
1437/10/22 - 2016/07/27 20:44PM
الحمدُ لله، الحمدُ لله مُثيبِ الطائعينَ بجَزيل الثواب، ومُجيبِ السائِلين، فهو أكرمُ من أجابَ، يجتَبِي إليه من يشاءُ ويهدِي إليه من أنابَ، أحمدُه - سبحانه - على نعمٍ لا نُحصِيها وهو الكريمُ الوهَّاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجُو بها النجاةَ يوم الحساب.
وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أشرفُ رسولٍ أُنزِلَ عليه أفضلُ كتاب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله خيرِ آل، وأصحابِه أكرم الأصحاب، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم المآب.
أَمَّا بَعْدُ: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، ولتكُن الآذانُ لما جاء من عند ربِّها واعِية، والنفوسُ لحقوقِه راعِية، والأقدامُ في رِضاه ساعِية، واستعِدُّوا ليومٍ تُعرَضُون فيه، لا تخفَى منكم خافيٌةٌ، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْخَيْرُ وَالْفَلَاحُ، وَفِي الْحَيْدَةِ عَنْهَا الزَّيْغُ وَالْهَلَاكُ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفَسَادِ وَالنَّقْصِ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كَانَ سَبَبُهُ ضَعْفَ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.
لَقَدْ كَانَ مِنْ حِرْصِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُمَّتِهِ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ، وَاجْتِهَادِهِ مَعَهُمْ أَنْ بَشَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ، وَرَغَّبَهُمْ وَرَهَّبَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَحَجَزَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ؛ تَارَةً يَبْتَدِرُ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- بِالنَّصِيحَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَيَسْأَلُونَهُ إِيَّاهَا تَارَةً أُخْرَى فَيُجِيبُهُمْ، وَرُبَّمَا جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ فَيَسْأَلُهُ أَنْ يُوصِيَهُ بِعَمَلٍ يَنْفَعُهُ فَيُوصِيهِ.
ولأن الإنسانَ حينما يغضبُ ولو لسببٍ تافهٍ، فإنه يعتدي بالمقال وبالفِعال، و لربما هدمَ بيتَه بالطَّلاق، بل إنه قد يقتُلُ أحيانًا، و يموتُ بريءٌ بسبب غضبةٍ على أمرٍ تافه، ثم يكون الندمُ ولاتَ ساعةَ مندم!
وكُنْ حَسَنَ السَّجَايا ذَا حَيَاء *** كرِيمَ النَّفسِ لا شكِسًا غَضُوبًا
لهذا كان من وَصَايَا النبي الْعَظِيمَةِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوْصِنِي، قَالَ: "لَا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْعَظِيمَةِ وَتَكْرَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا أَطَالَ الْعُلَمَاءُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَاعْتَنَوْا بِهِ عِنَايَةً شَدِيدَةً، وَجَعَلُوهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَنْتَخِبُونَهَا لِلْحِفْظِ وَالْمُدَارَسَةِ، وَاسْتَخْرَجَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ فَائِدَةً؛ مَعَ أَنَّ أَحْرُفَ الْوَصِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ فِيهِ لَا تَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ أَحْرُفٍ.
عباد الله: لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوصِي أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- بِمَا هُوَ مُهِمٌّ، ، وَلَمْ يَكُنْ يُكْثِرُ مِنَ الْوَصَايَا أَوْ يُعَدِّدُهَا عَلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ; لِئَلَّا يَنْسَاهَا الْمُوصَى مِنْ كَثْرَتِهَا، وَلِيَكُونَ أَدْعَى لِلْعَمَلِ بِهَا; فَإِنَّ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ تَضْعُفُ فِي تَطْبِيقِ الْوَصَايَا الْمُتَعَدِّدَةِ، وَتَنْشَطُ فِي الِامْتِثَالِ لِلْوَاحِدَةِ.
وَالصَّحَابِيُّ حِينَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصِنِي؛ فَهُوَ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى بَابٍ مِنَ الْخَيْرِ يَلْزَمُهُ، وَقَدْ أَوْصَى هَذَا الصَّحَابِيَّ بِعَدَمِ الْغَضَبِ; مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ الْغَضَبِ، وَشِدَّةِ فَتْكِهِ بِالْإِنْسَانِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ; وَلِذَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا قَالَ فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ.
