لا إيمان لمن لا أمانة له

إبراهيم بن صالح العجلان
1437/02/07 - 2015/11/19 23:04PM
(لا إيمان لمن لا أمانة له) 9 / 2 / 1437 هـ

إخوة الإيمان: ما أجمل الحديث حينما يكون عن النزاهة والأمانة، وما أروع الكلمات حين تُدَّبج في التحذير من الاختلاس والخيانة، ولكن أجمل من ذلك وأروع أن نرى الأمانة رجالاً، والنزاهة فعالاً.
نراها في شخصيات رجال عاشوا في دنيا الناس، رأوا طنين المال ورنينه، وكانت لهم نفوس كغيرهم تحب المال، وتأمرهم بالسوء، بيد أنَّ هذه النفوس كانت ملأَ بالإيمان والتقوى، التي تلجم صاحبها عن كلِّ كسب خبيث.
كانت لهم أخلاق عالية سامية، ترفعوا بعدها أن يوصفوا بشيء من الخيانة.
كانت بين جوانحهم خوفُ الله ومراقبتُه، واستشعارُ الحساب يوم الحساب على الفتيل والقطمير قبل الكثير والكبير.
إن الحديث عن الأمانة ليس هو حديث عن الأخلاق وحسب، ولا عن ضبط أمور الدنيا، إن الحديث عن الأمانة حديث عن الإيمان، فلا إيمان لمن لا أمانة له قالها النبي r، ومن علامات الفساد التي أخبر عنها المصطفى r أن تُضيَّعَ الأمانة، وأن يؤتمن الخائن، ويخون الأمين.
فتعالوا نقلب صفحة النزاهة والأمانة في تاريخ خير جيل، وكيف حالهم معها، فتراجم هؤلاء مواعظ صامته، وحياتهم وأخبارهم مثلاً وسلفاً ليس للمسلمين فحسب، بل وللأجيال والبشرية جميعاً.
ـ ومع رمز الأمانة، ودرة النزاهة، وأمين من في السماء، مع محمد r الذي تحلى بالأمانة ولازمها في صباه وشبابه، فعرفته مكة، وأسواقها، وجبالها، وسهولها، فعرفت فيه النزاهة والصدق، حتى لُقِّب بالصادق الأمين، قبل أن يأتيه الوحي من رب العالمين.
ها هو رَسُولُ اللهِr يتَضَوَّرُ ذَاتَ لَيْلَةٍ على فراشه, قد طار النوم عن أجفانه من أمرٍ أهمَّه ـ والمهموم لا ينام ـ فيُسأَلُ: مَا أَسْهَرَكَ يا رسول الله؟ مَا أَسْهَرَكَ يا رسول الله؟
ما الذي جعل الأرق يلازمك؟ فلم تُغمض لك عين؟ ما الأمر؟ ما الخبر؟
إنها تمرة، نعم تمرة وجدها النبي r تحت جنبه فأكلها، فتذكر أن عنده تمر من تمر الصدقة قد أودعه عنده، وهي لا تحل له، فخشي r أن تكون تمرة من عرض هذا التمر.
لقد خاف r أن يكون أكل شيئاً لا يحل له، وهو مؤتمن عليه.
كم هو زهيد أمر التمرة في أعين الناس ولكنها في أعين الأمناء العظماء ليست بيسير.
إنها تمرةٌ واحدةٌ، ولو أكلت لم تضرَّ أحداً، فكيف تكون حاله r لو كان هذا الشيء يتعلق فيه أذى للناس، أو أكل لحقوقهم بغير حق.
نعم لقد استعظم النبي r أمر التمرة، لأن القضية قضية أمانة، فمن هوَّن شأن التمرة، رق في قلبه من هو في مثلها، أو أعلى منها، وهكذا تهون الأمانة في قلب العبد حتى يطبع على الخيانة.
ـ ومع شامة أخرى في تاريخ الأمناء، مع الصديق رضي الله عن الصديق.
