لا يَرْقَأ لَهُ دَمْعٌ

لا يَرْقَأ لَهُ دَمْعٌ

كتبه: زرد السلاسل

توطئة

الفضلُ لله وحده ..
منذ نعومةِ أظفاري , و أنا أتقلبُ في حِلقِ تحفيظِ القرآن الكريم , المنتشرةِ في كلِّ قرى نجد و ضواحيها , ارتقيتُ في السلمِ التطوعي لهذه الحلِق , حتى غدوتُ عنصراً فاعلاً له حضوره , ضربتْ جذوره في أعماق الحِلق , أُشير و أستشير , أحلل و أنتقد , أقدّم و أؤخر ..
لم تَكن هذه الحياةُ محض إدارة , أو محض وظيفة تطوعية فحسب , بل كانت حياة تفاعلية ألامس من خلالها هموم الطلاب و أحاسيسهم , و أعيشُ معهم , بل لربما كنتُ في يومٍ من الأيام أقرب إليه من أمه و أبيه , يبوح لي بأسراره و مشاكله , حقيقةٌ عشتُها وخضتُ أخطارها .. أدركها قلبي .. و وعتها أذناي ..


من أجل ذلك أحكي فأقول :

دلفنا إلى المسجد بعد صلاة العصرِ بمدّة , كل شيءٍ كان ساكناً , الأنوار مقفلة , و المحراب بظهره المحدودب يغطُّ في هدوءٍ عميق , لعله يصلي لله ما شاء الله له , بينما شعاع الشمس الخافت يتسلل من النوافذ على حياء , ليطبع على سجّاد المسجد ألواناً من الحُسنِ و الجمال ..
رمقتُ (نواف) بنظرةٍ حانيةٍ مُحِبّة , و وضعت يدي فوق رأسه , و قلتُ بسكينة .. هذا يومٌ لن تنساه يا نواف , أطرقَ برأسه حياءً , وذاب خجلاً , حارَ في الجواب , لا يدري ما يقول ..؟ و لا بأي شيءٍ ينطق ..! .
صليتُ – وهو – تحيةَ المسجد أجمل ما يكون , في تؤدةٍ و أناة , كيف لا ..؟
و الجامع الكبير يلفّه الخشوع من كل مكان , و يحتفي به من كل جانب , و الوقتُ وقتُ أصيل يُجبرك على السكون و طول التأمل , بالنسبةِ له أجزمُ أنه كان يصلي , وقلبه يقاسي جلجلة الموجِ الحرون , يرهبُ اللحظات القادمة .. يعلمُ أنها مفرحةٌ مبكية , جدّه , أبوه , أمه , إخوته , أخواله .. كلهم ينتظرون هذه اللحظة ..

تُرى هل يعيشُ في الحقيقة ..؟
أم أنه يسبحُ مع أطياف الخيالِ المفلسة ..؟
لا يدري ..
ثم و بلا شعور يلوك يده بيده الأخرى ليعلم إن كان في حلم أو في حقيقة ..!
حتى إذا أحسَّ بالألم أيقن أنه في الحقيقةِ يموج ..!
لم ينم ليلةَ البارحةِ كما يجب , كان يسبحُ بفكره بعيدًا بعيدًا بعيدًا .. يترقبُ الغد القريب الذي ابتعد , ينتظرُ اللحظةَ التي يحققُ فيها أحلام أمه , التي لطالما تمنت ابناً لها يحفظُ كتابَ ربّه , عسى أن يكون شفيعاً لها يومَ القيامة , بل كانت تتمنى أن لو درس ابنها في مدارسِ التحفيظ النظامية , ليحقق لها هذه الأمنية ..
و هاهو اليوم .. يعدُّ الدقائق و الثواني ليشمخ في صفِّ العمالقة , و ليرمِ جثته في أحضان أمه و يصرخَ قائلاً : ها أنا في باذخ المجد سمقت ..
انفضّ الغلام الأيفعُ من صلاته , التي ربما لم يعقل أكثرها , فخاطره يصول و يجول , لا يملك له رسناً و لا قيادا , اتجه ناحية أدراج المصاحف ليتناولَ مُصْحفاً , يداه ترتعشان من هوْل ما سيُقبل عليه , و قلبه يخفقُ , و هو يحاول – بكل ما أوتي من قوة – أن يخفيَ هذا الشعور , و هذا الارتباك , لكن لا فائدة , فالخرق قد اتسع على الراقع .
لَحَظني بعينه بعد أن تهيأ في مكانه , ثم ابتسم .. و قال بلهجةٍ بسيطة تخفي وراءها أمةً متلعثمة : أبا سليمان , بقيَ لك من سورة الأعراف ثلاثةُ أوجه ..!

