لا إيمان لمن لا أمانة له
عبدالرحمن محمد صالح الحمد
الحمد لله الذي أمر بالوفاء، والأمانة، ونهى عن الغدر، والخيانة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا ربّ لنا غيره ولا إله لنا سواه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي فُطر وجُبِل على الوفاء، والأمانة، والصدق منذ نشأته حتى لقبتَه قريش قبل بعثته بالأمين، وكانت تضع ودائعها دائمًا عنده.
وما رؤي ﷺ في مشهد من المشاهد، إلا أمينًا، صادقًا، وفيًا.
بِسِوى الأَمانَةِ في الصبا وَالصدقِ لَم
يعرِفهُ أَهلُ الصِدقِ وَالأُمَناءُ
حَسَدوا فَقالوا شاعِرٌ أَو ساجِرٌ
وَمِنَ الحَسودِ يَكونُ الاستِهزاءُ
أَبَوا الخُروجَ إِلَيكَ مِن أَوهامِهِمْ
وَالناسُ في أَوهامِهِمْ سُجَناءُ
وَمِنَ العُقولِ جَداوِلٌ وَجَلامِدٌ
وَمِنَ النُفوسِ حَرائِرٌ وَإِماءُ
ما سمي صلوات الله وسلامه عليه في أي حدث من الأحداث إلا أمينًا، وما كان ﷺ في أي حال من الأحوال إلا أميناً.
هو الأمّيّ لم يقرأ كتاباً
فعلَّم قارئين وكاتبينا
فيا عجباً لقومٍ كذَّبوه
ألم يكُ بينهم يُدعى الأمينا
ومن يُعرفْ بصدقٍ في صباه
يُصدَّقْ عند سنِّ الأربعينا
وعلى الأمانة ربّى صلوات الله وسلامه عليه أصحابه رضي الله عنهم حتى كانوا مضرب المثل.
ودّع أبو بكر أسامة بن زيد رضي الله عنهما خارج المدينة ماشيًا فيأبى أسامة إلا أن ينزل ويركب الخليفة أبو بكر فيأبى أبو بكر ويقول: وما علي أن أغبرَّ قدميّ ساعة في سبيل الله.
ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "لا يعجبكم من الرجل طنطنته-أي قراءته-ولكن من أدى الأمانة، وكف عن أعراض الناس فهو الرجل".
ونظر عثمان رضي الله عنه إلى قبر فبكى، وقال هو أول منازل الآخرة، وآخر منازل الدنيا فمن شدد عليه، فما بعده أشد، ومن هونّ عليه فما بعده أهون.
أيها المسلمون:
يقول الله جلا وعلا: ﴿إِنّا عَرَضنَا الأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالأَرضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَها وَأَشفَقنَ مِنها وَحَمَلَهَا الإِنسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلومًا جَهولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢]، قال ابن عباس رضي الله عنه : عرضها الله على السموات، والأرض، والجبال إن أدّوها أثابهم الله، وإن ضيعوها عذّبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله أن لا يقوموا بها، ثم عُرضت على آدم |، فقيل خذها بما فيها فإن أَطَعْتَ غفرتُ لك، وإن عصيت عذبتك قال: قبلتها بما فيها.)
وقال علي رضي الله عنه :" احذر كلَّ قول وفعل يؤدي إلى فساد الآخرة، والدين.
"أيها المؤمنون إن الأمانة معناها: العمل بالقرآن الكريم، والسنة المطهرة، وأداء الأمانة، والقيام بها علامة الإيمان، يقول صلوات الله وسلامه عليه: (لا إيمان لمن لا أمانة له) رواه الإمام أحمد والبزار.
وعدمُ أدائها، وعدمُ القيام بها علامة من علامات النفاق، يقول ﷺ : (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) رواه البخاري.
الأمانة: صفةٌ يجب أن يتصف بها المسلم في حركاته، وسكناته، وتصرفاته، وهي لا تختص بفئة من الناس دون فئة، وإنما تطلب من الجميع، من الرؤساء والمرؤوسين، ومن الأغنياء والفقراء، ومن الرجال والنساء، الأمانة تطلب من الجميع في كل زمان ومكان، مع الموظف في عمله، ومع المعلم في منصته، ومع البائع في عمله، ومع الحداد، والنجار، والخباز، والخياط، والبنّاء، والتاجر، والمزارع، مع الإنسان في جميع أحواله، وتصرفاته.
