كيف نودع شهر رمضان المبارك
أبو عبد الله الأنصاري
1433/09/29 - 2012/08/17 04:27AM
[align=justify]معاشر المسلمين : أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فتقوى الله أكرم ما أسررتم ، وأجمل وأفضل ما ادخرتم ،أعاننا الله على لزومها وأوجب لنا ثوابها .
أيها المسلمون : هذه أيام شهركم تتقلص ، ولياليه الشريفة تتقضى ،تتقلص وتتقضى شاهدة عليكم بما عملتم ، وحافظة لما أودعتم ، هي لأعمالكم خزائن محصنة ، ومستودعات محفوظة ، تُدعون بها يوم القيامة { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بنها وبينه أمداً بعيداً } يناديكم ربكم (( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) كما روى مسلم من حديث أبي ذر .
ها هي صفحات الأيام تطوى ، وساعات الزمن تقضى ، بالأمس القريب استقبلنا حبيباً واليوم نودعه ، قبل أيام أهل هلال رمضان فكان فرحة ومسرة للطائعين ، واليوم تصرمت أيامه ولياليه فكان وداعه حزناً للعابدين وأسفاً للصائمين والقائمين والتالين الذين جدد رمضان فيهم حقيقة العبودية ، وأحيى فيهم معاني الطاعة لصاحب الألوهية .
هذا شهركم ، وهذه هي نهاياته ،كم من منتظر له لم يدركه ، وكم من مستقبل له لم يستكمله ، وكم من مؤمل أن يدركه في عام قادم وقد كتب الله في غيبه أن هذا آخر رمضان يأتي عليه .
أيها الصائمون : إن كان في النفوس زاجر ، وإن كان في القلوب واعظ ، فقد بقيت من ساعات الشهر بقية ، بقية وأي بقية ، فرصة للتائبين ، وفسحة للمتذكرين ، إنها أيام الوداع لشهر رمضان المبارك.
في مثل هذه الليالي كان صلى الله عليه وسلم يطرق باب بنته فاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما فيقول : ألا تقومان فتصليان ، وهو يتلو ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ) ويتجه لحجرات نسائه قائلاً ( أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة ) كما في البخاري .
التجار من تاجروا مع الله ، والعقلاء من عقلوا عن الله ، والرجال قو م لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
أخي المسلم : لا تقل إنك تحسن الظن بربك !! فإحسان الظن بغير عمل ولا طاعة غرور ، وإحسان الظن بغير توبة ولا قربة تمني ، والله يقول : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ) ، الخوف من الله تعالى ليس بالبكاء ومسح الدموع ، ولكن الخوف من الله تعالى ما حجزك عن معصيته ، وردك عن محارمه .
أرأيتم - أيها الإخوة - إلى هذا الموفق الذي أدركه حظه من الدعاء ، ونال نصيبه من التضرع ، أدرك شرف الزمان ، وانفتاح أبواب الرحمة والعفو والغفران ، فأخذ على نفسه أن يتعرض لنفحات ربه المنان ، وعطايا ومنح الرحيم بعباده الرحمن ، عظم في الله تعالى الرجاء وألح على الله تعالى بالدعاء عالماً مستيقناً أن الله تعالى يسمع مناجاته ويصغي لأحرفه وكلماته يقبل توبة التائبين ويغفر ذنوب المسيئين ويسمع دعاء الضارعين بل ويستحي من عبده إذا رفع له يديه بالدعاء أن يردهما صفراً ، علم أن له رباً يغفر الذنب ويعفو عن السيئات فلجأ إليه وتاب ، وغسل بدموع التوبة قذر الذنوب من نفسه وأناب ،فماذا ترون الله تعالى فاعل بمثل هذا وهو الذي نادى عباده المسرفين على أنفسهم بالخطايا فقال : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) .
ثم أين هذا - أيها الإخوة - من محروم مخذول ، لم يذق حلاوة المناجاة ، ولم يعرف لذة التعبد ، يستنكف عن الذل لربه ، ويستكبر عن دعاء مولاه ،كأنه قد استغنى عن الله تعالى فليست له إلى الله حاجة ، وليس له عند رب مطلب ، محروم والله محروم ، قد سد على نفسه باب الرحمة والتوفيق ، واكتسى بحجب الغفلة والإعراض فمتى يفيق .عاملنا الله جميعاً بعفوه .
أيها الصائمون: أيامكم هذه من أعظم الأيام فضلاً ، وأوفرها أجراً ، تصفو فيها لذيذ المناجاة ، وتسكب فيها غزير العبرات ، كم لله فيها من عتيق من النار ، وكم فيها من تائب فاز برحمة العزيز الغفار .