أدركتُ بصنيعه هذا أنه يحاول ( تلطيف الجوّ ) , و يحاول بشتى ما يملك أن يُظهر لي أن أمره طبيعيٌ جدا , رددتُ له الابتسامةَ بأحسن منها , ثم صرف بصره عني و راح يتمتم بصوتٍ منخفض , أما أنا فالتزمتُ مكاني و سبحتُ في تفكيرٍ عميق ..
نواف .. لم يتبقَ على إتمامه لكتاب الله سوى أربعةِ أوجه , و في هذا اليوم سينطلقُ في تسميعه من ( يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ...) البقرة / 267 .
شارك في الدورة المكثفة التي أقيمت أول الصيف , كان مجتهداً مواظباً على الحضور , يحفظ في اليوم ربع جزءٍ كحفظٍ جديد , و كثيراً ما يزيد رغم ضيق وقتِ الدورةِ اليومي , رفض في إباءٍ أن يتوقف عن الحفظ مع توقف الدورة , و كان قد عزم على إتمام القرآن قبل رمضان , فانضم لدورةٍ أخرى , فكان نِعمَ الآخذُ بقوّة , انتهت الدورةُ الثانية ولم يتحقق مطلوبه و قد اقترب من الإتمام بشكلٍ كبير , فبادر إلى مهاتفتي يرجو أن أفرّغ له شيئاً من وقتي – المهدور حقيقةً - , فاتفقت معه على برنامجٍ للحفظ و التسميع في مسجدهم القريب حتى يختم ..

في هذا اليوم الأخير..
بدأ تسميعه في انسيابية و سلاسة , تماماً كما عهدته , قليل التلكؤ و التردد , رزقه اللهُ حفظاً سريعاً , و ذاكرةً نَـهِمة , أنهى وجهاً و نصف , ثم طلبَ الرجوعَ حتى يتسنى له حفظَ الوجه الذي يليه , و أنا أعلم أنه لن يستغرق في الحفظ أكثرَ من عشر دقائق , وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ..
لما همَّ بالتسميع من جديد , تحرّك ساكنٌ في المسجد , و لا أحد في المسجد .. كنتُ في أقصى اليمين أماماً , و الصوت صدَرَ من أدنى الشمال خلفاً , حانت مني التفاتةٌ لأرى مصدر الصوت , فإذا هو شيخٌ عجوز , يمشي الهوينى , يلبسُ نظارةً أكل عليها الدهر و شرب , يتأمل عمارةَ الجامع البديعة , قال لي نواف ببراءة .. هذا جدّي عبد العزيز جاء احتفاءً بختمي للقرآن ,لم يكد ينتهي نوّاف من كلامه إلا و قد لمحتُ خلفَ الشيخ العجوز .. رجلاً كهلا , ثم بادرني نوافُ بقوله .. و هذا أبي جاء من أجل ذلك أيضاً ومعه أخي الأكبر و الأصغر ..
ملأتني الدهشة و احتواني التعجّب ..
سبحانك ..!!
ما أعظمك يا الله ..!!!
و ما أعظم كلامك ..!
ما لذي جاء بهؤلاء النفر ..؟
إنه كلامك ربي ..

