كيف نودع عامًا وبم نستقبل آخر؟-30-12-1435هـ-سليمان العودة-الملتقى-بتصرف
محمد بن سامر
1435/12/29 - 2014/10/23 18:48PM
[align=justify]إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، كيف نودع عاما، وبم نستقبل عاما آخر؟ إن نهايةَ عام تعني ذهاب ما يزيد على ثلاث مئة وخمسين يوما من عمر الإنسان، وتلك تحوي أعدادا كثيرة من الساعات وأضعافها من الدقائق والثواني، كما تحوي عددا من الأعمال دقت أو جلت، صلحت أم خبثت، وتحوي في طياتها عددا من الخطرات، وأنواعا من الهواجس، وألوانا من الحركات، وهذه فيها الصالح والطالح، وفيها ما هو في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وفيها ما تهوى الأنفس وتلذ الأعين وإن كانت في غير مرضاة الله، ومخالفةً لهدي رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-.
في هذه الأيام والساعات والدقائق أعمال صالحة تُسرُ النفسُ لذكراها، ويود المرءُ لو كانت حياتُه كلُّها على منوالها، وقد يكون فيها من أعمال السوء ما يود صاحبها أن يتناساها، ويرغب أنه لم يقترفها، ويوم القيامة يود لو كان بينه وبينها أمدٌ بعيد.
ترى هذه الأعمالَ والحركاتِ والرصيدَ المتجمع خلال عام أليس جديرا بالمحاسبة والتذكر؟ والمحاسبةُ النافعةُ هي التي تقود صاحبها إلى عمل الخير المستمر الدائم، وقَصْرِ النفسِ قدر المستطاع عن عمل السوء، ومن أقوال الحكمة: "شيئان إذا عملت بهما أصبتَ خير الدنيا والآخرة: تعملُ ما تكره إذا أحبَه اللهُ، وتتركُ ما تحبُ إذا كرهه الله". وقال العارفون: "ما أحببتَ أن يكونَ معك في الآخرة فاتركه اليوم، وانظرْ كلَّ عملٍ كرهتَ الموتِ من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت!".
كم تلهينا الدنيا وهي متاع الغرور، فتمر الأيامُ والأعوامُ سراعا بلا تفكير، وكم تفتِنُنُا بزينتها، ومتاعُها في الآخرة قليل، وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون، وكلُّ نفس مصيرُها إلى الموت والفناء، ولكنَّ المهم ما بعد ذلك: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُور]، وكم ننخدع بوساوس الشيطان، وقد عصيناه فما ضرنا، وأطعناه فما نفعنا، ويوم القيامة يتبرأ ممن اتبعه ويقول حين يقضى الأمر: [إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
بمن تقتدي في هذه الحياة؟ وما نوع الخليل الذي تتخذه لك صديقا، والله-سبحانه-يقول: [الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ]، ويقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". هل تفكر-بجد-في الموت وما بعده؟
أحبابي الكرام: كم نتساهل بالذنوب وهي مهلكاتٌ تُفّوِتُ على الإنسان السعادةَ، فَتَحْجِبُه عن معرفة ربه في الدنيا، وعن تقريبه في الآخرة: [إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ]، ومصيبة حين تتراكم علينا الذنوب ونحن لا نشعر، فيكون الران على القلوب [كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ*كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ*ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ]، ورحم الله سلفنا الصالح كانت ذنوبهم قليلة، وحياتهم عبادةً وخشوعا وزهدا وورعا، ومع ذلك يقول أحدهم تورعا وتواضعا وخشية: "لو كان للذنوب ريح ما جلس إليَّ أحد" هكذا كان يقول محمد بن واسع الأزدي-رحمه الله-، الذي قال عنه سليمان التيمي-رحمه الله-: "ما أحدٌ أُحبُ أن ألقى اللهَ بمثلِ صحيفته مثلَ محمد بن واسع".
يا أخي الحبيب: كم في صحائفك الماضية من توبة واستغفار، والله يقول: [وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ]، ويقول: [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى]. وفي الأثر: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا".