وَالْمُلَاحَظُ أَنَّ الرَّجُلَ رَدَّدَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسْأَلَتَهُ مِرَارًا، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يُوصِيَهُ بِأَلَّا يَغْضَبَ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ جِمَاعُ الشَّرِّ، وَأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ جِمَاعُ الْخَيْرِ.
قال عليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه-:"أوّلُ الغضبِ جنون، وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب".، وقال جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "الْغَضَبُ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ ". وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اجْمَعْ لَنَا حُسْنَ الْخُلُقِ فِي كَلِمَةٍ، قَالَ: "تَرْكُ الْغَضَبِ".
لا يحملُ الحقدَ مَنْ تعلُو به الرُّتبُ **** ولا ينالُ العُلا مَنْ طبعُه الغضبُ
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي فَضْلِ كَظْمِ الْغَيْظِ وَعْدٌ بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَاجْتِنَابُ الْغَضَبِ سَبَبٌ لِرِضَا اللَّهِ –تَعَالَى- عَنِ الْعَبْدِ; كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ -تَعَالَى-" رَوَاهُ أَحْمَدُ.
كُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مُجَانَبَةِ الْغَضَبِ; وَلِذَا وَصَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِ هَذَا الرَّجُلَ فَقَالَ: "لَا تَغْضَبْ"، وَكَرَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَاجْتِنَابُ الْغَضَبِ يَشْمَلُ اجْتِنَابَ أَسْبَابِهِ وَمُثِيرَاتِهِ; فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْضَبُ إِنْ جَالَسَ بَعْضَ مَنْ يَسْتَفِزُّونَهُ فَلْيَجْتَنِبْ مُجَالَسَتَهُمْ، وَلْيُبَاعِدْ عَمَّا يُثِيرُ غَضَبَهُ أَيْنَمَا كَانَ فَيَسْلَمُ مِنَ الْغَضَبِ وَإِثْمِهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَرَعِيَّتِهِ إِنْ رَأَى خَلَلًا فِي طَعَامِهِ أَوْ لِبَاسِهِ أَوْ بَيْتِهِ أَوْ وَظِيفَتِهِ، وَقَطْعُ هَذَا الْغَضَبِ يَكُونُ بِالتَّغَافُلِ مَعَ السَّعْيِ فِي إِصْلَاحِ الْخَلَلِ بِلَا غَضَبٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ زَائِدَةَ يَقُولُ: "الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ" قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: "الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فِي التَّغَافُلِ".
أيها الأكارم: وَيَكُونُ اجْتِنَابُ الْغَضَبِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِتَسْكِينِهِ، وَتَخْفِيفِ آثَارِهِ، وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى انْفِعَالِهِ; كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
إذَا بُلِيتَ بشخصٍ لا خَلاقَ له *** فكُنْ كأنك لَمْ تسمعْ ولم يَقُلِ
وَالْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ; وَلِذَا كَانَ التَّعَوُّذُ بِاللَّهِ –تَعَالَى- مِنَ الشَّيْطَانِ يُخَفِّفُ الْغَضَبَ وَيُذْهِبُهُ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا غَضْبَانَ؛ فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ؛ لَوْ قَالَ أَعُوَذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْجُلُوسِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَلَا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ، أَلَا تَرَوْنَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟! فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالْأَرْضَ الْأَرْضَ، أَلَا إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا، وَشَرَّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الرِّضَا" وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ؛ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ" رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِمَ مُتَهَيِّئٌ لِلِانْتِقَامِ، وَالْجَالِسُ دُونَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْمُضْطَجِعُ أَبْعَدُ عَنْهُ؛ فَأَمَرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّبَاعُدِ عَنْهُ حَالَةَ الِانْتِقَامِ.
