لا تشمت بأخيك-25-6-1438هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف

محمد بن سامر
1438/06/25 - 2017/03/24 05:03AM
[align=justify]أما بعدُ: فقد جاءَ الإسلامُ ليُطهِّر البشرَ من أوساخِ الجاهليةِ وأمراضِها، ويُقوِّمَ السلوكَ ليستقيمَ على الفِطرة السويَّة، والرابطةُ بين المسلمينَ هي رابطةُ الدينِ، وأُخُوَّةُ الإيمانِ، ولهذه الرابِطةِ آثارُها، من حُسنِ المُعتقَدِ، والمحبَّةِ، والسرورِ، وحبِ الخيرِ للناسِ والفرحِ به، واجتِنابِ ما يُكدِّرُ ذلك ويضادُه، من الحسدِ والشحناءِ، والتهاجُرِ، والتباغُضِ، والسِّبابِ، والتنابُزِ بالألقابِ.
والناصِحونَ من عبادِ اللهِ، المُحبُّونَ لخلقِ اللهِ أهلُ أدبٍ ورحمةٍ، وحبٍّ ومودَّةٍ، وصدقٍ ووفاءٍ.
وقد استوعبَت الشريعةُ في شُمولها وعلاجِها كلَّ أمراضِ النفوسِ ومعايِبها، أقوالًا وأفعالًا، ومشاعِرَ وانفِعالاتٍ.
وإن في مُستجدَّاتِ العصرِ وتقنيَّاتِه ما وسَّع ذلك كلَّه، ووسِعَه ابتلاءً وعلاجًا.
وثمَّة خُلُقٌ ذميم، وسُلوك شائِن، يدلُّ على نفسٍ غيرِ سويَّة، وقلبٍ مريض يكادُ يخلُو من الحبِّ والمودَّة والعطفِ وحبِّ الخيرِ، هو: خُلُقُ الشماتةِ، وغالبًا ما يقترِنُ به مظاهرُ كراهيةٍ، من السخريةِ، والهمزِ، والغَمزِ، واللَّمزِ، وألوانِ الاستهزاءِ قولًا وفعلًا وإشارةً-عياذًا بالله-.
الشماتةُ-حفِظَكم الله ووقاكم-وصفٌ ولقبٌ ولفظٌ فيه تنقُّصٌ، أو حطُّ مكانةٍ، أو احتِقارٌ، أو ذمٌّ أو طعنٌ، أو تعدٍّ على كرامةٍ.
الشماتةُ فرحٌ ببليَّةِ من تُعاديهِ، والسُّرورُ بما يكرَهُ من تُجافِيهِ.
يقول ابن بطَّال: "شماتةُ الأعداءِ ما ينكَأُ القلبَ، وتبلغُ به النفسُ أشدَّ مبلَغٍ، وهي لا تحصلُ إلا من عداوةٍ أو حسدٍ".
بل قال أهلُ الحكمة: "إنَّ الحسَد والشماتةَ مُتلازِمان، فالحاسِدُ إذا رأى نعمةً بُهِتَ، وإذا رأى عثرةً شمِتَ".
أيها الشامِت! أيها المُبتلَى بالشماتة!-عافاك اللهُ من هذا الداءِ وهداكَ-كأنَّك تزهُو بكمالِك، وتُفاخِرُ بجمالِك، وتغفلُ عن مُوادَعةِ الأيامِ لك، وتظنُّ أنَّ أخاك-هذا المُبتلَى-لم يُبتلَ بما ابتُلّيَ به إلا لأنك أحسنُ منه، أو بسببِ إجابةِ دعوةٍ منك أو من غيرِك عليه، فهذه تزكيةٌ، وهذا عُجبٌ وغُرورٌ وغفلةٌ، بل قد يكون استِدراجًا ومكرًا-عياذًا بالله -.
أما علِمتَ أن الشماتةَ قد تكون انعِكاسًا لأمراضٍ نفسيَّة، تدلُّ على عدمِ الثقةِ، مع الإحساسِ بالفشلِ، فتُسلِّي نفسَك بهذا الخُلُقِ الذَّميمِ.
الشامِتُ محرومٌ من المحامِد الجميلةِ، والمسالِك الراقِيةِ، والشعورِ الإنسانيِّ النبيلِ، الشامِتُ لا يفرحُ بمُصيبةِ غيرِه إلا من لُؤمِ طبعِه؛ بل يُقرِّرُ أهلُ العلمِ أن الشماتةَ من أخلاقِ أهلِ النفاقِ، فقد قال-عزَّ شأنُه-في وصف المُنافقين: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا).
ولقد استعاذَ نبيُّنا محمدٌ-صلى الله عليه وآله وسلم-من الشماتةِ وسُوئِها، فقال: "اللهم إني أعوذُ بك من جهدِ البلاءِ، ودرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القضاءِ، وشماتةِ الأعداءِ".
ولقد قال هارُونُ لأخيه موسى-عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-كما في القرآن: (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ)؛ أي: لا تُفرِحهم بمُصيبتي.