يقول الرسول ﷺ:(إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه) رواه البيهقي.
الأمانة يا معشر المسلمين هي التي تترك الآثار الجميلة في جميع الأعمال والأقوال، ومما لا شك ولا ريب فيه أن الدنيا لا تغني عن الآخرة، وأن الإهمال لا يجدي، ولا ينفع، ومن المؤكد أن الأمانة تكلف المسلم وقتًا أطول، وجهدًا أكثر، واهتمامًا أوسع، ولكن "لابدَّ دون الشهد من إبَرِ النحل" ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر"
ليس الطموح إلى العلياء من سفه
ولا السمو إلى حق بمكروه
إنَّ المكارم لا تُحَصَّل بالمنى
لكنَّ لها بالتضحياتِ سبيلا
المسلمون بحمد الله هم صروح الأمانة في كل مكان، هم
روضها الفواح ونبعها الرفاف هكذا أراد الله لهم.
الأمين صادق منتصر، وأيُّ انتصار أعظم من أن ينتصر الإنسان على نفسه، ودنياه، وهواه، أي انتصار أعظم من أن يعرف الإنسان بأنه هو من يسلك سبيل الصدق، والوفاء، والحق في عبادته ومعاملته، وأخلاقه، وفي جميع أموره إرضاءً للرب جل وعلا، وإرغامًا للشيطان، وبعدًا عن الخيانة، يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذينَ هُم لِأَماناتِهِم وَعَهدِهِم راعونَ﴾ [المؤمنون: ٨]
الحياة بلا أمانة لا تساوي شيئا، وما الحياة بلا إيمان؟ ولا إيمان لمن لا أمانة له.
الأمانة أصل في جميع العبادات، والمعاملات، فالصلاة أمانة في عنق المسلم، يؤديها في أوقاتها مع الجماعة، والوضوء أمانة، والصيام أمانة، والزكاة أمانة، والعهود والالتزامات والمواعيد أمانة، وصحة الإنسان أمانة، وسمعه، وبصره، ولسانه، وقلبه أمانة، وسوف يسأل عنها، قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنهُ مَسئولًا﴾ [الإسراء: ٣٦] .أيها المسلمون: بينما كان رسول الله ﷺ في مجلس من مجالسه، وبينما كان يحدّث القوم جاءه أعرابيٌ، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فمضى رسول الله ﷺ يحدّث فقال بعضُ القوم: سمع ما قال فكَرَه ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: أين السائل عن الساعة؟ قال: ها أنا يا رسول الله، قال: (إذا ضُيعت الأمانة، فانتظر الساعة) رواه البخاري.
إنَّ من عظم الأمانة أنها تكون على الصراط عند عبور المسلمين عليه، يقول ﷺ : (يجمع الله تبارك وتعالى الناسَ، فيقوم المؤمنون حين تُزلف لهم الجنة -إلى أن قال-: وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا) رواه مسلم، والسر في وقوف الأمانة، والرحم على جنبتي الصراط، قال العلماء: لعظم أمرهما، وكبر موقعهما، تقومان لتطالبان بحقهما، كلَّ من يريد الجواز، على الصراط: هات حقي أيها المارّ فوق الصراط، فوق جهنم، هل أديت حقي في الدنيا كيف تمر؟ ولم تؤد الأمانة؟ أو لم تصل الرحم.
وضد الأمانة الخيانة، ومن أعظم الخيانة خيانةُ المسلمين بأكل أموالهم ظلمًا، أو غشِهم، أو خداعهم، أو الكذب عليهم، أو المماطلة في حقوقهم، كلُّ هذا من الخيانة، ومن تضييع الأمانة، استغلالُ الرجل منصبه الذي عيّن فيه لجر منفعة إلى شخصه، أو قرابته، بما لا يحق له، أو التشبع من المال العام، يقول صلى الله عله وسلم: (من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول) رواه أبو داود.
ويقول ﷺ : (من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطًا فما فوق كان غلولًا، يأتي به يوم القيامة) رواه مسلم، ومعنى الغلول: الخيانة في بيت مال أو زكاة.
واستعمل رسول الله ﷺ رجلًا على استلام زكاة بني سليم، فلما جاء حاسبه، وقال: (فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقًا) رواه البخاري ومسلم.
أسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه ويغنينا بفضله عمن سواه.
المرفقات
1733321233_لا إيمان لمن لا أمانة له.docx