«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» موافقة للتعميم.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمد لله، شَرَحَ صدورَ المؤمنينَ فانقادوا لطاعَتِهِ، وحَبَّبَ إليهمُ الإيمانَ وزيَّنَهُ في قلوبِهم، فلم يَجِدُوا حَرَجًا في الاحتكامِ إلى شريعتِهِ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّم وباركَ عليهِ، وعلى آلهِ وصحْبِهِ، والتابعينَ ومنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.
عباد الله:
حصل خلافٌ بين جارينِ من أهلِ المدينةِ في خلافةِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه، أرادَ أحدهما أن يوصلَ الماء لمزرعته، وكان مصدرُ الماء بعيدًا عنه، والأيسرُ له أن يشقَّ خليجًا يمرُّ بأرض جاره وينتهي في أرضه، فطلبَ من جارِه أن يأذن له بشقِّ الخليجِ، ومع أنَّ الجارَ لن يتحمل شيئًا من التكلفة، وأنَّ الماء الذي سيمر بأرضِهِ سينفعها، وليس في هذا الخليج ضرر عليه، إلا أنَّهُ رفضَ، فاشتكاه الأولُ إلى عمرَ رضي الله عنه، فَدَعَاه عُمَرُ وأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ جارِه ليمرَّ بالماءِ منْ أرضِهِ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاك مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَك نَافِعٌ، تَسْقِي بِهِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَهُوَ لَا يَضُرُّك؟ فَأصرَّ على موقفه وقال: لَا وَاَللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاَللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ، وَلَوْ عَلَى بَطْنِك، ثم أَمَرَ عُمَرُ الأول أَنْ يَمُرَّ بِهِ، فَفَعَلَ.
وقد استندَ قضاءُ عمرَ رضي الله عنه إلى أصلٍ شرعيٍ عظيمٍ، لا تكادُ مسألةٌ من مسائلِ هذا الدينِ إلا وترجعُ إليهِ، عبَّر عنهُ الصادقُ المصدوقُ صلى الله عليه وآله وسلم بكلماتٍ قليلةِ المبْنى، عظيمةِ المعْنى، لِمَا حباهُ الله بهِ منْ جوامعِ الكلمِ، قالَ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، فنَهى عنْ كلِّ ضررٍ، سواءٌ كانَ بقصدٍ أو بغيرِ قصدٍ، وسواءٌ كانَ ضررًا يضرُّ به نفسَهُ، أو يضرُّ بهِ غيرَه، وسواءٌ كانَ ضررًا كبيرًا، أو كانَ ضررًا صغيرًا، وسواءٌ كانَ ضررًا على الأحياءِ، أو على الجماداتِ، وهذا منْ كمالِ الشريعةِ التي جاءتْ لدرءِ المفاسدِ وجلبِ المصالحِ.
ومن خالف ذلكَ فأضرَّ، فعقابُه من جنسِ فعلِه قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ».
ويُستثنى من هذا إيقاعُ الضررِ بحقٍ، كجهادِ العدوِّ، وقتالِ البغاةِ، وإقامةِ الحدودِ، وكاستيفاءِ الدَّينِ منَ المماطِلِ جبرًا، فذلك كلُّه من إيقاعِ الضررِ لإزالةِ ضررٍ أكبرَ، فكانَ كأكلِ الميتةِ استنقاذًا للحياةِ.
ولعظم هذه القاعدةِ فقد عدَّها بعضُ العلماءِ نصفَ الدينِ؛ لأنَّ الدينَ قائمٌ على جلبِ مصالحِ الدُّنيا والآخرةِ، ودفعِ مفاسدِ الدُّنيا والآخرةِ، والنهيُ عن الضَّررِ والإضرارِ نهيٌ عمَّا يفسدُهما.
فَمِنْ ذلكَ ما فعلَه المنافقونَ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، من بناءِ مسجدٍ قريبٍ من مسجدِ قباءَ لتفريقِ الصفِّ، وزعزعةِ الأمنِ، والإضرارِ بالمسلمينَ، فنهاهُ الله سبحانه عنِ الصلاةِ فيهِ، ثم أرسلَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يهْدِمُهِ، ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٠٧) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾.
هذا والمسجدُ في ظاهرِهِ مكانُ عبادةٍ، وقد يدْخُلُه غيرُ بانِيهِ ممنْ يريدُ الخيرَ والصلاحَ، إلَّا أنَّ الله سبحانَه نهى نبيَّه عنِ الصلاةِ فيهِ؛ لعلمهِ بقصدِ متخذيهِ الضِّرارَ بالمؤمنينَ، فكيفَ بمنْ يبتدرُ الإيذاءَ للمؤمنينَ في أنفسِهِمْ وعقائدِهِم، أوْ أغراضِهِمْ وممتلكاتِهِمْ، ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾.
