لا نجاة للعبد بلا إيمان

لا نجاة للعبد بلا إيمان
1/5/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنِ ابْتِلَاءِ اللَّـهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَ الشَّيْءَ وَضِدَّهُ؛ فَجَعَلَ الْحَيَاةَ وَالمَوْتَ، وَالصِّحَّةَ وَالسَّقَمَ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرَ، وَالْقُوَّةَ وَالضَّعْفَ، وَجَعَلَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَالْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ. فَالدُّنْيَا مَيْدَانُ الْعَمَلِ، وَالْحَيَاةُ وَالصِّحَّةُ تَمْنَحَانِ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ المَيِّتَ لَا يَعْمَلُ، وَالمَرِيضَ يَنْقُصُ عَمَلُهُ. وَالْغِنَى وَالْقُوَّةُ ابْتِلَاءٌ فِيهِ، فَالْغَنِيُّ الْقَوِيُّ أَقْدَرُ عَلَى الْعَمَلِ مِنَ الْفَقِيرِ الضَّعِيفِ.
وَأَعْظَمُ الْأَعْمَالِ أَعْمَالُ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْعَدْلِ، وَإِنْقَاصُهُ ظُلْمٌ، وَإِبْطَالُهُ أَظْلَمُ الظُّلْمِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَمُقْتَضَيَاتَهُ وَلَوَازِمَهُ وَأَجْزَاءَهُ مُعَامَلَةٌ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، فَكَانَ كَمَالُهُ أَعْدَلَ الْعَدْلِ، وَكَانَ إِبْطَالُهُ أَظْلَمَ الظُّلْمِ. وَأَمَّا مَا عَدَا الْإِيمَانَ فَمُعَامَلَةٌ لِلْمَخْلُوقِ، وَلَيْسَتْ مُعَامَلَةُ الْخَالِقِ كَمُعَامَلَةِ المَخْلُوقِ.
وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مَتِينٌ يَجِبُ أَنْ يَفْهَمَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ؛ لِئَلَّا يَخْلِطَ بَيْنَ حَقِّ الْخَالِقِ وَحَقِّ المَخْلُوقِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لمَّا ذَكَرَ الْجَنَّةَ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ﴾ [الصَّفات: 61]. فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَ الْإِيمَانِ هِيَ أَعْمَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَحَضَّ النَّاسَ عَلَى الْتِزَامِهَا.
وَفِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ أَخْبَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ...» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّـهِ: إِيمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ...».
وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّـهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّـهِ» صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَلَا يَتَرَطَّبُ لِسَانُ أَحَدٍ بِذِكْرِ اللَّـهِ تَعَالَى حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِسَانُ مُؤْمِنٍ قَدْ تَرَطَّبَ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ قَلْبُهُ لَا يَتَرَطَّبُ لِسَانُهُ بِذِكْرِ اللَّـهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فِي المُنَافِقِينَ: ﴿وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142].
فَمَنْ أَتَى بِأَصْلِ الْإِيمَانِ، وَارْتَكَبَ مَعَهُ المُوبِقَاتِ الَّتِي تُؤْذِي النَّاسَ كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَمْ يَفْعَلْ خَيْرًا لِلنَّاسِ قَطُّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ أَصْلَ إِيمَانِهِ لَا بِقَوْلٍ وَلَا بِعَمَلٍ وَلَا بِاعْتِقَادٍ فَإِنَّ مَظَالِمَهُ تُثْقِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنَّهُ يَنْجُو بَإِيمَانِهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَمَآلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهَذَا مِنْ فَضْلِ الْإِيمَانِ وَبَرَكَتِهِ؛ فَرَغْمَ أَعْمَالِهِ السَّيِّئَةِ مَعَ الْخَلْقِ إِلَّا أَنَّ إِيمَانَهُ يَجْتَازُ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ فِي إِيمَانِهِ مُعَامَلَةً لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، وَمَنْ أَسَاءَ مَعَ المَخْلُوقِ وَأَحْسَنَ مَعَ الْخَالِقِ لَا يَحْبَطُ عَمَلُهُ كُلُّهُ، وَإِنْ عُذِّبَ بِسُوءِ أَعْمَالِهِ مَعَ الْخَلْقِ.