وهذا سيد البشر المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر-صلى الله عليه وآله وسلم-يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
أيها الكرام: ما أجمل الأعمار تختم بالتوبة والاستغفار، اِختمْ كلَّ عمل، وكلَّ مجلس، وكلَّ خطإٍ أو ذنب بالتوبة والاستغفار، وما يَزالُ الله يعفو ما دمتَ تندم وتتوب وتستغفر، فإن نسيت التوبة أو فاتك الاستغفار في شيء من أيام العام، فلا يفوتنك ذلك في نهاية العام، فالأعمال بالخواتيم، وصحائف العام لم تطو بعد، فأشهد ربك على توبتك، ولا تصر على صغيرة، أو تحقرن من الذنوب شيئا، وإن داخلك الشيطان بتعاظم ذنبك وعدم مغفرة ربك، فاعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء، والله يغفر الذنوب جميعا.
الله-عز وجل-كريم يحب عبده إذا اقترب منه، ويمحو عنه زلاته، قال الله-عز وجل-في الحديث القدسي: "من عمل حسنةً فله عشرُ أمثالِها أو أَزيدُ، ومن عمل سيئةً فجزاؤُه مثلُها، أو أَغفرُ، ومن عمل قُراب الأرضِ خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلتُ له مثلَها مغفرة، ومن اقترب إليَّ شبرا اقتربت إليه ذراعًا، ومن اقترب إليَّ ذراعا اقتربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"، [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ].
فيا إخواني: العام الجديد صفحة بيضاء ينتظر الحفظةُ الكاتبون ما أنتم عاملون، فاستقبلوه بعزائمَ قوية، ونيةٍ صادقة على فعل الخير، وسيحفظ لكم كلَّ صغيرٍ وكبير:[وقالوا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها][وكلُّ شيءٍ فعلوه في الزبر(الكتب)*وكلُّ صغير وكبير مستطر].
تذكروا أن عاما بأكمله سَيُجرِي اللهُ فيه من الأحداث ما يُجري ويقدرُ ما يشاء، فاسألوه من خير هذا العام، واستعيذوا به من شروره وفتنه، فلا يرد القضاءَ إلا الدعاءُ، كم من فتنة حصلت؟ وكم من أمراض ومصائب وشرور حدثت في العام المنصرم؟ فإذا سلمكم الله منها فيما مضى فاسألوه أن يحفظكم منها، ويعيذكم من شرورها فيما تستقبلون من عامكم الجديد.
استقبلوا العام الجديد بعدد من التساؤلات والنقاط تحددون بها مساركم، وتقيمون فيها بعدكم أو قربكم من الخير، كيف علاقتُك مع الله؟ كيف علاقتُك مع الخلق؟ كيف أنت في العبادات؟ وكيف أنت في المعاملات؟ ما هي الخطيئةُ أو الخطايا التي لازمتك في عامك المنصرم، وتنوي الخلاصَ منها في عامك الجديد؟ ما في الفضيلة أو الفضائل التي فاتتك في عامك الماضي، وتفكر جادا ألا تفوتك في العام المقبل؟ كيف أنت وفتنُ الأهواءِ والشهواتِ والشبهاتِ والفضائياتِ؟ ما قيمةُ الوقت عندك؟ وبماذا تستثمره؟ طاقاتك كيف تصرف؟ قدراتك بماذا تستثمر؟ هل تتحرى الحكمة في قولك وفعلك؟ ما مدى قيامك بواجبك الوظيفي، وعلى أي نحو تؤدي الأمانة التي اؤتمنت عليها في أي موقع كنت؟ حاسب نفسك في نوع مطعمك ومشربك، وملبسك، وماذا تسمع وتبصر؟ وبم تنطق؟ وماذا تخفي في صدرك؟ [إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً].
راجع نفسك في أداء الفرائض، وكم قدر الاحتياطي عندك في السنن؟ فهُنَّ مكملاتٌ لنقص الفرائض، مسدداتٌ للخلل، رافعاتٌ للدرجات، مكفراتٌ للسيئات، ما نصيبُك من ذكر الله؟ كيف صلتُك بكتاب الله؟ كيف أنت والنفقاتِ الواجبةِ والمستحبةِ؟
أحبتي: هذه وأمثالُها مراجعاتٌ يَحْسُنُ بالمرء أن يراجعَ نفسه ويسألَها عنها على الدوام، وهي جديرة بالمحاسبة مع انصراف عام وبدء عام، وإذا أخرجت لنفسك ميزانية في آخر العام عرفت قدر المكاسب فيها والخسارات، وإذا علمتَ ذلك سددتَ وقاربتَ قدر الإمكان، وتلك الميزانيةُ والمحاسبةُ، وربي، أولى من غيرها في موازين الدنيا ومحاسباتها، والغفلة تورث الهلكة، وما أعظمَ الحسرةَ حين يَرِدُ الناسُ-يوم القيامة-بحسنات كالجبال، و يَرِدُ المفرطون الغافلون بالخيبة والخسران، يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون.