وَالْغَضْبَانُ مَأْمُورٌ بِالسُّكُوتِ; لِأَنَّ التَّرَاشُقَ بِالْأَلْفَاظِ يَزِيدُ فِي الْغَضَبِ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْقِتَالِ; وَكَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيلِ غَضَبٍ! وَكَمْ فِي السُّجُونِ مِنْ قَاتِلٍ فِي حَالَةِ غَضَبٍ، لَوْ أَخَذُوا بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي اجْتِنَابِ الْغَضَبِ وَأَسْبَابِهِ وَآثَارِهِ - لَنَجَوْا بِإِذْنِ اللَّهِ –تَعَالَى- مِمَّا هُمْ فِيهِ.
رأيْتُ العزَّ في أدبٍ وعقْلٍ *** وفي الطَّيشِ المذلةُ والهوَانُ
فَإِنْ كَانَ خَصِيمُهُ أَثْنَاءَ غَضَبِهِ زَوْجَهُ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ يُؤَدِّي إِلَى الطَّلَاقِ، وَتَفَرُّقِ الْأُسْرَةِ، وَضَيَاعِ الْأَوْلَادِ، وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ".
قَالَ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِرَجُلٍ: لَا تَغْضَبْ، قَالَ: أَمَرْتَنِي أَلَّا أَغْضَبَ، وَإِنَّهُ لَيَغْشَانِي مَا لَا أَمْلِكُ، قَالَ: فَإِنْ غَضِبْتَ فَامْلِكْ لِسَانَكَ وَيَدَكَ.
وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ إِنْ تَكَلَّمَ حَالَ غَضَبِهِ أَلَّا يَقُولَ إِلَّا حَقًّا، وَمِنَ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: "وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
قَالَ العلامة ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "وَهَذَا عَزِيزٌ جَدًّا وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقُولُ سِوَى الْحَقِّ سَوَاءٌ غَضِبَ أَوْ رَضِيَ; فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إِذَا غَضِبَ لَا يَتَوَقَّفُ فِيمَا يَقُولُ".
وَالْوُضُوءُ مِنْ أَسْبَابِ كَبْحِ الْغَضَبِ فِي بِدَايَتِهِ، وَتَخْفِيفِ آثَارِهِ; لِيُطْفِئَ الْغَضْبَانُ بِالْمَاءِ نَارَ غَضَبِهِ; كَمَا رَوَى أَبُو وَائِلٍ الْقَاصُّ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّعْدِيِّ فَكَلَّمَهُ رَجُلٌ فَأَغْضَبَهُ، فَقَامَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ تَوَضَّأَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَطِيَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ؛ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وإذَا غضِبْتَ فكُنْ وقُورًا كاظِمًا *** لِلغيظِ تُبصِرُ ما تقولُ وتسمعُ
فكَفــى بهِ شرفًا تَصبُّرُ ساعةٍ *** يرْضَى بِهَا عنْكَ الإلهُ وتُرفعُ
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحمد لله بالعظمة والجلال، مسبغِ الآلاء والأفضال، تبارك إلهاً، حقَّق الآمالَ بحميد الخصال، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا وقدوتنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، الموصوفُ بأقوم الشِّيم وأبهى الخلالِ، صلى الله وسلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه الحائزين من الأناة والإغضاءِ مجدًا لا يُنَال، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دام إمراعٌ وإمحال.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ –تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْعَظِيمَةَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَدَمِ الْغَضَبِ، وَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الْكَثِيرَةِ مِنْ مُعَالَجَةِ الْغَضَبِ وَتَخْفِيفِ آثَارِهِ - لَتَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى فَتْكِ الْغَضَبِ بِالْإِنْسَانِ، وَأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّ الْغَضَبَ سَبَبٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْعَصْرِ الْمُزْمِنَةِ كَارتفاع ضغط الدم وَالسُّكَّرِي وَأَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَغَيْرِهَا.
