لا تسبوا المرض والدهر
هلال الهاجري
الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى؛ خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَعَافَى وَابْتَلَى، نَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْعَافِيَةِ وَالْبَلَاءِ؛ فَهُوَ المَحْمُودُ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، المَعْبُودُ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ تَعالى واشكروه على ما منعَ وأعطى، فكَم من نِعمةٍ كانتْ سبباً لهلاكِ العبدِ وشقائه، وكم من بلاءٍ كانَ سبباً لسعادتِه وفلاحِه في الدُّنيا والآخرةِ، (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
أيُّها الأحبَّةُ ..
شابٌ في عُنفوانِ شبابِه، ولكنَّه كانَ مريضاً أياماً أو شُهوراً أو سِنيناً، وشابٌ آخرُ كانَ صحيحاً لا يشتكي من عِلَّةٍ ولا مَرضٍ، عاشوا حِيناً من الدَّهرِ ثُمَّ ماتَ الاثنانِ في يومٍ واحدٍ؟.
انتهتْ المُهلةُ، وقُضيَ العُمرُ، وانتقلا إلى دارٍ جديدةٍ، لا عملَ فيها ولا إنابةَ، وإنما هي العقوبةُ والإثابةُ.
السُّؤالُ: من تتوقعونَ فيمَ يَظهرُ أنَّه كانَ أكثرَ استعداداً للِقاءِ اللهِ تعالى؟، ومن يا تُرى فيما يبدو قد تطهَّرَ من الذنوبِ والخطايا، قبلَ مواجهةِ سِهامِ المنايا؟، فهل تأملنا في هذه الفائدةِ العظيمةِ من فوائدِ المرضِ؟.
الآن .. تخيَّلْ أنَّكَ في مجلسِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، وتسمعُه يقولُ: (مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ، حَتَّى الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ)، فلا إلهَ إلا اللهُ .. شوكةٌ صغيرةٌ تنزعُها ثُمَّ يَتلاشى الألمُ وتُواصلُ السَّيرَ، فيها حسنةٌ أوحَطُّ خطيئةٍ، فكيفَ بالأمراضِ والابتلاءاتِ؟، كيفَ بالآلامِ والآهاتِ؟، كيف بالهمومِ والقلقِ؟، كيفَ بالحُمى والأرقِ؟، وهكذا كما جاءَ في الحديثِ: (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه، حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ) .. فهنيئاً لكَ أيُّها المؤمنُ عنايةُ ربِّ البرايا، فها أنتَ اليومَ تتألمُ من البَلايا والرَّزايا، وفي حقيقتِها تطهيرٌ لذلكَ اللِّقاءِ من الخطايا، فهل تأملنا ما في البلاءِ من الخيرِ والعطايا؟.
وهكذا المؤمنُ في حياتِه إنما يَتقلَّبُ بينَ خَيرينِ، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ)، فقابلْ جميعَ الأقدارِ بالصَّبرِ والشُّكرِ، على كلِّ حالٍ وعلى مدى الدَّهرِ.
ولمَّا كانَ للمرضِ أثرٌ كبيرٌ على المؤمنِ، نهى النَّبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ عن سبِّ الأمراضِ، فَعَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ، فَقَالَ: (مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ تُزَفْزِفِينَ؟ -أي: تَرْتَعِدِين-)، قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقَالَ: (لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ)، فكيفَ يُسبُّ وهو غسيلُ الذُّنوبِ؟.
فلا تسبوا الأمراضَ يا عبادَ اللهِ .. فهي تقديرُ الحكيمِ العليمِ .. وهي علامةُ محبةِ الودودِ الرَّحيمِ .. ولمن صبرَ عليها الأجرُ العظيمُ .. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)، فالرِّضا الرِّضا .. ارْضَ عَنِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ بِكَ، فَإِنَّهُ مَا مَنَعَكَ إِلَّا لِيُعْطِيَكَ، وَلَا ابْتَلَاكَ إِلَّا لِيُعَافِيَكَ، وَلَا أَمْرَضَكَ إِلَّا لِيَشْفِيَكَ، وَلَا أَمَاتَكَ إِلَّا لِيُحْيِيَكَ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُفَارِقَ الرِّضَا عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ.