عباد الله: نهاية عام وبدء عام مذكرة بسرعة الأيام وانقضاء الأعمار، فإذا كانت الساعة تشكل قدْرا في أجل الإنسان، فكيف مما يزيد على ثمانيةِ آلافٍ وخمسِ مئةِ ساعةٍ في السنة، والله-جل شأنه-يقول: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ].
يا أيها المبارك: وبين عامٍ ماضٍ وعامٍ قادمٍ عبرٌ تُوقظ الضمير الغافي، كم حدث في العام الماضي من عللٍ وأسقامٍ، وفتنٍ وهمومٍ، وفقرٍ وحروبٍ، وأمواتٍ رحلت، ودماءٍ أزهقت، وأطفالٍ يُتمت، ونساءٍ تأيمت، فإذا سلمك الله من هذا كلِّه فاحمدِ اللهَ واشكرْه، واعلم أن ما تخطاك لغيرك سيتخطى غيرك إليك، فكن مستعدا للقاء ربك، مغتنما شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، والكيس العاقل من دان نفسه وحاسبها وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلم: ومما يفيدك في المحاسبة أن تنظرَ في أمور دينك إلى من فوقك، فذلك أدعى لرفع همتك، وتنظرَ في أمور دنياك إلى من هو دونك، حتى لا تحتقرَ نعمة الله عليك.
إخوة الإسلام: نهاية العام فرصة للتأمل في المتغيرات التي تحصل في المجتمعات فما موقع المسلمين في خارطة العالم، وما نوع القوى التي تحظى بالنفوذ والسيطرة؟ إلى أين يسير الشباب؟ وماذا يراد للمرأة المسلمة؟ وماذا تصنع القنوات وشبكة الإنترنت ووسائل الاتصال؟ وكم عدد ضحايا الخمور والمخدرات؟ وكيف الطريق لتصحيح المسار، والوقاية خير من العلاج، [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]،[فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ*وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ].
[/align]
فيا أيها الإخوة، كيف نودع عاما، وبم نستقبل عاما آخر؟ إن نهايةَ عام تعني ذهاب ما يزيد على ثلاث مئة وخمسين يوما من عمر الإنسان، وتلك تحوي أعدادا كثيرة من الساعات وأضعافها من الدقائق والثواني، كما تحوي عددا من الأعمال دقت أو جلت، صلحت أم خبثت، وتحوي في طياتها عددا من الخطرات، وأنواعا من الهواجس، وألوانا من الحركات، وهذه فيها الصالح والطالح، وفيها ما هو في سبيل الله وابتغاء مرضاته، وفيها ما تهوى الأنفس وتلذ الأعين وإن كانت في غير مرضاة الله، ومخالفةً لهدي رسول الله-صلى الله عليه وآله وسلم-.
في هذه الأيام والساعات والدقائق أعمال صالحة تُسرُ النفسُ لذكراها، ويود المرءُ لو كانت حياتُه كلُّها على منوالها، وقد يكون فيها من أعمال السوء ما يود صاحبها أن يتناساها، ويرغب أنه لم يقترفها، ويوم القيامة يود لو كان بينه وبينها أمدٌ بعيد.
ترى هذه الأعمالَ والحركاتِ والرصيدَ المتجمع خلال عام أليس جديرا بالمحاسبة والتذكر؟ والمحاسبةُ النافعةُ هي التي تقود صاحبها إلى عمل الخير المستمر الدائم، وقَصْرِ النفسِ قدر المستطاع عن عمل السوء، ومن أقوال الحكمة: "شيئان إذا عملت بهما أصبتَ خير الدنيا والآخرة: تعملُ ما تكره إذا أحبَه اللهُ، وتتركُ ما تحبُ إذا كرهه الله". وقال العارفون: "ما أحببتَ أن يكونَ معك في الآخرة فاتركه اليوم، وانظرْ كلَّ عملٍ كرهتَ الموتِ من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت!".