يقول الشوكانيُّ-رحمه الله-كلامًا معناه: "استعاذَ-صلى الله عليه وآله وسلم-من شماتةِ الأعداءِ وأمرَ بالاستعاذةِ منها، لعِظَمِ موقعِها، وشدَّةِ تأثيرِها في الأنفُسِ البشريةِ، ونُفورِ طِباعِ الناسِ منها، وقد يتسبَّبُ عُمقُ ذلك والاستِمرارُ عليه في تعاظُمِ العداوةِ المُؤديةِ إلى استِحلال ما حرَّم اللهُ".
يقول المناويُّ-رحمه اللهُ-: "وإنما حَسُنَ الدعاءُ بدفعِ شماتةِ الأعداءِ؛ لأنَّ من له صِيتٌ عندَ الناسِ...وجدَ نفسَه كمن يمشي على حبلٍ مُعلَّقٍ، والأقرانُ والحُسَّادُ ينظرونَ وينتظرونَ متى ينزلِقُ!".
فيا عبدَ اللهِ! لا تشمتْ في أخيك، فيُعافِيه اللهُ ويَبتَليك، ولكنْ خُذِ العِبرةَ: قال رسولُ الله-صلى الله عليه وآله وسلم -: "لا تُظهِر الشماتةَ بأخيك، فيرحمُه اللهُ ويَبتليك".
لا تشمت بأخيك مهما صغُرُ شأنُه، وظهرَ عيبُه، وبانَ نقصُه في أمرِ الدينِ أو الدنيا؛ فإن الشماتةَ تجلِبُ البلاءَ والابتلاءَ، ولكن تضرَّع إلى اللهِ مُستعينًا به، خائفًا مُستخفيًا، مُشفقًا على نفسِك وعلى أخيك، وقُل: "الحمدُ لله الذي عافاني مما ابتُلِيَ به، وفضَّلَني على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلًا".
ومثلُ هذا الدعاءِ لو تأمَّلتَ-حفِظَك الله-لعلِمتَ أن المقصودَ به الوقايةُ والحذرُ من الوقوعِ في الشماتةِ والاستِهزاءِ والسخريةِ والانتِقاصِ من إخوانِك.
الزمنُ قُلَّبٌ، والأيامُ دُوَلٌ، فكم من غنيٍ افتقَرَ، وفقيرٍ اغتنَى، وعزيزٍ ذلَّ، وذليلٍ عزَّ، ووضيعٍ ارتفَعَ، ورفيعٍ اتَّضَعَ، وقويٍّ ضعُفَ، وضعيفٍ قوِيَ، وسليمٍ ابتُلِي، ومُبتلًى عُوفِي؟!
والدهرُ حين يُلقي بهمومِه ومصائبِه على قومٍ، فإنه يُريحُ آخرينَ، وسيلقَى الشامِتون كما لقِيَ غيرُهم.
يقول ابنُ مسعودٍ-رضي الله عنه-: "واللهِ لو أن أحدًا عيَّر رجلاً رضعَ من كلبةٍ، لرضعَ هو من هذه الكلبةِ".
وورد عن عُمرَ-رضي الله عنه-أنه قال: "واللهِ لو عيَّرتُ امرأةً حُبلَى لخشيتُ أنْ أَحْمَلَ".
ويقول الهرويُّ: "أيُّ عيبٍ عيَرتَ به أخاك فهو صائرٌ إليك".
ويقول الحسنُ البصريُّ-رحمه الله-: "أدركتُ أقوامًا لم تكُن لهم عيوبٌ، فتكلَّموا في عيوبِ الناسِ فأحدثَ اللهُ لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فسكَتوا عن عيوبِ الناسِ فسترَ اللهُ عيوبَهم".
كيف وقد قال النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا تُؤذُوا عبادَ الله ولا تُعيِّرُوهم ولا تطلبُوا عوراتِهم؛ فإنَّ من طلبَ عورةَ أخيه المُسلمِ طلبَ الله عورتَه، حتى يفضَحَه في بيتِه".
ويقول إبراهيمُ النخعيُّ-رحمه الله-: "إني لأرى الشيءَ أكرهُه فما يمنعُني أن أتكلَّم به إلا مخافةَ أن أُبتلَى به".
ويقول ابنُ القيم-رحمه الله-: "ما من عبدٍ يَعيبُ على أخيه ذنبًا إلا وابتُلِيَ به، فإذا بلغَك عن فُلانٍ سيئةٌ فقُل من كلِّ قلبِك: غفرَ الله لنا وله".
يا عبدَ اللهِ! لا تُراقِب الناسَ، ولا تتبِّعْ عوراتِهم، ولا تكشِفْ سِترَهم، ولا تتجسَّسْ عليهم، اشتغِلْ بنفسِك، وأصلِحْ عيوبَك؛ فلن تُسأل بين يدَي ربِّك إلا عن نفسِك، واللهُ أرحمُ بكم جميعًا من أنفُسِكم.
بل إن المؤمنَ الصادقَ المُخلِصَ يُحبُّ أن يُعاملَ الناسَ بما يُحبُّ أن يُعامِلوه به، قال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "لا يُؤمنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُ لنفسِه".
