لا تُخيفوا أنفسكم

سامي بن محمد العمر
1446/01/26 - 2024/08/01 17:06PM

لا تُخيفوا أنفسكم

 

لا تخيفوا أنفسكم؛ وصيةُ محمد صلى الله عليه وسلم إليكم أيها المسلمون.

لا تخيفوا أنفسكم؛ فالأمر شديد إن كنتم تعلمون.

لا تخيفوا أنفسكم، فإنما هو الشينُ والمذلة، واشتغالُ القلب والبال، والهمُّ اللازم، والتذللُّ الدائم، والكذبُ في الحديث، وإخلافُ الموعد، ثم الحبسُ في الدنيا والارتهانُ والأسرُ في البرزخِ ويومِ القيامة.

 لا تخيفوا أنفسكم، فإن الله لحكمةٍ عظيمةٍ قد فاوت بين العباد في الأرزاق فتنةً وابتلاء؛ فبسطها لأقوامٍ لعلهم يشكرون، وقدَرَها وضيقها على آخرين لعلهم يصبرون، "فما يُعطى أحدٌ في هذه الدنيا ولا يُحرَم، ولا يعلو ولا يهبط؛ إلاّ لحكمة بالغة وأمر مُقدَّر([1])"

{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 12]

ومن هنا: كان أمام الفقير لسدّ حاجته عبر الأزمان عدة أبواب:

فإما أن يواصل العمل ليله ونهاره لكسب المال أو أن يستدين أو أن يسرق.

فلما جاء الإسلام: حث الجميع على الكسب الحلال، وحرم السرقة والاعتداء، وأوجب الزكاة، وحث على الصدقة والإنفاق، وقنن ورتب أمور الاستدانة والاقتراض حفظاً لحق المُقرضين والمقترضين.

فها أنت ترى الإسلام يحث أرباب الأموال على إعانة إخوانهم بالصدقة والقرض الحسن كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا؛ نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر؛ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة))([2]).

وفي الوقت نفسه: يُحذّر أصحاب الحاجة من الإسراف في الديون لما فيها من المفاسد، ويحثهم - إن وقعوا فيها - على سرعة الوفاء.

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ رضي الله عنه قَالَ:

(كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ وَضَعَ رَاحَتَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَاذَا نُزِّلَ مِنَ التَّشْدِيدِ؟ فَسَكَتْنَا وَفَزِعْنَا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ سَأَلْتُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا التَّشْدِيدُ الَّذِي نُزِّلَ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَوْ أَنَّ رَجُلا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، ثُمَّ أُحْيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ)([3]).

وقال لأهل ميت عليه دين: (إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ)([4]).

وترك صلى الله عليه وسلم الصلاةَ على من مات وعليه ديناران، حتى تكفل بسدادهما أبو قتادة رضي الله عنه، فلما رآه من الغد وقال له قد قضيتها، قال صلى الله عليه وسلم: (الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ)([5])

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة:

(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ. فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ الْمَغْرَمِ [أي: الدَّين]؟! فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ [أي: استدان] حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ)([6]).

وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تخيفوا أنفسكم بعد أمْنها)) قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ((الدَّين))([7]).

اللهم ارزقنا الأمن في الدنيا والآخرة

بارك الله لي ولكم ..

الخطبة الثانية

أما بعد:

عباد الله: لم يختلف العلماء في جواز الاستدانة بثلاثة شروط:

1- أن يكون المستدين عازما على الوفاء.

2- أن يعلم أو يغلب على ظنه قدرته على ذلك.

3- أن تكون استدانته في أمر مشروع.

ومن ألجأته الحاجة للدَّين بهذه الشروط فإن الله معه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله))([8]).

وقد قرر العلماء: أن الدَّين الذي يُحبَسُ به صاحبُه عن الجنة - والله أعلم - هو الذي قد تَرك له وفاءً ولم يوص به، أو قدر على الأداء فلم يؤد، أو استدانه في غير حق أو في سرف، ومات ولم يؤده.

وأما من استدان في حق واجب لفاقةٍ وعسرةٍ، ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه به عن الجنة إن شاء الله([9]).

ولكنّ بعض أهل الاستدانة قد أفسدوا جمال القرض الحسن بتصرفاتهم، وشوهوه بأفعالهم، حتى أحجم عن المبادرة إليه كثير من الأغنياء؛ حين يرون أموال الدَّين تذهب في غير حاجة: كشراء الكماليات للمباهاة، وصرفها في رحلات السفر والسياحة، والمبالغة في الولائم والمناسبات؛ مما يُضعِف قدرة المقترض على السداد في حينه، فتقع المماطلة مع الكذب وإخلاف المواعيد، ثم تستمر عجلة الاستدانة بأن يستدين المقترض من آخر ليعطي الأول وهكذا.

وهؤلاء يظلمون أنفسهم بفعلهم هذا ظلما عظيما في الدنيا والآخرة:

أما في الدنيا فلقوله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم))([10])، وأما في الآخرة فلقوله صلى الله عليه وسلم: ((من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حـسناته؛ ليـس ثَمَّ ديـنار ولا درهم))([11]).

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبمعافاتك عن عقوبتك وبفضلك عمن سواك



([1]) ذكريات الطنطاوي (1/239).
([2]) مسلم (2699).
([3]) النسائي (4605) وحسنه الألباني في صحيح النسائي (4367).
([4]) رواه أبو داود (3341) وحسنه الألباني في صحيح أبي داود .
([5]) مسند أحمد (3/629) وحسنه النووي في "الخلاصة" (2/931) وابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/104) وحسنه محققو مسند أحمد.
([6]) رواه البخاري (832) ومسلم (589)
([7]) مسند أحمد (17320) وحسنه محققو المسند (28/557).
([8]) البخاري (2387).
([9]) قاله ابن عبد البر في التمهيد (23/238).
([10]) البخاري (2400) ومسلم (1564).
([11]) ابن ماجه (2414) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه 2/53

المرفقات

1722521083_لا تُخيفوا أنفسكم.pdf

1722521144_لا تُخيفوا أنفسكم.docx

المشاهدات 1239 | التعليقات 0