شيخٌ طاعنٌ في السن , قد رسمت تجاعيد الزمن لوحتها على وجهه , و احدودب ظهره , و غارت عيناه , جاء مستبشراً جذلاً , ينتظر متى يطبعُ على جبينِ حفيده قُبلة الفرح و الاستبشار ..؟
و أبٌ مغتبط , بَسَمَاتُ السرور تتلون على وجهه المستنير , يعدُّ الأيام و الليالي , يتحيّن الفرصة التي ينقضُّ فيها على صغيره معانقاً مباركا ..
و أخٌ صغير , ربما لا يدري لم جاء ..؟ , مبلغُ علمه أن أخاه سيخرجُ من المسجد شخصاً آخر ..
و أمٌ في البيت تنتظر , على عتبة الباب تجلس , تترقبُ ولوج (الشيخ) نوّاف بفرحةٍ لا يسَعُها صدره و لا صدرُ الدنيا بأسرها , تحملُ في يدها هاتفها المحمول , تنتظر اتصالاً من صغيرها نواف , ليبشرها أن تاج الوقار بات قريباً منها ..
قمتُ إلى الشيخ الكبير صافحته و قبّلتُ رأسه , كما كان يربينا آباؤنا , و كما كان يوجهنا مشرفو الحِلق عندما كنا صغاراً , بضرورة احترام الكبار و توقيرهم و إنزالهم منازلهم , صافحتُ الأب , الذي كان يلهجُ لسانه بالدعاء و لا يتوقف , ثم صافحتُ الإخوة , و انصرفتُ إلى نواف , الذي لم يتبق على ختمته سوى وجهين ..
بينما جلسَ الضيوف بعيداً , خشية التشويش و إرباك الصغير , و كان بُعداً لا يمنع وصول الصوت إليهم .

آيةُ الديْن .. كثيراً ما كان نوّاف يبدي تخوّفه منها , و كثيراً ما كنتُ أقشعُ عنه غمامةَ الخوف , حتى إذا ما تقشّعت عادت من جديد , طلبَ نوّاف مراجعتها حتى يتسنى له الإتقان , أعطيته ضوءًا أخضراً , و أفسحتُ له في المدة , بُغيَةَ تعزيز الثقةِ فيه ..
تقدمّ إليّ نواف بخطوات ثقيلة , اعتدتها ممن ختم قبله , فهذه اللحظات التي تسبق الختمة بدقائق , هي أشد اللحظات رهبةً في قلب الخاتِم , يجتمع فيها النقائض , فمع فرحته التي لا تسعُ الدنيا , إلا أن الخوفَ و الرهبةَ يفيضان من جوانحه .. فسبحان الذي جعلَ للقرآن هيبةً لا تُكسر ..!
جلس بين يديّ , و أخذ نفساً طويلاً , عسى أن يتمالك نفسه , ثم سكن قليلاً , و بدأ يتلو بعد الاستعاذة (يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ...) , انتصر على ذاته الضعيفة , و كانت قراءته مسترسلةً سريعة , واثقةً يشوبها شيءٌ من الخوف ..
في منتصف الآيةِ بدا عليه الارتباك واضحاً , و بثّ الخوف سراياه في جسده النحيل , و كثُر غلطه , لكني لم أشأ أن أزهق معنوياته الـمُحلِّقة , فأمرته بالاستمرار و المواصلة , و عندما اختتم الآية , أردتُ – في داخلي – أن أهدأ روْعه , علّ قلبه أن يستكين , فقلتُ له بابتسامةٍ هادئة .. ستكون في عداد الحفاظ الخاتمين إذا أعقبتَ البقرةَ بالفاتحة , فأشار برأسه مبدياً تفهّمه لهذا الأمر ..
ثم انطلق في تسميع الوجه الأخير .. بدا عليه شيءٌ من الارتعاد , و أنا أعلمُ حينها علم اليقين أن غرورَ دمعه سيُكسر , فلما بلغ ( ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه ...) بدأ الصوتُ يتحشرج , و صدرُه يجاهد زفراتِه الملتهبة , أشبه بحديد يصطك بحديد , يغالبُ دمعه , يجاهد عينه , علّها أن تصمد , أن تتماسك ..
ثم سكتَ , و أطرق برأسه إلى الأرض ..
طلبتُ منه أن يملك ناصية الموقف , و شددتُ على يده , رجاء أن يستعيد توازنه , و لولا علمي المسبق أنه سيرفض و إلا طلبتُ منه تأجيل الختمة إلى وقتٍ آخر ..