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَكْسَ ذَلِكَ؛ بِأَنْ كَانَ بِلَا إِيمَانٍ، أَوْ نَقَضَ أَصْلَ إِيمَانِهِ فَأَبْطَلَهُ، وَهُوَ مُحْسِنٌ لِلْخَلْقِ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ وَجَاهَهُ وَمَالَهُ لَهُمْ، فَيُجِيرُ الْخَائِفَ، وَيُطْعِمُ الْجَائِعَ، وَيَرْفَعُ الظُّلْمَ، وَيُقِيمُ الْعَدْلَ، وَلَا يَتْرُكُ بَابًا مِنَ الْإِحْسَانِ لِلنَّاسِ إِلَّا أَتَاهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَنْفَعُهُ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى شَيْئًا فِي الْآخِرَةِ، وَيَأْخُذُ حَسَنَاتِ مَا عَمِلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ وَشُهْرَةٍ وَأَمْوَالٍ وَزَوْجَاتٍ وَأَوْلَادٍ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّهُ أَسَاءَ مَعَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَرْكِهِ الْإِيمَانَ أَوْ نَقْضِهِ، وَالْإِسَاءَةُ مَعَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ أَظْلَمُ الظُّلْمِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَدْلٌ وَإِحْسَانٌ مَعَ الْخَلْقِ.
وَمِنْ هَذَا الصِّنْفِ عَبْدُ اللَّـهِ بْنُ جُدْعَانَ التَّيْمِيُّ الْقُرَشِيُّ، كَانَ مِنْ سَادَةِ مَكَّةَ وَكُرَمَائِهَا، وَمِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ، بَلْ أَسَّسَ حِلْفًا لِنُصْرَةِ المَظْلُومِ، وَهُوَ حِلْفُ الْفُضُولِ، فَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَظَالَمُ بِالْحَرَمِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّـهِ بْنُ جُدْعَانَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَدَعَوْا قَوْمَهُمْ إِلَى التَّحَالُفِ عَلَى التَّنَاصُرِ، وَالْأَخْذِ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، فَأَجَابُوهُمَا، وَتَحَالَفُوا فِي دَارِ عَبْدِ اللَّـهِ بْنِ جُدْعَانَ.
وَكَانَ يُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَلَهُ جَفْنَةٌ عَظِيمَةٌ يَضَعُهَا لِلنَّاسِ كُلَّ يَوْمٍ، يَأْكُلُ مِنْهَا الْقَائِمُ وَالرَّاكِبُ مِنْ عِظَمِهَا، وَوَقَعَ فِيهَا صَبِيٌّ فَغَرِقَ.
وَكَانَ لَا يَرُدُّ مُحْتَاجًا وَلَا سَائِلًا، وَلمَّا كَبِرَتْ سِنُّهُ حَجَرَتْ عَلَيْهِ بَنُو تَيْمٍ وَمَنَعُوهُ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَتَاهُ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَإِذَا دَنَا مِنْهُ لَطَمَهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَاطْلُبْ بِلَطْمَتِكَ أَوْ تُرْضَى، فَتُرْضِيهِ بَنُو تَيْمٍ مِنْ مَالِهِ.
أَخْلَاقٌ عَظِيمَةٌ كَرِيمَةٌ، وَبَذْلٌ لِلْمَالِ قَلَّ نَظِيرُهُ فِي النَّاسِ، حَتَّى مَدَحَهُ بِهِ الشُّعَرَاءُ، وَخَلَّدُوا ذِكْرَهُ بِالْقَصِيدِ فَوَصَلَنَا.
وَلَكِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ فَقَدَ أَصْلَ قَبُولِ الْعَمَلِ، وَهُوَ الْإِيمَانُ. قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: «لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنْ رَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَةً مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا المُؤْمِنُ، فَإِنَّ اللهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ كُرَمَاءِ قُرَيْشٍ وَسَادَتِهَا المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي سَعَى فِي نَقْضِ صَحِيفَةِ الْجَوْرِ الَّتِي عَلَّقَتْهَا قُرَيْشٌ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَفِيهَا مُقَاطَعَةُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المُطَّلِبِ؛ لِأَنَّهُمْ نَصَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ الَّذِي أَجَارَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لمَّا رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ بَعْدَ أَنْ أُوذِيَ فِيهَا، فَحَمَلَ وَبَنُوهُ سِلَاحَهُمْ، وَأَحَاطُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ حِمَايَةً لَهُ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ وَطَافَ بِهِ. وَمِنْ وَفَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَهُ أَنَّهُ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَهَذَا حَقٌّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى إِنْ رَأَى مَصْلَحَةً فِي ذَلِكَ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَآثِرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي مِنْهَا جِوَارُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَنْفَعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ بِلَا إِيمَانٍ؛ وَلِذَا لَمْ يُعْطِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا حَقَّهُ وَهُوَ المَنُّ عَلَى الْأَسْرَى دُونَ حَقِّ اللَّـهِ تَعَالَى وَهُوَ المَغْفِرَةُ.
