(لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله)
إبراهيم بن صالح العجلان
1434/04/04 - 2013/02/14 19:15PM
وقفات مع حديث : ( لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله)
معاشر المسلمين :
ما أجمل الحديث حينما يكون عن التوجيه والتربية ، وما أروع الكلمات حينما تدور حول فن التأثير .
ولكن أجمل من ذلك وأروع أن نتعلم التوجيه والتأثير ممن سما على الخلْق بكمال خُلُقِه ، وحسن توجيهه .
مع من كسب النفوس بإحسانه ورفقه ، مع من أقبلت إليه القلوب النافرة بتعامله ولطفه.
مع من ؟
مع من جعله الله رحمة وهدى ونوراً ، مع من قال الله عنه : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظَّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) .
مع القدوة الحسنة ،وصاحب الخلق العظيم ، الذي نصح ووجَّه وربَّى ، بنظرة عميقة ، ومراعاة لطبيعة النفوس ، حتى خرَّج للبشرية جيلاً فريداً لا يتكرر أبداً .
نقف مع مشهد واحد يحكي لنا أسلوب تعامله مع فئة لا يخلو منهم عصر ، وهم من غلبت عليهم شهوة نفوسهم، فوقعوا في الأخطاء ، لا في صغائرها ، بل في الكبائر التي يبغضها الله ويمقتها .
هذا شاب من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله ، كان يحمل بين جنبيه روحاً خفيفة ومداعبة ، فكان كثيراً ما يُمازح النبي صلى الله عليه وسلم ،
جاء في بعض الروايات : (وكان يُضْحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وكان هذا الشاب كثيراً ما يقدِّم الهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل ربما استدان لشراء بعض الهدايا ، وما ذاك إلا لشدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم .
ومن صور ممازحته مع النبي صلى الله عليه وسلم : أنه اشترى طعاماً بثمن مؤجل ، فأهدى هذا الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد مدَّة جاء صاحب الطعام يتقاضاه ، فأخذ عبد الله بيد الرجل وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:
يا رسول الله أعط هذا ثمن متاعه، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقول : ألم تهده إلي !! ، ثم أمر بإعطاء الرجل ماله .
بقي أن نعرف أن عبد الله هذا الذي كان يمازح ويضاحك كان قد ابتلي بشرب
الخمر ، فأقيم عليه الحد ليس مرة واحدة ، بل مرات عدَّة .
خرج عبد الله مع المسلمين في غزاة خيبر ، وفتح المسلمون حصونها ، وكانت تلك الحصون فيها خمور ، فأُريقت تلك الخمور ، وضعفت نفس عبد الله أمام الخمر فشرب منها ، فحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بإقامة الحد عليه .
قال أبو هريرة : فمنا الضارب بيده ، ومنا الضارب بنعله ، ومنا الضارب بثوبه .
فقال رجل : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لَا تَلْعَنُوهُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم ، ولكن قولوا : اللهم اغفر له .
ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فقال : بكِّتوه ( أي قرِّعوه ولوموه) .... إخوة الإيمان : ولنا مع هذا المشهد القصير أحاديث وتأملات :
ـ أول معنى يستوقفنا في هذا المشهد : روعة التعامل النبوي مع المقصرين ،
لقد كان نبينا حريصا على غرس التقوى في قلوب أصحابه ، وتعزيز معاني الإيمان في نفوسهم، واتباع السيئة الحسنة لتمحوها ، بيد أنَّ السلامة من الأخطاء لم ولن يسلم منها بشر ، وليس من شرط التقوى السلامة من المعاصي ، بل والكبائر ، وجنة الرحمن التي عرضها السموات والأرض وصف أهلها المستحقون لها : بأنهم ربما فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ، لكنهم يندمون ويعودون ويئوبون إذا ذكروا عظمة ومقام الله .
فهذا الشاب قد قارف هذه الكبيرة مرات ، وليست هي من المعاصي الهينة ، بل هي
الخمر التي وصفها الله في كتابه بأنها رجس من عمل الشيطان .
هي الخمر التي لعن نبينا صلى الله عليه وسلم فيها عشرة ، ومنها : شاربها .
هي الخمر التي تعهَّد الله لمن شربها أن يسقيه من طينة الخبال ، قيل : وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار .
ومع ذلك فلم تكن هذه المعصية سبباً لمجافاة الشاب ، وإبعاده ، بل كان صلى الله عليه وسلم يمازحه اليوم ، وهو يعلم أنه بالأمس قد أقيم عليه الحد .