ويقول ابنُ رجبٍ-رحمه الله-: "إنما يُحبُّ الرجلُ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه إذا سلِمَ من الحسَدِ والغلِّ والغشِّ والحِقدِ".
رُوي عن الفُضيل بن عِياض أنه قال لسُفيان بن عُيينة: "إن كنتَ تُريدُ أن يكون الناسُ كلُّهم مثلَك فما أدَّيتَ النصيحةَ، كيف وأنت تودُّ أنهم دُونَك؟!".
أما أنت-أيها المُبتلَى بالشامِتين-: فلا تحزنْ ممن يشمتُ بك أو يسخرُ، واستحضِر مواقِفَ الأقوامِ من أنبيائِهم-عليهم الصلاةُ والسلامُ-حين سخِروا منهم واستهزأوا بهم، فكان النصرُ والعلُوُّ، وقد قال-عزَّ شأنُه-: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).
وقُل لهم: صبرًا فإنَّ أيامَ الدنيا دوَّارةٌ، والأحوالَ مُتغيِّراتٌ مُتقلِّباتٌ.
بل إن عُمرَ بنَ عبدِ العزيزِ-رحمه اللهُ-قالَ: "ما رأيتُ ظالمًا أشبَه بمظلُوم من الحاسِد، غمٌّ وإثمٌ، ونفَسٌ مُتتابِعٌ".
وبعدُ حفِظَكم الله:
فحقٌّ على أهل الإيمانِ أن يدَعوا الأحقادَ والأضغانَ، وأن يتجنَّبوا الشماتةَ في إخوانِهم، فذلك مجلبةُ التفرُّقِ والتنازُعِ والتنابُزِ بالألقابِ، والبغضاءِ، وكيف تصدرُ الشماتةُ من مُسلمٍ وهو يقولُ في وِردِهِ كلَّ صباحٍ: "اللهم ما أصبحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنك وحدَك لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشُّكر".
فحقٌّ أن يعكِسَ هذا الذكرُ صفاءَ قلبِ المؤمن ورحمتَه ومودَّتَه للخلقِ كلِّهم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
أستغفِرُ الله لي وللمُسلمين...
الخطبة الثانية
أما بعدُ: فيقول الحافظُ ابنُ القيمِ-رحمه اللهُ- كلامًا معناه: "إن تعييركَ لأخيك بذنبِه أعظمُ إثمًا من ذنبِه، وأشدُّ من معصيتِه؛ لما فيه من تكبركِ بطاعتِك، وتزكيةِ نفسِك، وإعجابِك بها، وشُكرِها، وتبرئتِها من الذنبِ، وأنَّ أخاك باءَ به ووقعَ فيه، ولعلَّ كسْرتَه بذنبِه، وما أحدثَ له من الذلّةِ والخضوعِ والازدِراءِ على نفسِه، والتخلُّصِ من مرضِ الادعاءِ والكِبرِ والعُجْبِ، ووقوفَه بين يدَي الله ناكِسَ الرأسِ، خاشِعَ الطرفِ، مُنكسِرَ القلبِ أنفعُ له، وخيرٌ من تكبرِك بطاعتِك، وتكثُّرِك بها، واعتِدادِك وإعجابِك بها، والمنَّةِ على اللهِ وعلى خلقِه بها.
فما أقربَ هذا العاصِي من رحمةِ اللهِ، وما أقربَ هذا المُعجبَ بنفسِه من مقتِ اللهِ، وإنك أنْ تَبيتَ نائمًا وتُصبِحَ نادمًا-على أنَّك لمْ تقمْ للصلاةِ في الليلِ-خيرٌ من أنْ تَبيتَ قائمًا-لليلِ-وتُصبِح مُعجَبًا؛ فإنَّ المُعجَبَ لا يصعَدُ له عملٌ، وإنك أنْ تضحَك وأنت مُعترِفٌ-بخطئِك، خيرٌ من أن تبكِيَ وأنت مُعجبٌ بنفسِك، وأنينُ المُذنِبين أحبُّ إلى الله من تسبيحِ المُعجبين بأنفسِهم، ولعلَّ اللهَ سقاه بهذا الذنبِ دواءً استخرجَ به داءً قاتلًا هو فيه، وربما كان هذا الداءُ فيك وأنت لا تشعُرُ.
فللهِ في أهلِ طاعتِه ومعصيتِه أسرارٌ لا يعلمُها إلا هو، ولا يُطالِعُها إلا أهلُ البصائرِ، فيعرِفون منها بقدرِ ما تنالُه معارِفُ البشرِ". انتهى كلامُه-رحمه الله-.
فطُوبَى لمن شغلَه عيبُه عن عيوبِ الناسِ، وويلٌ لمن نسِيَ عيبَه وتفرَّغ لعيوبِ الناسِ، والمُسلمُ في دعائِه يرفعُ يديه لمولاه: ربِّ لا تكِلني إلى نفسي طرفةَ عينٍ، واغفر لي ولوالديَّ وللمُؤمنين يومَ يقومُ الحسابُ.
[/align]
المشاهدات 1988 | التعليقات 0