وَمِثْلُهُ عَمُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو طَالِبٍ؛ فَقَدْ دَافَعَ عَنْهُ دِفَاعًا شَدِيدًا، وَتَحَمَّلَ الْأَذْى بِسَبَبِهِ، وَلَمْ يَنْجُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ النَّارِ، إِلَّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابَ بِشَفَاعَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كُلُّ هَذِهِ الْحَوَادِثِ تُبَيِّنُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِلَا إِيمَانَ لَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ بِالْإِيمَانِ يَنْجُو مِنَ النَّارِ وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ.
بَلْ إِنَّ مِنْ بَرَكَةِ الْإِيمَانِ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ الَّتِي عَمِلَهَا الْكَافِرُ تَقَرُّبًا إِلَى اللَّـهِ تَعَالَى تُكْتَبُ لَهُ إِذَا حَقَّقَ الْإِيمَانَ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا حِينَ عَمِلَهَا، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ رَسُولَ اللَّـهِ، أَرَأَيْتَ أُمُورًا كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صَدَقَةٍ، أَوْ عَتَاقَةٍ، أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، كَتَبَ اللهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا...» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ بَرَكَةَ الْإِيمَانِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَأَنَّهُ سَبَبُ نَيْلِ رَحْمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ نَالَهَا نُجِّيَ مِنَ الْعَذَابِ، وَفَازَ بِالْجَنَّةِ وَالرِّضْوَانِ ﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّـهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [الحج: 56- 57].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ الْفَلَاحَ وَالْفَوْزَ بِذَلِكَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 28].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ وُجُودُ كُفَّارٍ لَهُمْ إِحْسَانٌ إِلَى الْخَلْقِ كَثِيرٌ؛ كَالْأَطِبَّاءِ الَّذِينَ يَتَفَانَوْنَ فِي خِدْمَةِ المَرْضَى، وَالمُهَنْدِسِينَ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ لِلنَّاسِ مَا يَنْفَعُهُمْ، وَالْأَثْرِيَاءِ الَّذِينَ يُوقِفُونَ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِكَفَالَةِ الْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ، وَعِلَاجِ المَرْضَى، وَمُسَاعَدَةِ المُحْتَاجِينَ، وَالْإِعْلَامِيِّينَ الَّذِينَ يُعَرِّضُونَ حَيَاتَهُمْ لِلْخَطَرِ دِفَاعًا عَنِ المَظْلُومِينَ. بَلْ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَهُوَ يَرُدُّ ظُلْمًا عَنْ مَظْلُومٍ، أَوْ يَفْضَحُ ظَالِمًا وَيُظْهِرُ ظُلْمَهُ لِلنَّاسِ. وَكَذَلِكَ المُخْتَرِعُونَ الَّذِينَ انْتَفَعَتِ الْبَشَرِيَّةُ بِدِرَاسَاتِهِمْ وَاخْتِرَاعَاتِهِمْ كَالَّذِينَ اكْتَشَفُوا الْكَهْرَبَاءَ وَصَنَعُوا أُلُوفًا مِنَ الْأَجْهِزَةِ الَّتِي تَرْفُلُ الْبَشَرِيَّةُ فِي الرَّفَاهِيَةِ بِسَبَبِهَا، وَكَالَّذِينَ اخْتَرَعُوا الْهَوَاتِفَ وَالْإِضَاءَةَ وَالْأَجْهِزَةَ الطِّبِّيَّةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهِ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اكْتَشَفُوا عِلَاجَاتٍ لِأَمْرَاضٍ كَثِيرَةٍ خَفَّفَتِ الْآلَامَ، وَقَلَّلَتِ الْأَمْرَاضَ، وَحُفِظَتْ بِهَا الْأَبْدَانُ بِأَمْرِ اللَّـهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ. بَلْ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقْضِي الْعُمُرَ كُلَّهُ يُطَارِدُ فَيْرُوسًا، أَوْ يُحَاصِرُ مَرَضًا، أَوْ يَدْرُسُ وَبَاءً؛ لِتَنْتَفِعَ الْبَشَرِيَّةُ بِأَبْحَاثِهِ وَدِرَاسَاتِهِ. وَأَغْلَبُ أُولَئِكَ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْإِسْلَامِ.