أخوة الصفح والحلم:
وكم يجد المرء في دروب الحياة، وميادين العمل، وساحات المجتمعات مَن يميلُ إلى إثارة المشكلات، ويتعمد الاستفزازات وبثَّ النـزاعات، وقد يتعدى ذلك إلى وسائل الإعلام والفضائيات، وأروقة المحاكم ومراكز الشرط والتحقيقات، ناهيكم عما يدور في الأسر والبيوتات، والمواقع والمنتديات، ومجالات الحوارات والأطروحات، ، وعالم الشائعات والوشايات،
إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُفْسِدُ عَيْشَهُ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَلَا يُطِيقُهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ وَالْمُقَرَّبُونَ مِنْهُ; لِكَثْرَةِ غَضَبِهِ، وَلَا يُحِسُّونَ بِالْأَمْنِ أَثْنَاءَ وُجُودِهِ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الْوَحْشَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَبَعْضُ النَّاسِ مَا عَادَ يَحْتَمِلُ أَحَدًا; لِسُرْعَةِ غَضَبِهِ وَبُطْءِ رِضَاهُ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ أَحَدٌ، فَيَمَلُّ النَّاسَ وَيَمَلُّونَهُ، وَيُصَابُ بِعُزْلَةٍ تَفْتِكُ بِهِ;
وهنا في مثل هذه المواقف المحتدمة يجب كبحُ جماح الغضب، لتحقيق غاية الأرَب، وليتدرع العاقلُ بالحلم، لنيل عالي الرتب،
ومَنْ رَوَّضَ نَفْسَهُ عَلَى كَبْحِ الْغَضَبِ وَقَهْرِ الشَّيْطَانِ ارْتَاضَتْ فَانْدَحَرَ شَيْطَانُهُ; ذَلِكَ أَنَّ الْحِلْمَ بِالتَّحَلُّمِ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّعَلُّمِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِغْضَابِهِ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ. يقول -صلى الله عليه وسلم- لأشجِّ عبد القيس: "إنَّ فيكَ لَخَصْلتين يحبُّهما الله: الحِلم والأنََاة" خرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وَأَمَّا مَنْ جَارَى نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ، وَلَعِبَ بِهِ هَوَاهُ، وَتَقَاذَفَتْهُ شَيَاطِينُهُ، وَاسْتَطَاعَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ اسْتِفْزَازَهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنْ بَدَا لِلنَّاسِ قَوِيًّا.
أيها المؤمنون: إن من الغضبِ غضبًا محمودًا ألا وهو َالْغَضَبُ لِمَحَارِمِ اللَّهِ –تَعَالَى- الَّتِي تُنْتَهَكُ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ النَّاسِ غَضَبًا إِذَا انْتُهِكَتْ لِلَّهِ –تَعَالَى- حُرْمَةٌ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغَضَبُ مَوْزُونًا بِمِيزَانِ الشَّرْعِ لَا يَصِلُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْإِفْرَاطِ وَالْغُلُوِّ، وَإِلَّا لَأَهْلَكَ النَّفْسَ وَأَوْبَقَهَا، وَأَوْقَعَهَا فِي التَّأَلِّي عَلَى اللَّهِ –تَعَالَى-;
ومَا غضَبُ الإنسانِ إلا حماقةٌ *** إذا كانَ فِيمَا ليسَ للهِ يغضبُ
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "مَا أَبْكَى الْعُلَمَاءَ بُكَاءٌ آخِرَ الْعُمْرِ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا أَحَدُهُمْ فَتَهْدِمُ عَمَلَ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَرُبَّ غَضْبَةٍ قَدْ أَقْحَمَتْ صَاحِبَهَا مُقْحَمًا مَا اسْتَقَالَهُ"،،، فلا يقتلنكم الغضب يا عبادَ الله.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم الهادي خير خلق الله محمد بن عبد الله ، القرشي الهاشمي، خيرِ من تجاوز عن الخلق وعفا، كما أمركم الباري جل وعلا غفارِ الذنوبِ لكل من هفا، قال تعالى قولاً كريمًا )إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً(
صلَّى عليهِ إلهُ العرْشِ ما طَلَعتْ *** شمسُ النهارِ ولاحتْ أنجمُ الغسَقِ
وصحبِه النُّجُبِ الصِّيدِ الذين **** جرُوا إلى المناقِبِ من تالٍ ومستَبِقِ
وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أشرفُ رسولٍ أُنزِلَ عليه أفضلُ كتاب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله خيرِ آل، وأصحابِه أكرم الأصحاب، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا إلى يوم المآب.