فلم يكن في عصر النبوة تشطير للمجتمع ، أو عزل فئة المقصرين عن العباد والصالحين ، بل كان الجميع يتعايش ويتآلف تحت مظلة الإسلام ، على تفاوت بينهم في مقامات الخير ، فمنهم السابق ، ومنهم المقتصد ، ومنهم من ظلم نفسه.
ـ ومن وحي المشهد : أنَّ المقصرين بحاجة لاحتوائهم والقرب منهم ، وتذكيرهم ، وتوجيههم لا أن تكون هذه الكبائر وربما الموبقات سبباً في إبعادهم،والابتعاد عنهم ، فالقرب من المقصر فيه محاصرة للأخطاء وتقليلها ، فربما رأى من إقبال من حوله على الخير ما يحرك جوانب الخيرية فيه ، ويجعله يندم على أخطاء الماضي.
ـ وفي هذا الخبر : أهمية توسيع مساحة الخيرية في نفوس المقصرين ، فهذا الرجل قد ذاق مرارة الجلد ، واجتمع عليه الأذى الحسي والمعنوي ، ومع ذلك يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم يشيد بجانب إيجابي فيه ( فإنه يحب الله ورسوله )
مع ملاحظة أن هذه منقبة موجودة في كل مؤمن ، فلا يتم إيمان العبد إلا بعد حبه لله ورسوله ، فهو صلى الله عليه وسلم مدحه بشيء موجود عند جميع الصحابة ، ولكن صلى الله عليه وسلم أراد رفع معنويات الرجل المقصر ومدحه بها ، ليرتفع بإيمانه ، ويسمو عن معاقرة الكبائر .
هذا الأسلوب النبوي أعني الإشادة بالجوانب الإيجابية لدى المقصرين ، قد تكرر في حوادث عدَّة :
فحين أفشى حاطب بن أبي بلتعة سرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتُّهم حينها بالنفاق ، أبرز فيه النبي صلى الله عليه وسلم منقبة شهودة بدر .
وحين طعن بعض الصحابة في مالك بن الدُّخْشُن بالنفاق ، وبرَّر ذلك أنَّ وجهه ونصيحته للمنافقين ، نهاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : لا تقل ذلك ، فإنه قد قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله.
فهذه الإشادة فيها تحريك للخير الذي في كوامنهم ،وتحفيز للثبات عليه، لا أن نجعل من الأخطاء والتجاوزات زنازين ضيقة نحبسهم فيها، ونذكرهم بها، فلا يعرفون ، ولا يذكرون إلا بها .
ـ ومن فوائد القصَّة : أنه لا يجوز تعيير الآخرين بذنوبهم ، فحين لعن الصحابي الرجل لكثرة شربه ، بادر النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه ، نهاه عن لعنه ، مع أن ذات اللعن منهي عنه ، فلم يقل لا تلعن ، بل قال : لا تلعنه .
وهذا فيه إشارة على أنه لا يجوز لعن من وقع في الكبائر ، ولا سبه بها ، ولا الشماتة به ، بل الدعاء له ، وسؤال الله العافية .
إن تعيير الآخرين بالتقصير وسبهم بذنوب سابقة هي رسالة مقيتة يرسلها ذلك الشاتم ، عنوانها تزكية الذات ، ومضمونها تبرئة النفس من هذه المعاصي.
ناهيكم أن تعيير المخطئ يزيده سوءً ، وبعداً ، وبُغْضاً .
فلا يدري العبد فلربما أحاطت به شهوته يوماً، وأزدته نفسه الأمارة نحو الحرام أزَّا فوقع في ذات الكبائر .
ولا يدري العبد أيضاً أن ذلك المقصر المخطئ قد يشعر بذنبه ، فيورثه ذلك ندماً وانكساراً وإقبالاً ، فتكون حاله بعد ذلك أفضل من حال كثير من الطائعين ، في رقَّة قلبه ، ومراقبته ، وخوفه ، وإقباله على فعل الخير .
ـ ومن معاني هذا المشهد : أهميه التوجيه غير المباشر .
فلم يذكر في أحداث القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم نصحة أمام الملأ ، وإنما خاطب الصحابة ، وأرسل له رسائل يفهم منها الرجل خطأه ، ليندم ويرجع .
فقال : ( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم ) ، فهذا الفعل مما يعين عليه الشيطان.
وأيضاً أسمع الناس صفات الخير فيه ( فإنه يحب الله ورسوله ) ، ولك أن تتصور كم هي مؤثرة في ذلك المذنب ، وهو يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يدافع عنه ، ثم يبين له خطأه بطريقه غير مؤذية.