وَفِي مُقَابِلِ ذَلِكَ نَرَى بَعْضَ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ ظُلْمٌ لِلنَّاسِ، وَتَعَدٍّ عَلَيْهِمْ، وَلَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، وَلَا يَهُمُّهُمْ غَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَنْفَعُوا الْبَشَرِيَّةَ بِشَيْءٍ الْبَتَّةَ لِجَهْلِهِمْ وَظُلْمِهِمْ. فَيَقْدَحُ فِي ذِهْنِ بَعْضِ أَهْلِ الْإِيمَانِ سُؤَالٌ شَيْطَانِيٌّ شَكَّلَ شُبْهَةً فَاتِكَةً عِنْدَ بَعْضِ ضِعَافِ الْإِيمَانِ مُفَادُهَا: كَيْفَ يُعَذِّبُ اللهُ تَعَالَى أُولَئِكَ الَّذِينَ انْتَفَعَتِ الْبَشَرِيَّةُ بِمُنْجَزَاتِهِمْ وَمُخْتَرَعَاتِهِمُ الَّتِي كَرَّسُوا لَهَا أَعْمَارَهُمْ؟ وَكَيْفَ يَنْجُو الْآخَرُونَ وَهُمْ عَابِثُونَ لَاهُونَ لَمْ يَسْلَمِ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ، وَلَمْ يَنْتَفِعِ الْبَشَرُ بِشَيْءٍ مِنْهُمْ؟!
وَسَبَبُ تَمَكُّنِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ قُلُوبِ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُمْ سَاوَوْا بَيْنَ الْخَالِقِ وَالمَخْلُوقِ، وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ حُقُوقِ الْخَالِقِ وَحُقُوقِ المَخْلُوقِ، فَجَعَلُوا الْإِسَاءَةَ إِلَى المَخْلُوقِ كَالْإِسَاءَةِ إِلَى الْخَالِقِ، وَجَعَلُوا الْإِحْسَانَ مَعَ الْبَشَرِ كَالْإِحْسَانِ مَعَ اللَّـهِ تَعَالَى، وَشَتَّانَ بَيْنَهُمَا.
أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ الدُّنْيَا لَهُ وُزَرَاءُ وَجُنْدٌ وَأَعْوَانٌ، وَلَهُ وَزِيرٌ يُسِيءُ إِلَى النَّاسِ، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَيَظْلِمُهُمْ حَقَّهُمْ، وَلَكِنَّهُ يَفِي بِحُقُوقِ سَيِّدِهِ كَامِلَةً، وَيَحْفَظُهُ فِي غَيْبَتِهِ وَشُهُودِهِ، أَكَانَتْ إِسَاءَتُهُ لِلنَّاسِ تَضُرُّهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ وَهُوَ قَائِمٌ بِحَقِّهِ، وَلَا يَجِدُ لَهُ كُفُوًا بِوَفَائِهِ لَهُ؟!
وَلَوْ كَانَ لَهُ وَزِيرٌ آخَرُ يُحْسِنُ إِلَى النَّاسِ، وَيَرْفُقُ بِهِمْ، وَيَحْنُو عَلَيْهِمْ، وَيُنْصِفُ مَظْلُومَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يَخُونُ سَيِّدَهُ، أَكَانَ إِحْسَانُهُ لِلنَّاسِ يَنْفَعُهُ عِنْدَ سَيِّدِهِ وَهُوَ يَخُونُهُ؟!
هَذَا المَثَلُ فِي مَخْلُوقٍ مَعَ مَخْلُوقٍ.. فَكَيْفَ بِبَخْسِ حَقِّ الْخَالِقِ الرَّازِقِ المُحْيِي المُمِيتِ الَّذِي بِيَدِهِ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْرُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟!
فَلَوْ أَحْسَنَ مَخْلُوقٌ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ وَبَخَسَ الْخَالِقَ حَقَّهُ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ كَانَ مُرْتَكِبًا لِأَعْظَمِ الظُّلْمِ، وَلَا يَنْفَعُهُ إِحْسَانُهُ لِلْخَلْقِ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى لِلنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ.
وَقَدْ مَرَّ بِنَا سِيَرُ بَعْضِ عُظَمَاءِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ دَافَعُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَنْفَعُونَ النَّاسَ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ مَنْ لَا يُعْرَفُ بِنَفْعٍ لِلنَّاسِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ سِيرَتِهِ، وَكَانَ عَلَى الشِّرْكِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ فِي بِدَايَةِ مَعْرَكَةٍ فَقُتِلَ فِيهَا، فَلَا حُجَّةَ لَهُ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى إِلَّا إِيمَانُهُ، وَهِيَ أَعْظَمُ حُجَّةٍ تُنْجِيهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَتُدْخِلُهُ الْجِنَانَ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ عَظَمَةَ الْإِيمَانِ وَفَائِدَتَهُ، وَأَنَّ نِعْمَتَهُ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَوْفَاهَا، وَأَنَّ مَنْ نَالَهَا فَيَجِبُ أَنْ يُحَافِظَ عَلَيْهَا، وَيَزِيدَهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ لَا يَفْتُرَ عَنِ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ لِمُسْدِيهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

المرفقات

لا نجاة للعبد بلا إيمان.doc

لا نجاة للعبد بلا إيمان.doc

لا نجاة للعبد بلا إيمان مشكولة.doc

لا نجاة للعبد بلا إيمان مشكولة.doc

المشاهدات 3696 | التعليقات 4

خطبة رائعة بارك الله فيك شيخنا ونفع بعلمك


جزاك الله خيرا


جزاكم الله خيرا شيخنا إبراهيم..


شكر الله تعالى لكم مروركم ودعاءكم وأحسن إليكم