أَمَّا بَعْدُ: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، ولتكُن الآذانُ لما جاء من عند ربِّها واعِية، والنفوسُ لحقوقِه راعِية، والأقدامُ في رِضاه ساعِية، واستعِدُّوا ليومٍ تُعرَضُون فيه، لا تخفَى منكم خافيٌةٌ، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)
أَيُّهَا النَّاسُ: فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْخَيْرُ وَالْفَلَاحُ، وَفِي الْحَيْدَةِ عَنْهَا الزَّيْغُ وَالْهَلَاكُ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفَسَادِ وَالنَّقْصِ الَّذِي أُصِيبَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ كَانَ سَبَبُهُ ضَعْفَ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.
لَقَدْ كَانَ مِنْ حِرْصِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أُمَّتِهِ، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَرَأْفَتِهِ بِهِمْ، وَاجْتِهَادِهِ مَعَهُمْ أَنْ بَشَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ، وَرَغَّبَهُمْ وَرَهَّبَهُمْ، وَعَلَّمَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَحَجَزَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ؛ تَارَةً يَبْتَدِرُ أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- بِالنَّصِيحَةِ وَالْمَوْعِظَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَيَسْأَلُونَهُ إِيَّاهَا تَارَةً أُخْرَى فَيُجِيبُهُمْ، وَرُبَّمَا جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ فَيَسْأَلُهُ أَنْ يُوصِيَهُ بِعَمَلٍ يَنْفَعُهُ فَيُوصِيهِ.
ولأن الإنسانَ حينما يغضبُ ولو لسببٍ تافهٍ، فإنه يعتدي بالمقال وبالفِعال، و لربما هدمَ بيتَه بالطَّلاق، بل إنه قد يقتُلُ أحيانًا، و يموتُ بريءٌ بسبب غضبةٍ على أمرٍ تافه، ثم يكون الندمُ ولاتَ ساعةَ مندم!
وكُنْ حَسَنَ السَّجَايا ذَا حَيَاء *** كرِيمَ النَّفسِ لا شكِسًا غَضُوبًا
لهذا كان من وَصَايَا النبي الْعَظِيمَةِ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوْصِنِي، قَالَ: "لَا تَغْضَبْ"، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلِأَهَمِّيَّةِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ الْعَظِيمَةِ وَتَكْرَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهَا أَطَالَ الْعُلَمَاءُ الْكَلَامَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَاعْتَنَوْا بِهِ عِنَايَةً شَدِيدَةً، وَجَعَلُوهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَنْتَخِبُونَهَا لِلْحِفْظِ وَالْمُدَارَسَةِ، وَاسْتَخْرَجَ بَعْضُهُمْ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ فَائِدَةً؛ مَعَ أَنَّ أَحْرُفَ الْوَصِيَّةِ الَّتِي جَاءَتْ فِيهِ لَا تَزِيدُ عَلَى سِتَّةِ أَحْرُفٍ.
عباد الله: لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوصِي أَصْحَابَهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- بِمَا هُوَ مُهِمٌّ، ، وَلَمْ يَكُنْ يُكْثِرُ مِنَ الْوَصَايَا أَوْ يُعَدِّدُهَا عَلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ; لِئَلَّا يَنْسَاهَا الْمُوصَى مِنْ كَثْرَتِهَا، وَلِيَكُونَ أَدْعَى لِلْعَمَلِ بِهَا; فَإِنَّ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ تَضْعُفُ فِي تَطْبِيقِ الْوَصَايَا الْمُتَعَدِّدَةِ، وَتَنْشَطُ فِي الِامْتِثَالِ لِلْوَاحِدَةِ.
وَالصَّحَابِيُّ حِينَ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصِنِي؛ فَهُوَ يَسْأَلُهُ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى بَابٍ مِنَ الْخَيْرِ يَلْزَمُهُ، وَقَدْ أَوْصَى هَذَا الصَّحَابِيَّ بِعَدَمِ الْغَضَبِ; مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ الْغَضَبِ، وَشِدَّةِ فَتْكِهِ بِالْإِنْسَانِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ; وَلِذَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا قَالَ فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ.
وَالْمُلَاحَظُ أَنَّ الرَّجُلَ رَدَّدَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسْأَلَتَهُ مِرَارًا، فَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يُوصِيَهُ بِأَلَّا يَغْضَبَ.