كان رضي الله عنه صاحب تجارة قبل الخلافة، فلما ولي الخلافة خرج كعادته حاملاً على كتفيه لفافة كبيرة من الثياب، وفي الطريق يلقاه عمر، فيسأله: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ قال: إلى السوق، فقال عمر: إلى السوق وقد وليت أمر المسلمين!! (فقه عمر أنَّ الإمارة والتجارة لا يجتمعان)، فقال أبو بكر: فمن أين أُطعم عيالي؟ فقال عمر: انطلق معنا لنفرض لك شيئاً من بيت المال، وبعد مشاورات بين الصحابة اتفقوا أن يفرض للخليفة بعض شاة كل يوم، ومائتين وخمسين دينار في العام، في مقابل تفرغه لأمر الناس.
ولم يزل الصديق على هذا المرتب وتلك النفقة، يأخذ منها قدر حاجتهن بلا سرف، فأنفقَ رضي الله عنه في مُدَّةِ خلافته ثمانية آلاف درهم، فلما حضره الموت قال: إذا أنا متُّ, فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم, وردوها في بيت المال, فلما مات رضي الله عنه, جاء الرسولُ إلى عمر بهذه الأموال، فبكى عمر وقال: رحم الله أبا بكر! لقد أتعبَ مَن بعده.
ـ ومع الخليفة الثاني الذي كان أعجوبة في أمانته وديانته، مع الفاروق رضي الله عنه، الذي جاءته كنوز كسرى وقيصر صاغرة مطأطأة حتى وضعت تحت قدمه.
فتحت المدائن عاصمة الفرس وجُمِعَتِ غَنَائِمُها, فإذا هي تزيدُ على الثمانين مِلْيوناً, وهذه من المدائن فقط، وحُملتْ إليه الكنوزُ والْمُجوهرات المرصعة بالذهب في رواحل كثيرة، فلما وصلت المدينة، ورأها عمر، وقف متعجبا منها، ومعجباً بأمانة من جاؤ بها، فقال: إِنَّ قوماً أَدَّوْا هَذَا لَأُمَنَاءُ، فقال عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ.
لقد كان الفاروق حريصاً على مال المسلمين أشد من حرصه على ماله، لأنه استشعر أنه مؤتمن عليه، فكان كثيراً ما يراقب إبل الصدقة، وينظر فيها، بل ربما ندَّ بعض الإبل، فترى عمر يركض خلفها ليرجعها إلى معاطنها حتى لا تضيع.
عيَّن عمر رجلاً اسمه معيقيب على بيت المال المسلمين، فكنس بيت المال يوماً فوجد فيه درهماً, فدفعه إلى ابنٍ لعمر, قال معيقيب: فانصرفت إلى بيتي, فإذا رسولُ عمر يدعوني, فجئت، فإذا الدرهم في يد عمر، فقال: ويحك يا معيقيب! أردتَ أنْ تخاصمني أمةُ محمد r في هذا الدرهم.
نعم ردَّ عمر الفاروق الدرهم ليس من أجل استغنائه عنه، وإنما من أمانته وخوف محاسبته على مال لا يحل، ردَّه وأغلق باب كل تأويل في وقت كان بعض أهل يسأله المال لتشتري الحلوى، فيعتذر منها، ليس بخلاً، ولكن لأنه لا يجد قيمتها.
وحين طعن عمر، وأحس بالأجل، نادى ابنَه عَبد الله وقال له: انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ, فَحَسَبُوهُ فوَجَدُوهُ سِتَّةً وثَمَانِينَ ألْفاً أوْ نَحْوَهُ, قَالَ: فأدِّ عَنِّي هَذَا المال.
ـ ومع رجل أدهش أهل التاريخ في أمانته ونزاهته، مع عمر بن عبد العزيز الذي بدأ خلافته بتطبيق مبدأ الأمانة، فنظَر إلى ثروتِه، فرأى أن ذلك ثراء حَصَّلَه من بيت مال المسلمين، فباعَ ما يملك، وردَّه في بيت المال، ثم غدا على زوجته فاطمة بنت عبدالملك، ابنة الخليفة وزوجة الخليفة وأخت الخليفة والتي قال فيها الشاعر:
بِنْتُ الخَلِيفَةِ وَالخَلِيفَةُ جَدُّهَا **أُخْتُ الخَلاَئِفِ وَالخَلِيفَةُ زَوْجُهَا

