(لا تحسبوه شرا لكم) حادثة السخرية بالنبي في فرنسا

عبدالله القاضي
1442/06/23 - 2021/02/05 18:42PM

أما بعد:

ففي السنة الخامسة من هجرة نبينا محمد ﷺ، وفي عودة النبي ﷺ والمسلمين من إحدى الغزوات، وكان مع رسول الله ﷺ إحدى نسائه، وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقعت حادثة سِيء بها المسلمون، وضاقت منها صدورهم، لكن الله تعالى أراد بها خيرا كثيرا.

إنها حادثة الإفك، التي بدأت بداية صغيرة، وحادثة محدودة، وهي تخلّف عائشة -رضي الله عنها- عن الجيش في أحد المنازل التي نزلوها، فلما ارتحل الجيش حمل الناس هودجها على البعير، وهم يظنون أنها راكبة فيه؛ وكانت جارية حديثة السن خفيفة الجرم رضي الله عنها، ولم تكن في هودجها، بل كانت انطلقت تبحث عن عِقد وقع منها، فلما رجعت إلى المنزل لم تجد أحدا، فبقيت فيه تنتظر. تقول -رضي الله عنها-: فجئت منزلهم وليس فيه أحد، فأممت منزلي الذي كنت به، فظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطَّل السلمي من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته، فوطئ يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا في نحر الظهيرة. انتهى قول عائشة رضي الله عنها.

فلما رأى المنافقون ذلك، وعلى رأسهم عبدالله بن أُبي رأوا فيه فرصة لا تفوّت للطعن على النبي ﷺ وتنفير الناس منه، فأخذوا في إشاعة الإفك. وكان من تقدير الله تعالى أن أمسك نزول الوحي عن النبي ﷺ أكثر من شهر، وكان العليم الحكيم قادرا على أن ينزل في تلك الساعة وحيا يبرئ عائشة رضي الله عنها، فكم لله من حكمة في تأخير نزول آيات البراءة.

ثم أنزل الله تعالى براءتها بوحي يُتلى إلى قيام الساعة، في ثماني عشرة آيةً من القرآن، فيها من الحكم والأحكام الشيء العظيم، وكانت الآية الأولى من تلك الآيات قوله U ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.

فكم كان لله تعالى من حكمة في تقدير هذه الحادثة التي كرهها المسلمون، وشقّت عليهم، ثم في تأخير نزول الآيات، فكان في ذلك رفعة درجات النبي ﷺ وزوجه وأصحابه بالصبر، والتثبت، وحسن الظن بالمؤمنين.

ثم بعد ذلك نزول براءة عائشة بوحي من كلام رب العالمين، خالدٍ باق أبدا، وما أعظمه من شرف!

وقبل ذلك وبعده كان في هذه الحادثة من الدلالة على صدق النبي ﷺ أعظم البرهان: فإنه ﷺ ظل شهرا يؤذيه المنافقون في أهله، ويطعنون أعظم الطعن في عرضه الشريف، وهو ﷺ لا يعلم الغيب، فلم يقل شيئا، ولم يحكم بحكم، ولكنه ﷺ متمسك بحسن الظن في زوجه التي يعرف صلاحها وتقواها، وحسن الظن في الصحابي الذي لم يظهر من سيرته أية ريبة، فلو كان القرآن من كلام محمد لأسرع إلى إنشاء آيات يبرئ بها زوجه، ويدفع بها عن عرضه، لكنه -وهو الصادق الأمين ﷺ- توقف، فرأيناه يستشير مرة خادم البيت، وتارة عليا، وتارة أسامة بن زيد y، فكانت هذه الحادثة واحدة من دلائل صدقه وكمال أمانته في بلاغ رسالة ربه، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.

عباد الله!

لقد ساء المسلمين ما أقدم عليه بعض الكفرة من السخرية برسول الله ﷺ، ثم إمعانهم في ذلك، وتناصرهم عليه، وتأييد بعضهم بعضا، ولما كان هذا الدينُ دينَ الله لا دين البشر، وكان حفظه ونصرته وعدا ربانيا، لا تعهدا بشريا، فإننا نستحضر في هذا المقام قول الله تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.

فلقد بيّنت هذه الحادثة من حقائق القرآن ما اجتهد الكفار والمنافقون سنين في إخفائه، وأظهرت هذه الحادثة من أعمال الإيمان التي يُحبها الله تعالى ويرفع درجات أصحابها ما لم يكن ليظهر لولاها.

وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ


***
يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ


- فبعد عقود من سعي الكفرة والمنافقين في إخفاء الحقائق القرآنية، وتغييب وعي المسلمين، وتخديرهم بالشعارات التي لا واقع لها، من نحو شعارات: المساواة، وحقوق الإنسان، والسلام، والتعايش، واحترام الآخر، تأتي هذه الحادثة وأمثالها لتبين زيف تلك الشعارات، وتناقض أهلها، وخداعهم، وعمق كراهيتهم لدين الله تعالى، وتبين مدى اغترار بعض المسلمين بتلك الدعاوى، وكيف أحسنوا الظن بأهلها، وابتعدوا عن تلقي مفاهيمهم وتصوراتهم من كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي لا مبدل لكلماته.