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ جِمَاعُ الشَّرِّ، وَأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْهُ جِمَاعُ الْخَيْرِ.
قال عليُّ بنُ أبي طالب -رضي الله عنه-:"أوّلُ الغضبِ جنون، وآخره ندم، وربما كان العطب في الغضب".، وقال جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "الْغَضَبُ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ ". وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اجْمَعْ لَنَا حُسْنَ الْخُلُقِ فِي كَلِمَةٍ، قَالَ: "تَرْكُ الْغَضَبِ".
لا يحملُ الحقدَ مَنْ تعلُو به الرُّتبُ **** ولا ينالُ العُلا مَنْ طبعُه الغضبُ
وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي فَضْلِ كَظْمِ الْغَيْظِ وَعْدٌ بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَاجْتِنَابُ الْغَضَبِ سَبَبٌ لِرِضَا اللَّهِ –تَعَالَى- عَنِ الْعَبْدِ; كَمَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَاذَا يُبَاعِدُنِي مِنْ غَضَبِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟ قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ -تَعَالَى-" رَوَاهُ أَحْمَدُ.
كُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مُجَانَبَةِ الْغَضَبِ; وَلِذَا وَصَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِ هَذَا الرَّجُلَ فَقَالَ: "لَا تَغْضَبْ"، وَكَرَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ.
وَاجْتِنَابُ الْغَضَبِ يَشْمَلُ اجْتِنَابَ أَسْبَابِهِ وَمُثِيرَاتِهِ; فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْضَبُ إِنْ جَالَسَ بَعْضَ مَنْ يَسْتَفِزُّونَهُ فَلْيَجْتَنِبْ مُجَالَسَتَهُمْ، وَلْيُبَاعِدْ عَمَّا يُثِيرُ غَضَبَهُ أَيْنَمَا كَانَ فَيَسْلَمُ مِنَ الْغَضَبِ وَإِثْمِهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَرَعِيَّتِهِ إِنْ رَأَى خَلَلًا فِي طَعَامِهِ أَوْ لِبَاسِهِ أَوْ بَيْتِهِ أَوْ وَظِيفَتِهِ، وَقَطْعُ هَذَا الْغَضَبِ يَكُونُ بِالتَّغَافُلِ مَعَ السَّعْيِ فِي إِصْلَاحِ الْخَلَلِ بِلَا غَضَبٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ زَائِدَةَ يَقُولُ: "الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي التَّغَافُلِ" قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، فَقَالَ: "الْعَافِيَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ كُلُّهَا فِي التَّغَافُلِ".
أيها الأكارم: وَيَكُونُ اجْتِنَابُ الْغَضَبِ بَعْدَ وُقُوعِهِ بِتَسْكِينِهِ، وَتَخْفِيفِ آثَارِهِ، وَالسَّيْطَرَةِ عَلَى انْفِعَالِهِ; كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
إذَا بُلِيتَ بشخصٍ لا خَلاقَ له *** فكُنْ كأنك لَمْ تسمعْ ولم يَقُلِ
وَالْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ; وَلِذَا كَانَ التَّعَوُّذُ بِاللَّهِ –تَعَالَى- مِنَ الشَّيْطَانِ يُخَفِّفُ الْغَضَبَ وَيُذْهِبُهُ، وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجُلًا غَضْبَانَ؛ فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ؛ لَوْ قَالَ أَعُوَذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْجُلُوسِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَلَا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ، أَلَا تَرَوْنَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟! فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالْأَرْضَ الْأَرْضَ، أَلَا إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا، وَشَرَّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الرِّضَا" وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ؛ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ" رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَائِمَ مُتَهَيِّئٌ لِلِانْتِقَامِ، وَالْجَالِسُ دُونَهُ فِي ذَلِكَ، وَالْمُضْطَجِعُ أَبْعَدُ عَنْهُ؛ فَأَمَرَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالتَّبَاعُدِ عَنْهُ حَالَةَ الِانْتِقَامِ.