استردّ أنفاسه شيئاً ما ..
و أظهر رباطة الجأش ..

ثم أكمل ... ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ...) بدا الصوتُ مبحوحاً متأثرا , ... ( .. ربنا و لا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به و اعفُ عنا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين..)
(بسم الله الرحمن الرحيم )
ثم سكت قليلا ..
( الحمد لله رب العالمين ...)
ثم سكت و أطال السكوت ..
تأملتُ في وجهه , لم أعهده بهذه الصورة .. كنتُ أعرفه بشوشاً مبتسماً ضاحكاً , أما الآن فإنه في صراع مع دمعةٍ ظلت رهينةَ عينه ..
هل سيكون شجاعاً فيُطلق لها العنان ..؟
لا أدري ..ربما ..!!
اختفى صوته و هو يحاول أن يقرأ (الرحمن الرحيم) , فلما أتمها بضعف و انكسار و خشوع .. انفجر باكياً ..
بكى و بكى و بكى ..
ما أقسى الكتمان و أصعبه ..
وما أبأس عاقبته ..
إنك لا تطيقه يا نواف ..
انهمرت دموعه حرّى , و ارتعدت أوصاله , هيبةً لهذه اللحظات ..
إنها لحظاتٌ كم كدح من أجلها ..
لحظاتٌ كم عانى حتى يصلَ إليها ..
لحظاتٌ ينتظرها شيخٌ طاعن , و أبٌ مغتبط , و أمٌ على عتبةِ الباب تنتظر ..
رجوته أن يتماسك ..
شجعته على الإتمام ..
و هو يقرأ حيناً بصوتٍ مبحوحٍ منكسر ..
و حيناً يمسحُ دمعه الهتون بغترته التي تزيّن بها ..
بل هي التي تزينت به ..
و مع التشجيعِ و المغالبةِ و المؤازرة ..
بلغ النهاية .. ( و لا الضالين) ..
ثم أجهش في البكاء ..

لقد كَسَر القرآن غرورَ دمعه ..
و ربما كان – في وقتها – لا يعي ما حوله ..

اتجه جهة القبلة ..
و سجد لله سجودَ شُكرٍ و حمْد ..
ما رأيتُ كطولِه و حُسْنِه ..
يلهج بالمحامد و ألفاظ الشكر و الثناء لله عز وجل ..
انتظرتُ طويلاً حتى انتهى من سجوده ..
فلما قام .. و إذا هو في سكرةِ البكاء لم يُفِق ..
سلّمتُ عليه و عانقته مباركاً و مهنئاً ..
حاولَ بيده الصغيرةِ أن يصل إلى رأسي يرجو تقبيله , غير أني أزحتُها و رفضت – و هذا من طيب خلقه و جميل سجاياه - ..
اتجهتُ بكل سرعتي إلى جدّه لتهنئته , فرأيتُ وجهه مشرقاً متهللاً يملأ السرورُ وجنتيه ..
و انطلق الجميعُ إلى نواف .. يباركون و يهنئون ..
أما أنا فانسحبتُ من الميدان بخُفية ..
وانقطع المشهدُ عندي على الصغيرِ و هو يمسحُ دموعَ أخيه بالمنديل الأبيض ..!

مُبَارَكٌ يا نَوّافْ ..!
المشاهدات 1253 | التعليقات 0