جاءت هذه الحادثة لتذكرنا بقول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً [أي أصفياء ومقرّبين، تُطلعونهم على أسراركم، وتأمنونهم على شؤونكم] مِنْ دُونِكُمْ [أي من غيركم من الكفار] لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا [أي لا يقصرون في إفسادكم] وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [أي يتمنون ما يُعنتكم، أي يلحق بكم الضرر والمشقة] قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ [أي تؤمنون بكتب الله كلها، وهم لا يؤمنون بكتابكم] وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)﴾.

- لقد نطق في هذه الحادثة قول الله تعالى ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾، أي: أظنَّ المنافقون أن الله لن يُخْرِج ما يُخفونه في قلوبهم من الحقد للإسلام وأهله؟ كلا، فلا بد أن يُظهر الله تعالى في كل زمان من مواقف المنافقين ومن مواقف الكفار الذي يصانعون المسلمين ويتظاهرون لهم بالمودة- أن يظهر الله أضغانهم، ويُبدي على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم وقراراتهم ما يُبين ضغنهم وحقدهم على دين الله تعالى.

- وفي هذه الحادثة أيضا ظهر قوله تعالى ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾، أي: لولا أن الله تعالى يدفع بالمؤمنين المنتصرين لدينه كيد الكفار لتكالب الكفار ولفسدت الأرض بظهور الكفر عليها ومنعهم من عبادة الله تعالى وإظهار دينه، فما أعظم شرف من يختاره الله تعالى في كل زمان وفي كل جيل ليكون من أنصار دين الله، الذين يمنع الله بهم الفساد ويكف بهم الشر عن العباد.

وفي هذه المناسبة نذكّر بأن نصرة دين الله تعالى، والجهاد في سبيله، عبادة، والعبادة لا تقبل عند الله تعالى إلا إذا وافقت الشرع، فالغيرة للدين وحدها لا تكفي لصحة العمل ومشروعيته؛ ولهذا بيّن العلماء أن إنكار المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى إذا عاد بضرر راجح وتسبب في منكر أكبر، أو كان فيه اعتداء على من لم يُعاد الإسلام فإنه جهاد غير مشروع، وأن المسلمين إذا كانوا في مكان أو زمان لا يستطيعون فيه الانتصار لدين الله تعالى بأيديهم فلهم في النبي ﷺ أُسوة حسنة لما كان مستضعفا بمكة، فكان ﷺ في تلك الحال يدعو إلى الله، ويُبيّن الحق أتم البيان، ويصبر، ثم هاجر لما استطاع الهجرة، والله تعالى لا يُكلف نفسا إلا وسعها.

اللهم يا غفور يا ودود، يا ذا العرش المجيد، صل وسلم على من أخرجتنا به من الظلمات إلى النور، وأكرمنا بنصرة دينك، والثبات عليه إلى لقائك، إنك ذو فضل عظيم.

***

أيها المسلمون!

- من الخير الذي قدره الله تعالى، ما ظهر في هذه الحادثة من انتصار كثير من المسلمين لله ولدينه ولرسوله ﷺ ما نرجو أن ينالوا به فضلا عظيما، فقد قال رسول الله ﷺ: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يُلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات»، وفي الحديث الآخر: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه»، فكم من مسلم هو في أعيننا من عامة المسلمين، بل من المقصّرين، كان له في هذه الحادثة مقام محمود في نصرة الله ورسوله ﷺ.

ولهذا فمن أكبر دروس هذه الحادثة: أن نصرة الدين شرف لكل مسلم، وأن كل مسلم مؤهل لنيل شرف الانتصار لله ولرسوله، فقد رأينا مشاركة المسلمين من جميع فئاتهم، وتخصصاتهم، ومستوياتهم: رأينا التجار، والمفكرين، والكتاب، والمؤرخين، والشعراء، والمترجمين إلى اللغات، والمصممين، والإعلاميين، بل واللاعبين، وغيرهم.

فهذه الحادثة تثبت: أن نصرة الله ورسوله ﷺ ليست مهمة مختصة بطائفة أو مؤسسة معينة.

ولهذا أختم بأن أقول: لقد رأينا جليا أن بيد كل واحد منا إمكانات لا يستهان بها، فلنخرج من هذه الجمعة بمشروع لخدمة دين الله تعالى، وإبلاغ رسالته، وإظهار سنة نبيه ﷺ في واقع الحياة، وحفظ المفاهيم الشرعية في وعي الجيل، مشروع يلتزمه كل واحد منا، يناسب إمكاناته التي أعطاه الله، ويكون ذا هدف محدد، وواقعي، وسينجح في ذلك بإذن الله إذا استعان بالله وأخلص النية لوجه، ولا سيما إذا تعاون هو وإخوانه المسلمون الصادقون.

 

 

المشاهدات 626 | التعليقات 0