إن التوجيه المباشر ، والنصح أمام الملأ لا تحتمله كثير من النفوس ، ولذا كان صلى الله عليه وسلم يكتفي بالتعريض عن التصريح ، وكثيرًا ما كان صلى الله عليه وسلم يستخدم شعار: (ما بال أقوام) ، لمراعاة نفوس الناس .
ومن الأمثلة النبوية في التوجيه غير المباشر : قصة الرجلين اللذين استبا في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى احمر وجه أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله ، والرجل يسمع: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ـ ومن دلائل المشهد : أن الهدي النبوي جمع الحزم في إيقاع العقوبة ، مع النصح والتوجيه ،فلابد من الغضب من انتهاك حدود الله ،وعدم الرأفة في تطبيق الحدود
ولذا بادر النبي صلى الله عليه بإقامة الحد مع الرجل الذي كان يبسطه ويضاحكه.
ـ ومن فوائد هذه القصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى للرجل مع جرمه حق الأخوَّة ، فقال : ( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم)، إذاً فكل مخطئ مهما وقع في الكبائر والموبقات فهو داخل في دائرة الإسلام ، فتبقى له حقوق الأُخوَّة ، فتجاب دعوته ، ويعاد إن مرض ، وتتبع جنازته ، إلى غير ذلك من الحقوق.
ـ ومن الفوائد : الرفق في التوجيه ، فربما استجاشت النفوس غضباً من تكرر ذات الخطأ ، وهذا ما جعل الصحابي يقول غاضباً:لعنه الله،بسبب كثرة سُكْرِهِ .
ولكن الرحمة المهداة احتوى الموقف وتكلم برفق ، ووجَّه بلطف ، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه .
إن الغلظة في التوجيه ، والحدَّة في الإنكار ربمَّا أدت إلى نهايات مؤسفة بين الموجِّه والمخطئ ، وربما أيضاً عكست أثرًا سيئًا في نفس المخطئ فتكون الغلظة سببًا في إصراره على خطئه ، فطبيعة النفس البشرية تأنف الحدة في التوجيه.
وتذكر أخي المبارك أن الكلمة القاسية لها كلمة طيبة مرادفة تؤدي المعنى نفسه، والكلمة الطيبة صدقة، وفي محكم التنزيل : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ، (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم .....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا إخوة الإيمان :
ـ ومن فوائد القِصَّة : مسألة قرَّرها أهل السنة والجماعة ، وهي أنه قد يجتمع في العبد إيمان وفسق ، وسنة وبدعة ، وإسلام وشرك أصغر أو كفر أصغر لا يخرجان من الملة ، فيحب بما عنده من الإيمان والخير ، ويبغض بما عنده من المعصية أو الشرك والكفر الأصغر ، أو البدعة، وممن بسط هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
ـ ومن وحي القصَّة : أن النبي صلى الله عليه وسلم دافع عن عرض رجل وقع في ذنب متفق عليه ، فليت شعري متى يعي البعض خطأ فعلهم وهم يستطيلون أعراض أناس أفاضل وعلماء ،لا في تجاوزات متفق عليها ، بل في مسائل هي محل نظر واجتهاد ، ويسعها اختلاف الرأي ، فما الذي أباح استباحة أعراضهم في مسائل غير قطعية ، فلا شك أنَّ هذا بعدٌ عن السنة النبوية ، وكم نحن بحاجة إلى فهم السنة وتطبيقها قبل أن ننادي بها وندعو إليها .
وأخيراً إخوة الإيمان ما أجمل أن نستشعر ونتمثل هذا الأدب النبوي الرفيع : ( لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم ) .
أَمَا لو وعيناه حقاً ، لرحم بعضنا بعضاً ، ونصح بعضنا بعضاً ، ولاتسعت دائرية الستر بين الناس ، ولقويت دعائم الخير عندهم ، ولعوفينا من كثير من أمراض القطيعة ، وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)
اللهم صلِّ على محمد ....
المشاهدات 5003 | التعليقات 4
جزاك الله خيرا
خطبة موفقة ، ورائعة ، ومؤثرة
خطبة موفقة
جزاك الله خير ونفع الله بما كتبت
لم ينقصها إلا التشكيل
أسأل الله لك التوفيق والسداد ،،
جزاك الله خير ونفع الله بما كتبت
لم ينقصها إلا التشكيل
أسأل الله لك التوفيق والسداد ،،
جزاك الله خير الجزاء على هذه اللفته الرائعة
وفقت في القكرة والعرض نفع الله بك
عبدالله اليوسف
جزاك الله خيرا
خطبة رائعة
تعديل التعليق