كم تلهينا الدنيا وهي متاع الغرور، فتمر الأيامُ والأعوامُ سراعا بلا تفكير، وكم تفتِنُنُا بزينتها، ومتاعُها في الآخرة قليل، وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون، وكلُّ نفس مصيرُها إلى الموت والفناء، ولكنَّ المهم ما بعد ذلك: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُور]، وكم ننخدع بوساوس الشيطان، وقد عصيناه فما ضرنا، وأطعناه فما نفعنا، ويوم القيامة يتبرأ ممن اتبعه ويقول حين يقضى الأمر: [إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
بمن تقتدي في هذه الحياة؟ وما نوع الخليل الذي تتخذه لك صديقا، والله-سبحانه-يقول: [الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ]، ويقول-صلى الله عليه وآله وسلم-: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". هل تفكر-بجد-في الموت وما بعده؟
أحبابي الكرام: كم نتساهل بالذنوب وهي مهلكاتٌ تُفّوِتُ على الإنسان السعادةَ، فَتَحْجِبُه عن معرفة ربه في الدنيا، وعن تقريبه في الآخرة: [إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ]، ومصيبة حين تتراكم علينا الذنوب ونحن لا نشعر، فيكون الران على القلوب [كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ*كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ*ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ]، ورحم الله سلفنا الصالح كانت ذنوبهم قليلة، وحياتهم عبادةً وخشوعا وزهدا وورعا، ومع ذلك يقول أحدهم تورعا وتواضعا وخشية: "لو كان للذنوب ريح ما جلس إليَّ أحد" هكذا كان يقول محمد بن واسع الأزدي-رحمه الله-، الذي قال عنه سليمان التيمي-رحمه الله-: "ما أحدٌ أُحبُ أن ألقى اللهَ بمثلِ صحيفته مثلَ محمد بن واسع".
يا أخي الحبيب: كم في صحائفك الماضية من توبة واستغفار، والله يقول: [وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ]، ويقول: [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى]. وفي الأثر: "طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا".
وهذا سيد البشر المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر-صلى الله عليه وآله وسلم-يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة".
أيها الكرام: ما أجمل الأعمار تختم بالتوبة والاستغفار، اِختمْ كلَّ عمل، وكلَّ مجلس، وكلَّ خطإٍ أو ذنب بالتوبة والاستغفار، وما يَزالُ الله يعفو ما دمتَ تندم وتتوب وتستغفر، فإن نسيت التوبة أو فاتك الاستغفار في شيء من أيام العام، فلا يفوتنك ذلك في نهاية العام، فالأعمال بالخواتيم، وصحائف العام لم تطو بعد، فأشهد ربك على توبتك، ولا تصر على صغيرة، أو تحقرن من الذنوب شيئا، وإن داخلك الشيطان بتعاظم ذنبك وعدم مغفرة ربك، فاعلم أن رحمة الله وسعت كل شيء، والله يغفر الذنوب جميعا.
الله-عز وجل-كريم يحب عبده إذا اقترب منه، ويمحو عنه زلاته، قال الله-عز وجل-في الحديث القدسي: "من عمل حسنةً فله عشرُ أمثالِها أو أَزيدُ، ومن عمل سيئةً فجزاؤُه مثلُها، أو أَغفرُ، ومن عمل قُراب الأرضِ خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلتُ له مثلَها مغفرة، ومن اقترب إليَّ شبرا اقتربت إليه ذراعًا، ومن اقترب إليَّ ذراعا اقتربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"، [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ].
الخطبة الثانية
تذكروا أن عاما بأكمله سَيُجرِي اللهُ فيه من الأحداث ما يُجري ويقدرُ ما يشاء، فاسألوه من خير هذا العام، واستعيذوا به من شروره وفتنه، فلا يرد القضاءَ إلا الدعاءُ، كم من فتنة حصلت؟ وكم من أمراض ومصائب وشرور حدثت في العام المنصرم؟ فإذا سلمكم الله منها فيما مضى فاسألوه أن يحفظكم منها، ويعيذكم من شرورها فيما تستقبلون من عامكم الجديد.