ومن صورِ الإضرارِ التي قد يغفُل عنها بعضُ المسلمينَ، إيذاءُ المصلينَ بما يُفسِدُ خشوعَهُمْ، ويفقِدُهُمْ سَكِينَتَهُمْ في صلاتِهم، كالروائحِ الكريهةِ، وأصواتِ الهواتفِ، والمزاحمةِ والمضايقةِ المنهيِّ عنْها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا، حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا» يَعْنِي الثُّومَ.
ومن صورِ الإضرارِ الخطيرةِ، التي يُخشى على صاحبها في الآخرة، تعمُّدُ الجارِ بالأذى، حتَّى يصلَ إلى مرحلةٍ لا يأمنُ فيها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» أي: شرَّه ومصائبَهُ.
وهذه القاعدةُ العظيمةُ -«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»- أصلٌ كذلك في المعاملاتِ الماليَّةِ، والحياةِ الزوجيَّةِ، فلا يجوزُ إلحاقُ الضررِ بكاتبٍ ولا شاهدٍ، وإنْ كانَ المدينُ ﴿ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، وإذا حصَلَ الفراقُ بين الزوجينِ فـ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾، ومن رغبت من المطلقاتِ أن تعتدَّ في بيتِ زوِجها فهو منهيٌ عن الإضرارِ بها للخروجِ منهُ، ﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾.
وكلُ تعاونٍ لرفعِ الضَّرر، ومنعِ الإضرارِ فهوَ من الشرعِ؛ لأن اللهَ سبحانه أمَرَ بهِ فقال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾.
جعلنا الله من العالِمين العامِلين، ووقانا الخزي والخسار في يوم الدين.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإنْ كان الضررُ منهيًا عن إيقاعه بأحدٍ، فإنَّ من العجبِ العجابِ أنْ يوقِعَه المرءُ بنفسِهِ، ولهذا صورٌ عديدةٌ: منها قتلُ الإنسانِ نفسَه بتعاطي المخدراتِ والمفتِّراتِ، أو شربِ الدخَّانِ معَ ما ثبتَ من ضررهِ على الإنسانِ.
ومنها اقتحامُ الأوديةِ والشعابِ، وقطعُ مجاري السيولِ، لا سيَّما وقتَ هطولِ الأمطارِ، غيرَ عابئٍ بقولِه تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾.
ومن صورِ إيقاعِ الضررِ بالنفسِ والآخرينَ، إفسادُ الممتلكاتِ العامةِ، كالطرق والمتَنَزَّهاتِ، بإلقاءِ القاذوراتِ، أو إشعالِ النيرانِ، أو غيرِه مما يعودُ بالضررِ على الإنسانِ والنباتِ والحيوانِ، معَ ما في ذلكَ منْ تعريضِ النفسِ والمالِ للهلاكِ، ومخالفةٍ لتعليماتِ المختصينَ، واعتداءٍ على ما حرَّمت الشريعةُ الاعتداءَ عليهِ، واللهُ ﴿لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
وإذا كانت إماطة الأذى عن الطريقِ صدقةً، فإن إلقاءَه في طريق الناس، وأماكن جلوسهم واستراحتهم ضررٌ يجلب الإثم، ويوقع في المحظور، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ»، أي: يقضي حاجته في طريقٍ يمر به الناس، أو اتخذوه مكان نزولٍ واستراحةٍ لهم.
وفي هذا بيانُ شِدَّةِ حِرصِ الشَّريعةِ على إبعادِ مَا يَلحَقُ الأذى بالناس؛ ممَّا يُوجِبُ لعنَ بَعضِهم لبعضٍ، والحثُّ على ما يَجلِبُ المَحَبَّةَ بين النَّاسِ، ودعاءَ بعضِهم لبعضٍ منْ إدخالِ السُّرورِ في قُلوبِهم، وإزالةِ الضَّررِ عنهمْ.
ألا فاتَّقُوا اللهَ يا عبادَ اللهِ وكونوا منَ الذينَ يستمعونَ القولَ فيتَّبعونَ أحسنَه، وقوا أنفسَكُمْ وأهليكُمْ نارًا وقودُها الناسُ والحجارةُ؛ فإنَّ الشقيَّ من حُرِمَ رَحْمَةَ الله -عياذًا بالله-، ثمَّ صلُّوا وسلِّموا على خيرِ البرَايَا، فقدْ أمرَكُمُ اللهُ تعالى بذلكَ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
المرفقات
1704439580_«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»..pdf
1704439581_«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» للجوال.pdf
1704439581_«لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»..docx