غدا إليها فخيَّرها بين ثَرَائِها وحُليِّها، وبين أن تَبْقَى معه، فاختارتْ زوجَها، وتَخَلَّت عن كلِّ حُليِّها وأموالِها إلى بيتِ المال، ثم كَتَبَ إلى بني عُمُومته من أمراءِ بني أُمية فوعَظَهُم، وذكَّرهم أن يردُّوا الأموال إلى خزائنِ الدولة، ثم قَطَعَ عنهم كلَّ صلاتٍ كانوا يأخذُونها، وهدايا كانوا يستلمونها.
نعم، لقد استشعر عمر بن عبدالعزيز عظم شأن الأمانة، فخافَ، فَعَفَّ، فَعَدَل.
وقف عمر بن عبد العزيز يوماً يقسم تفاح اَلْفيء، فتناول ابنٌ له صغيرٌ تفاحة، فانتزعها مِن فِيه فأوجعه، فسعى إلى أمه مستعْبراً، فأرسلت إلى السوق فاشترت له تفاحاً، فلمَّا رجع عمرُ وجَدَ ريح التفاح فقال: يا فاطمة! هل أتيتِ شيئاً من هذا الفيْء؟ قالت: لا, وقصّت عليه القصة، فقال: والله لقد انتزعتها من ابني, وكأنَّما نزعتها عن قلبي، ولكن كرهتُ أنْ أُضيِّع نصيبي من الله عز وجل, بتفاحةٍ من فيء المسلمين.
وأسس عمر مبدأ أن أملاك الدولة لا تستخدم في المصالح الشخصية، كتب إلى عاملٍ له يشتري له عسلاً, وأمره ألا يركب دابَّةً وُضعت لمصالحِ الْمُسلمين؛ لأنه سيشتري شيئاً خاصًّا له, فما كان منه إلا أن ركب دابَّةً من دوابِّ البريد, فلما أتى قال: على أيِّ دابَّةٍ ركب؟ فقالوا: على البريد, فأمر بذلك العسلِ فبيع, وجعلَ ثمنه في بيت مال المسلمين وقال: أفسدت علينا عسلنا!.
أتتْ إلى عمر امرأة منَ العراق؛ تشكو ضعفَها، وكثرةَ بناتِها، فلما دخلت دارَه قلبتْ طرفها فيه، فإذا هي ترى دارًا وضيعة، وهيئةً متواضعة، فجعلتْ تَتَعجَّبُ مما ترى.
فقالتْ لها فاطمة زوجة عمر: ما لكِ؟ قالتْ: لا أراني إلا جئتُ لأعمر بيتي من هذا البيتِ الخراب، فقالت لها فاطمة: إنما خرَّب هذا البيتَ عِمارةُ بيوتِ أمثالك.
نعم لقد حفظ عمر أمر الأمانة في أشهر معدودات، حتى عمَّت البركة، وفاض المال ، واستغنى الناس، فكان عمال الخليفة ينادون في الأمصار: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ حتى أغنى كل هؤلاء، بل بلغ أنَّ عماله كانوا يحملون الزكاة فلا يجدون من يأخذها، وفي تلك السنة دُفعت زكاة المسلمين إلى أهل الذمة.
تلك عباد الله طرف يسير من مواقف كثيرة مع الأمانة، واستشعار السلف لها، لا يسع النفس بعدها إلا أن تقف خاشعة، مترضية عنهم، راجية من ربها الكريم أن تلقاهم في جنات النعيم، فالمرء مع من أحب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
أما بعد: فهذه بعض أخبار سلفنا مع الأمانة، فما خبرنا نحن مع هذه الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض.
ما خبرنا نحن مع حقوق الناس، والتي تساهل فيها كثير من الناس إلا ما رحم ربي.
ما خبرنا مع وظائفنا التي نكتسب منها مالاً، وهل أديناها على الوجه المطلوب.
ما عرف حقَّ الأمانة كل موظف مستهتر بأمر المراجعين، يؤخَّر معاملاتهم، ويتشاغل عنها بكلام، أو طعام، أو استئذان.
ما أدى الأمانة ذلك التاجر الذي جعل الأيمان الكاذبة وسيلته في الترويج لسلعته، أو استخدم الغش التجاري في تزيين بضاعته.
ما عرف الأمانة ذلك المسئول الذي جعل من منصبه قنطرة له نحو الثراء، وكأن ما تحت يده هو ملك له يتصرف منه، وكأنه مالك له ليس بمؤتمن، قال r: (مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة.
حرام وسحت وآثام أن يأخذ أي مسئول مكافأة على عمله، أو يتفق مع جهة أخرى في ترسية مشروع حكومي مقابل عمولة تدفع له، رَجُلٌ مِنَ الأَزْدِ استعمله النبي r عَلَى الصَّدَقَةِ فَجَاءَ فَقَالَ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لِى. فَقَامَ النَّبِىُّ r عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ « مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِىءُ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِىَ لي، أَلاَّ جَلَسَ فِى بَيْتِ أُمِّهِ أَوْ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ، لاَ يَأْتِى أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا فَلَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً فَلَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ »، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ « اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ».
فشأن الأمانة يا أهل الإيمان عظيم وكبير، فهي إن ضاعت حلت الخيانة، وإذا حلت الخيانة عشعش النفاق.
إذا ضيعت الأمانة خربت الديار، وفسدت الأمصار، وساد الخلاف وعمَّ التشاحن والتدابر.
ضياع الأمانة سيئات تبقى آثامها في عنق كل خائن حتى بعد مماته، بحجم ضرره على الناس، ودعائهم عليه.
فما أحوجنا أن نتذكر ونذكر من شأن الأمانة، وأن نحاسب أنفسنا مليَّاً على التقصير فيها، وأن نربي أبناءنا وشبابنا على استشعار شأن الأمانة، فبها تصلح المجتمعات، وتحفظ الحقوق، ويرسى العدل، ويستقيم العيش، وبها يصلح أمر الدين، ومن أبرز صفات عباد الله المؤمنين: (والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون)
اللهم اجعلنا من أهل الإيمان والأمانة، ونعوذ بك من النفاق والخيانة.
اللهم صلِّ على محمد ...
المرفقات