استقبلوا العام الجديد بعدد من التساؤلات والنقاط تحددون بها مساركم، وتقيمون فيها بعدكم أو قربكم من الخير، كيف علاقتُك مع الله؟ كيف علاقتُك مع الخلق؟ كيف أنت في العبادات؟ وكيف أنت في المعاملات؟ ما هي الخطيئةُ أو الخطايا التي لازمتك في عامك المنصرم، وتنوي الخلاصَ منها في عامك الجديد؟ ما في الفضيلة أو الفضائل التي فاتتك في عامك الماضي، وتفكر جادا ألا تفوتك في العام المقبل؟ كيف أنت وفتنُ الأهواءِ والشهواتِ والشبهاتِ والفضائياتِ؟ ما قيمةُ الوقت عندك؟ وبماذا تستثمره؟ طاقاتك كيف تصرف؟ قدراتك بماذا تستثمر؟ هل تتحرى الحكمة في قولك وفعلك؟ ما مدى قيامك بواجبك الوظيفي، وعلى أي نحو تؤدي الأمانة التي اؤتمنت عليها في أي موقع كنت؟ حاسب نفسك في نوع مطعمك ومشربك، وملبسك، وماذا تسمع وتبصر؟ وبم تنطق؟ وماذا تخفي في صدرك؟ [إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً].
راجع نفسك في أداء الفرائض، وكم قدر الاحتياطي عندك في السنن؟ فهُنَّ مكملاتٌ لنقص الفرائض، مسدداتٌ للخلل، رافعاتٌ للدرجات، مكفراتٌ للسيئات، ما نصيبُك من ذكر الله؟ كيف صلتُك بكتاب الله؟ كيف أنت والنفقاتِ الواجبةِ والمستحبةِ؟
أحبتي: هذه وأمثالُها مراجعاتٌ يَحْسُنُ بالمرء أن يراجعَ نفسه ويسألَها عنها على الدوام، وهي جديرة بالمحاسبة مع انصراف عام وبدء عام، وإذا أخرجت لنفسك ميزانية في آخر العام عرفت قدر المكاسب فيها والخسارات، وإذا علمتَ ذلك سددتَ وقاربتَ قدر الإمكان، وتلك الميزانيةُ والمحاسبةُ، وربي، أولى من غيرها في موازين الدنيا ومحاسباتها، والغفلة تورث الهلكة، وما أعظمَ الحسرةَ حين يَرِدُ الناسُ-يوم القيامة-بحسنات كالجبال، و يَرِدُ المفرطون الغافلون بالخيبة والخسران، يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون.
عباد الله: نهاية عام وبدء عام مذكرة بسرعة الأيام وانقضاء الأعمار، فإذا كانت الساعة تشكل قدْرا في أجل الإنسان، فكيف مما يزيد على ثمانيةِ آلافٍ وخمسِ مئةِ ساعةٍ في السنة، والله-جل شأنه-يقول: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ].
يا أيها المبارك: وبين عامٍ ماضٍ وعامٍ قادمٍ عبرٌ تُوقظ الضمير الغافي، كم حدث في العام الماضي من عللٍ وأسقامٍ، وفتنٍ وهمومٍ، وفقرٍ وحروبٍ، وأمواتٍ رحلت، ودماءٍ أزهقت، وأطفالٍ يُتمت، ونساءٍ تأيمت، فإذا سلمك الله من هذا كلِّه فاحمدِ اللهَ واشكرْه، واعلم أن ما تخطاك لغيرك سيتخطى غيرك إليك، فكن مستعدا للقاء ربك، مغتنما شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، والكيس العاقل من دان نفسه وحاسبها وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلم: ومما يفيدك في المحاسبة أن تنظرَ في أمور دينك إلى من فوقك، فذلك أدعى لرفع همتك، وتنظرَ في أمور دنياك إلى من هو دونك، حتى لا تحتقرَ نعمة الله عليك.
إخوة الإسلام: نهاية العام فرصة للتأمل في المتغيرات التي تحصل في المجتمعات فما موقع المسلمين في خارطة العالم، وما نوع القوى التي تحظى بالنفوذ والسيطرة؟ إلى أين يسير الشباب؟ وماذا يراد للمرأة المسلمة؟ وماذا تصنع القنوات وشبكة الإنترنت ووسائل الاتصال؟ وكم عدد ضحايا الخمور والمخدرات؟ وكيف الطريق لتصحيح المسار، والوقاية خير من العلاج، [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]،[فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ*وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ].
[/align]
المرفقات
كيف نودع عاماً وبم نستقبل آخر-30-12-1435هـ-سليمان العودة-الملتقى-بتصرف.doc
كيف نودع عاماً وبم نستقبل آخر-30-12-1435هـ-سليمان العودة-الملتقى-بتصرف.doc
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
بورك فيك وجزيت خيرا الأخ الناشر الذي رمز لاسمه محب لأمة الإسلام.
والشكر لكل المشاركين والمعلقين وكل الزائرين.
تعديل التعليق