لا تبتأسوا فَسُبل الخير لم تزل متاحة وفضل "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" 1441
عبد الله بن علي الطريف
أما بعد: أيها الإخوة: اتقوا الله تعالى وأطيعوه واعلموا أن اللهَ تعالى ما خلقَ الخلقَ وأسكنَهم هذه الأرضَ إلا ليبلُوَهم أيُهم أحسنُ عملاً؛ فأرسلَ إليهم الرسلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.. وختمَ الرُسلَ بأفضلِهم والأممَ بخيرِها، فدعاهم للإيمانِ والعملِ الصالح.. وأمرَهم بعبادتِه ما داموا أحياء فقال مرشداً لرسوله بعبادته حتى الموت، وأمره أمرٌ للأمة فقال: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 98، 99]
قال الشيخ السعدي ما خلاصته: أي أكثر يا محمد من ذكر الله وتسبيحه وتحميده والصلاة؛ فإن ذلك يوسع الصدر ويشرحه ويعينك على أمورك.
(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). أي الموت أي: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات، فامتثل ﷺ أمر ربه، فلم يزل دائبا في العبادة، حتى أتاه اليقين من ربه ﷺ تسليما كثيرا.
أيها الإخوة: هذا اليقين عند كثير من الناس يشبه الشك، لأنَّ اليقين ينبغي أن يدفعهم للعمل، فمتى ما تيقنوا يقيناً كاملاً بأنَّ موعد السفر قد حان فلا بد أن يقوموا بالاستعداد للسفر، أمَّا إذا لم يقموا بالاستعداد فأنهم لم يتيقنوا اليقين المطلوب، لذا قال الحَسَنِ البَصْرِيِّ رحمه اللهُ: "مَا رَأَيْت يَقِينَا أَشْبَهَ بِالشَّكِ مِنْ يَقِينِ النَّاسِ بِالمَوْتِ وَغَفْلَتِهِمْ عَنه". وشَبَّهَ هذا اليقين بالشكِ لأنَّ حركة الناس في الحياة إنما تدلُ على أنهم غير مُتيقِّنين من هذا الحدَثِ، لكنَّ لو واجهت أحدَهم وسألتُهُ هل ستموت.؟ فلن ينكر ذلك، ولو أنكر لشككت في عقله..
فالموت حاصلٌ لا محالة فهو يقين، لكن تعامل الناس معه، تعامل مَنْ يشكُّ في وقوعه؛ فلا يستعدون له الاستعداد الكافي، أما الموفق من المؤمنين فيستعدُّ للقاء الله، ويكثر من ذكر الموت ليزداد يقينه به؛ فإذا ازداد يقينه به عمل الأعمال الصالحة، وأنفق وقته في الحياة استثماراً لا استهلاكاً بما ينفعه وبعد الموت.
أيها الإخوة: انقضى رمضانُ وانقضت عشرُ ذيِ الحجةِ، وكانت مواسم خير ومضاعفة أجور، لكن الذي قال: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). شرعَ فرصاً ذهبية على مدار الساعة لا تنتهي فأبشروا وأملوا مَا يَسُرُكمْ فَفَرصُ الخَيرِ لا تنقضي، ولا أُبَالِغُ إِنْ قُلْتُ هِيَ مَوجُودةٌ مع كلِ نَفَسٍ يترددُ، وفي كُلِ ثَانيةٍ تَمر.. لن أستوعب تلك الفرص ولكني سَأُشِيرُ إِلى عَملٍ واحد فقط.. لا يخفى على كثيرٍ منكم..
عملٌ خفيفٌ يحط الخطايا ويحبه الرحمن، وبلغ من حبه له أنه أحب إليه من إنفاق جبلٍ من ذهب، خفيف على اللسان ثقيل بالميزان يملأ ما بين السماء والأرض، عمل اصطفاه اللهُ لملائكتِه الأبرار ولعباده الأخيار، يَبُزُ من عمل به أكثر عباد الله ويسبقهم، وصى به أول المرسلين وحث عليه خاتم النبيين، لكننا مع الأسف عنه غافلون، أو به متساهلون.. إلا من رحم ربي.. إِنَّهُ قَول: "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" ومعناها: تنزيه الله عن كل نقص وعيب، وتنزيه كماله عن النقص، وعن مماثلة المخلوقين، فإذا قال العبد "سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ": فهو ينزه الله عن ذلك كله، وقولنا وبحمده الباء للمصاحبة، والحمد وصف المحمود بصفات الكمال محبةً وتعظيماً.. فكأن القائل قال: أنزهُ الله تنزيهاً من كل نقص وعيب، مصحوباً بوصفه تعالى بصفات الكمال محبة له وتعظيماً.. هذا هو المعنى الذي ينبغي للمسلم أن يستحضره أثناء تسبيحه وذكره.. ومن فضائل هذا الذكر:
قَوْلُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أي محيت ذنوبه المتعلقة بحقوق الله تعالى، ولو كانت كزبد البحر كثرة وهي الرغوة التي تعلو سطحه.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أي: سهلتان في القول ثقيلتان في وزن ثوابهما، ومحبوبتان لله تعالى، يقبلهما ويوصلُ الخيرَ لقائلهما ويكرمه.
وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ قَالَ: حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. بارك الله لي ولكم بالقرآن والسنة وجعلنا من الذاكرين الله كثيراً إنه سميع مجيب.. وصلى الله على نبينا محمد..
الثانية:
وَمِنْ فضائل سبحان الله وبحمه عَنْ جُوَيْرِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: «مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ» رواه مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ.؟ فَقَالَ: «مَا اصْطَفَى اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ». وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أيضاً: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ، فَقَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ» رواهما مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» رواه مسلم.
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ مِنْ جَلَالِ اللهِ مِنْ تَسْبِيحِهِ، وَتَحْمِيدِهِ، وَتَكْبِيرِهِ، وَتَهْلِيلِهِ، يَتَعَاطَفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، يُذَكِّرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ، أَلَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَزَالَ لَهُ عِنْدَ اللهِ شَيْءٌ يُذَكِّرُ بِهِ.؟» رواه أحمد وابن ماجة قال الأرنأوط اسناده صحيح. وروى نحوه الحاكم في المستدرك وقال الذهبي هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وهذا والله حديث عجيَب، كفى به حافزًا للعبد على ذكر الله، أن يظل شيءٌ فَعَلْتَهُ يُذَكِّرُ ربَّكَ بك دومَا، فسبحان الملك الكريم..
وبعد: فيا «مَنْ هَالَهُ اللَّيْلُ أَنْ يُكَابِدَهُ، وَبَخِلَ بِالْمَالِ أَنْ يُنْفِقَهُ، وَجَبُنَ عَنِ الْعَدُوِّ أَنْ يُقَاتِلَهُ، فَلْيُكْثِرْ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ جَبَلِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يُنْفَقَانِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». رواه الطبراني في الكبير عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وقال الألباني صحيح لغيره.
اجتهدوا أحبتي فالوقت ثمين والخير كثير لمن وفقه الله تعالى.. اللهم وفقنا لاستثمار أوقاتنا فيما يرضيك ويقربنا إليك زلفى. وصلوا على نبيكم..