لا إيمان لمن لا أمانة له.docx

لا إيمان لمن لا أمانة له.docx

المشاهدات 5177 | التعليقات 7

خطبة جميلة جزاك الله خير يا شيخ ابراهيم


جزاك الله خيرا


من زمان عن إبداعاتك يا شيخ إبراهيم ..
كنت بالأمس أبحث عن موضوع الأمانة فلم أجد خطبة شاملة واقعية
فبارك الله في جهودك ونفع بهذه الخطبة ونتمنى أن نرى لك خطبة أسبوعية مُشَكَّلة في هذه الملتقى المبارك
فغفر الله لك ولوالديك والناس أجمعين


الإخوة الكرام: سعيد المفضلي، أبو عثمان، أبو اليسر ...
شكر الله لكم دعواتكم وتشجيعكم، وجعلنا الله وإياكم مباركين أينما كنا .


جزاك الله خيرا
خطبة رائعة


اتفقوا أن يفرض للخليفة بعض شاة كل يوم، ومائتين وخمسين دينار في العام، في مقابل تفرغه لأمر الناس.

شيخنا إبراهيم : غفر الله لك بحث عن الجملة السابقة فلم أجد لها مرجعاً .. ووجدت أن ما فرض له 2500 دينار وليس 250 دينار ..

وبارك الله في جهودك


أسأل الله أن ينفع بك يا شيخ وبما كتبت

خطبة قيمة ومناسبة لهذه الأيام

واستوقفني ما استوقف أخي أبو اليسر

ووجدت هذه العبارات

اتفقوا أن يُفرض للخليفة ، كل يوم شطر شاة وكسوة في الرأس والبطن في مقابل تفرغه لأمر الناس وقيل أنها ألفان وخمسمائة درهم وقيل بردان إذا أخلقهما وضعهما وأخذ مثلهما، وظهره إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق قبل أن يستخلف

أسأل الله لنا جميعا التوفيق والسداد