وَالْغَضْبَانُ مَأْمُورٌ بِالسُّكُوتِ; لِأَنَّ التَّرَاشُقَ بِالْأَلْفَاظِ يَزِيدُ فِي الْغَضَبِ، وَيُؤَدِّي إِلَى الْقِتَالِ; وَكَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيلِ غَضَبٍ! وَكَمْ فِي السُّجُونِ مِنْ قَاتِلٍ فِي حَالَةِ غَضَبٍ، لَوْ أَخَذُوا بِوَصِيَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي اجْتِنَابِ الْغَضَبِ وَأَسْبَابِهِ وَآثَارِهِ - لَنَجَوْا بِإِذْنِ اللَّهِ –تَعَالَى- مِمَّا هُمْ فِيهِ.
رأيْتُ العزَّ في أدبٍ وعقْلٍ *** وفي الطَّيشِ المذلةُ والهوَانُ
فَإِنْ كَانَ خَصِيمُهُ أَثْنَاءَ غَضَبِهِ زَوْجَهُ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ يُؤَدِّي إِلَى الطَّلَاقِ، وَتَفَرُّقِ الْأُسْرَةِ، وَضَيَاعِ الْأَوْلَادِ، وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ".
قَالَ سَلْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِرَجُلٍ: لَا تَغْضَبْ، قَالَ: أَمَرْتَنِي أَلَّا أَغْضَبَ، وَإِنَّهُ لَيَغْشَانِي مَا لَا أَمْلِكُ، قَالَ: فَإِنْ غَضِبْتَ فَامْلِكْ لِسَانَكَ وَيَدَكَ.
وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ إِنْ تَكَلَّمَ حَالَ غَضَبِهِ أَلَّا يَقُولَ إِلَّا حَقًّا، وَمِنَ الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ: "وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
قَالَ العلامة ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "وَهَذَا عَزِيزٌ جَدًّا وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقُولُ سِوَى الْحَقِّ سَوَاءٌ غَضِبَ أَوْ رَضِيَ; فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إِذَا غَضِبَ لَا يَتَوَقَّفُ فِيمَا يَقُولُ".
وَالْوُضُوءُ مِنْ أَسْبَابِ كَبْحِ الْغَضَبِ فِي بِدَايَتِهِ، وَتَخْفِيفِ آثَارِهِ; لِيُطْفِئَ الْغَضْبَانُ بِالْمَاءِ نَارَ غَضَبِهِ; كَمَا رَوَى أَبُو وَائِلٍ الْقَاصُّ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّعْدِيِّ فَكَلَّمَهُ رَجُلٌ فَأَغْضَبَهُ، فَقَامَ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ تَوَضَّأَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَطِيَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الْغَضَبَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ؛ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
وإذَا غضِبْتَ فكُنْ وقُورًا كاظِمًا *** لِلغيظِ تُبصِرُ ما تقولُ وتسمعُ
فكَفــى بهِ شرفًا تَصبُّرُ ساعةٍ *** يرْضَى بِهَا عنْكَ الإلهُ وتُرفعُ
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحمد لله بالعظمة والجلال، مسبغِ الآلاء والأفضال، تبارك إلهاً، حقَّق الآمالَ بحميد الخصال، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا وقدوتنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، الموصوفُ بأقوم الشِّيم وأبهى الخلالِ، صلى الله وسلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه الحائزين من الأناة والإغضاءِ مجدًا لا يُنَال، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دام إمراعٌ وإمحال.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ –تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ الْعَظِيمَةَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَدَمِ الْغَضَبِ، وَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخْرَى الْكَثِيرَةِ مِنْ مُعَالَجَةِ الْغَضَبِ وَتَخْفِيفِ آثَارِهِ - لَتَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى فَتْكِ الْغَضَبِ بِالْإِنْسَانِ، وَأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّ الْغَضَبَ سَبَبٌ لِكَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْعَصْرِ الْمُزْمِنَةِ كَارتفاع ضغط الدم وَالسُّكَّرِي وَأَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَغَيْرِهَا.