كيفَ نسبُّ الأمراضَ وهي طريقُنا إلى الدَّرجاتِ العُلى، حينما قَصَّرتْ أعمالُنا عن بُلوغِ المُنى، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إِذَا سَبَقَتْ لِلْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، ثُمَّ صَبَّرَهُ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ)، فاللهُ أكبرُ على فضلِه وإحسانِه.
فالوباءُ أيُّها الأحبابُ آيةٌ من السَّماءِ، فالحذرُ الحذرُ من السُّخريةِ والاستهزاءِ، فإنها سُنَّةُ أهلِ الغفلةِ والشَّقاءِ، قالَ تعالى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ * وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ)، ولكن التَّضرعُ والدعاءُ، والتَّوبةُ الصَّادقةُ والالتجاءُ، حتى يُكشفُ البلاءُ، ويأتي الخيرُ والعطاءُ.
أَقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ، فاستغفروه إنَّ رَبي لغَفورٌ رَحيمٌ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على نِعمٍ أَثنَتْ بها الجوارِحُ والسَّرائرُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له شَهادةً لهَجَتْ بها الألسُنُ والضَّمائرُ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه أَزكى الأوائلِ والأوَاخرِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عَليهِ وعلى آلِه وصحابتِه البَالغينَ أَسمى البَشائرِ، والتَّابعينَ ومن تَبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أما بعدُ:
من الأخطاءِ العظيمةِ أيضاً، سبُّ السَّنةِ التي وقعَ فيها البلاءِ، وكأنَّها هي مصدرُ القَدرِ والقَضاءِ، وقد جاءَ في حَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، يَقُولُ: يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَلاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ، فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ فَإِذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا)، فاﻟﻔَﺎﻋﻞُ ﻫﻮ ﺭَﺏُّ ﺍﻟﺪَّﻫﺮِ، فهو ﺍﻟﻤُﻌﻄﻲ ﺍﻟﻤَﺎﻧﻊُ، وهو ﺍﻟﺨَﺎﻓﺾُ ﺍﻟﺮَّﺍﻓﻊُ.
فانتبهوا أيُّها الأحبةُ من إيذاءِ اللهِ تعالى، واعلموا أنَّ كلَّ قدرٍ فهو منه علماً وحكمةً، وكلَّ قضاءٍ فعاقبتَه للمؤمنينَ مغفرةً ورحمةً، وليسَ للأيامِ ولا الشُّهورِ ولا السِّنينَ أثرٌ في الأحداثِ والأقدارِ، فالسَّراءُ والضَّراءُ منه وحدَه تعالى العزيزُ الغفَّارُ، كما قالَ سُبحانَه: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فعلينا بُحسنِ الظَّنِّ به تعالى، ولنعلمْ علمَ يقينٍ أنَّه لا يكشفُ البلاءَ إلا هو، فهو الحافظُ لعبادِه، وهو القائلُ: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ).
فَلَا تَظُنَّنَّ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ *** فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ
اللَّهُمَّ اشفِ مَرْضانا ومَرْضَى المسلمين، وعَافِ برحمتِكَ مُبتلَانا ومُبتلَى المسلمينَ؛ يا أرحمَ الراحمينَ، اللَّهُمَّ إنَّا نعوذُ بك من جَهْدِ البلاءِ، ومن دَرَكِ الشَّقاءِ، ومن سوءِ القضاءِ، ومن شماتةِ الأعداءِ، اللَّهُمَّ اشْفِنا شفاءً لا يُغادِرُ سَقَمًا، وامْنُنْ علينا بعافيةٍ لا تُطْغِينا، وبصحَّةٍ لا تُلهِينا، اللَّهُمَّ احفَظْنا بالإسلامِ قائمينَ وقاعدينَ وراقدينَ، ولا تُشمِتْ بنا أعداءً ولا حاقدينَ، واجعَلْنا من أوليائِك الصَّادقين، يا أرحمَ الرَّحمين، اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا، لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنَّا كُنَّا مِنَ الظَّالِمِينَ.
المرفقات
لا-تسبوا-المرض-والدهر
لا-تسبوا-المرض-والدهر
لا-تسبوا-المرض-والدهر-2
لا-تسبوا-المرض-والدهر-2