أخوة الصفح والحلم:
وكم يجد المرء في دروب الحياة، وميادين العمل، وساحات المجتمعات مَن يميلُ إلى إثارة المشكلات، ويتعمد الاستفزازات وبثَّ النـزاعات، وقد يتعدى ذلك إلى وسائل الإعلام والفضائيات، وأروقة المحاكم ومراكز الشرط والتحقيقات، ناهيكم عما يدور في الأسر والبيوتات، والمواقع والمنتديات، ومجالات الحوارات والأطروحات، ، وعالم الشائعات والوشايات،
إِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُفْسِدُ عَيْشَهُ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَلَا يُطِيقُهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ وَالْمُقَرَّبُونَ مِنْهُ; لِكَثْرَةِ غَضَبِهِ، وَلَا يُحِسُّونَ بِالْأَمْنِ أَثْنَاءَ وُجُودِهِ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ أَسْبَابِ الْوَحْشَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأُسْرَةِ الْوَاحِدَةِ، وَبَعْضُ النَّاسِ مَا عَادَ يَحْتَمِلُ أَحَدًا; لِسُرْعَةِ غَضَبِهِ وَبُطْءِ رِضَاهُ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ أَحَدٌ، فَيَمَلُّ النَّاسَ وَيَمَلُّونَهُ، وَيُصَابُ بِعُزْلَةٍ تَفْتِكُ بِهِ;
وهنا في مثل هذه المواقف المحتدمة يجب كبحُ جماح الغضب، لتحقيق غاية الأرَب، وليتدرع العاقلُ بالحلم، لنيل عالي الرتب،
ومَنْ رَوَّضَ نَفْسَهُ عَلَى كَبْحِ الْغَضَبِ وَقَهْرِ الشَّيْطَانِ ارْتَاضَتْ فَانْدَحَرَ شَيْطَانُهُ; ذَلِكَ أَنَّ الْحِلْمَ بِالتَّحَلُّمِ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّعَلُّمِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِغْضَابِهِ; لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَفْسَهُ. يقول -صلى الله عليه وسلم- لأشجِّ عبد القيس: "إنَّ فيكَ لَخَصْلتين يحبُّهما الله: الحِلم والأنََاة" خرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-.
وَأَمَّا مَنْ جَارَى نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ، وَلَعِبَ بِهِ هَوَاهُ، وَتَقَاذَفَتْهُ شَيَاطِينُهُ، وَاسْتَطَاعَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ اسْتِفْزَازَهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنْ بَدَا لِلنَّاسِ قَوِيًّا.
أيها المؤمنون: إن من الغضبِ غضبًا محمودًا ألا وهو َالْغَضَبُ لِمَحَارِمِ اللَّهِ –تَعَالَى- الَّتِي تُنْتَهَكُ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ النَّاسِ غَضَبًا إِذَا انْتُهِكَتْ لِلَّهِ –تَعَالَى- حُرْمَةٌ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغَضَبُ مَوْزُونًا بِمِيزَانِ الشَّرْعِ لَا يَصِلُ بِصَاحِبِهِ إِلَى الْإِفْرَاطِ وَالْغُلُوِّ، وَإِلَّا لَأَهْلَكَ النَّفْسَ وَأَوْبَقَهَا، وَأَوْقَعَهَا فِي التَّأَلِّي عَلَى اللَّهِ –تَعَالَى-;
ومَا غضَبُ الإنسانِ إلا حماقةٌ *** إذا كانَ فِيمَا ليسَ للهِ يغضبُ
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "مَا أَبْكَى الْعُلَمَاءَ بُكَاءٌ آخِرَ الْعُمْرِ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا أَحَدُهُمْ فَتَهْدِمُ عَمَلَ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ سِتِّينَ سَنَةً أَوْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَرُبَّ غَضْبَةٍ قَدْ أَقْحَمَتْ صَاحِبَهَا مُقْحَمًا مَا اسْتَقَالَهُ"،،، فلا يقتلنكم الغضب يا عبادَ الله.
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على نبيكم الهادي خير خلق الله محمد بن عبد الله ، القرشي الهاشمي، خيرِ من تجاوز عن الخلق وعفا، كما أمركم الباري جل وعلا غفارِ الذنوبِ لكل من هفا، قال تعالى قولاً كريمًا )إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً(
صلَّى عليهِ إلهُ العرْشِ ما طَلَعتْ *** شمسُ النهارِ ولاحتْ أنجمُ الغسَقِ
وصحبِه النُّجُبِ الصِّيدِ الذين **** جرُوا إلى المناقِبِ من تالٍ ومستَبِقِ