المغبون فيها من انصرف عن طاعة الله ، والمحروم من حرم من رحمة الله ، والمأسوف عليه من فاتت عليه فرصة الشهر ، وضاعت عليه غنائم العشر ، وخاب رجاؤه في ليلة القدر ، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة ، ولم تذرف عينه بدمعة ، ولم يخشع قلبه لله لحظة ، ويحه ثم ويحه ، أدرك شهر رمضان المبارك كله ألم يظفر بمغفرة ؟ ألم ينل رحمة ؟ يا بؤسه ألم تقل له عثرة ؟ساءت خليقته ، وأحاطت به خطيئته ،ألم يبق للصلاح في نفسه موضع ؟ ولا لحب الخير في قلبه منزع ؟ أطال الرقاد حين قام الناس ،هذا والله غاية الإفلاس والإبلاس .أمر بالصلاة فضيعها ، ووجب عليه الصيام فتلاعب به ، ما أقبل حين دعي للإقبال ولا أقصر حين دعي للإقصار .
معاشر الصائمين : إن نزع حلاوة المناجاة من القلب هي أشد ألون الإبعاد والحرمان ، ألم يستعذ نبينا صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعاء لا يسمع ؟.
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعجون إلى ربهم بالدعاء ، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا باباً واحداً هو باب السماء ، باب مفتوح لا يغلق أبداً ، إنه باب الكريم الرحيم الذي لا يرد داعيا ، ولا يخيب راجياً فهو أمان الخائفين وغياث المستغيثين وملجأ التائبين .
أيها الطامعون في أعطيات الله تعالى : هذا شهر رمضان الكريم يستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ، يستودعكم الله تعالى دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم ، ويستودعكم ما كنتم عليه من خير وطاعة في أيامه ولياليه يستودعكم الصيام والقيام والدعاء والتلاوة ويناشدكم الله تعالى : ألا ترتدوا على أعقابكم وأدباركم بعد إذ هداكم الله ، وبعد إذ كنتم فيه على خير أحوالكم ، وهذه أواخر الشهر تودعكم أيضاً وقد انفرط عقدها وتناقص عددها فلا ندري يا ترى من الموفق فيها ومن المخذول ومن المقبول ومن المطرود ومن الفائز بمغفرة الله سبحانه ومن المحروم الذي خرج من رمضان كما دخل فيه فأبعده الله نعوذ بعزة الله تعالى أن نكون منهم .
هاهنا يرد السؤال المهم أيها الأخوة : كيف نودع شهر رمضان المبارك ،وبماذا نودعه ، إن عليك أخي الصائم أن تودع شهر رمضان المبارك ولياليه العامرات بجملة من الأمور :
منها أن تجدد التوبة مع الله تعالى بصدق ، التوبة النصوح الصادقة ، من ذنوب ركبتها ومآثم كسبتها ، انتصرت عليك فيها نفسك الأمارة بالسوء ، والشيطان الذي يأمر بالفحشاء والمنكر ،والفتن التي تعرض على قلبك كعرض الحصير عوداً عوداً ، فضعفت أمام الذنب ووقعت فيما يغضب الرب ، وليس لك بغضب الله من طاقة ؟ ولا لسخطه عليك من احتمال ؟ إن الذي يطهرك من قذر ذنبك وأذى خطيئتك هو توبة خالصة يُنَقِّيْكَ الله تعالى بها من ذنوبك كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ،بل ويبدل الله تعالى بها سيئاتك حسنات ، توبة تفتح لك مع الله تعالى صفحة جديدة في ختام هذا الشهر والعشر ، فيا حسن ما استودعت به شهرك وختمت به عشرك تقبل الله منا ومنك .وليس بعيداً عنك ما أخبرنا به الهادي صلى الله عليه وسلم من فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح الموشك على الهلاك يجد طعم النجاة .
ومما تودع به الشهر الكريم : أن تعقد النية والعزم على أن تداوم وتحافظ على ما وفقك الله له من أعمال الخير والبر والطاعة ، فقد وفقت في هذا الشهر للصيام أفتكون آخر ليلة من رمضان هي آخر عهدك بالصيام ؟ وقد وفقت في هذا الشهر للقيام أفتكون آخر ليلة من رمضان هي آخر عهدك بالقيام ؟ وقد جددت في رمضان صلتك بكتاب الله تعالى أفتعود بعده للهجر بعد الوصال ؟ وقد هديت إلى أنواع من الصالحات والقربات أفيطيب لك أن تنقض بعد رمضان غزلك ، وتنكث مع الله عهدك ، والله يقول : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ) .وأنت تعلم أن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومهـا وإن قل، وقد حدثت عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كان إذا عمل عملاً أثبته) رواه مسلم. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : ( أبى قوم المداومة ، والله ما المؤمن بالذي يعمل شهراً أو شهرين أو عاماً أو عامين ، لا والله ما جعل لعمل المؤمن أجل دون الموت ) .
يا من عمرت بصلاة الفجر بيوت الله طيلة أيام رمضان هل سيكون آخر يوم منه هو آخر عهدك بهذه الفريضة ؟ لتعود لتركها ؟ والتخلق بأخلاق المنافقين المتثاقلين عنها ؟ إن المطلوب منك - أخي الصائم – هو أن تجعل هذه المواسم محطات للتزود من التقوى ، ثم تسير بهذا الزاد من محطة إلى أخرى، لا أن تجـعـــل طاعة الله في هذه المواسم ، فمتى مضت مضت طاعتك معها!. إن رمضان وهو يودعك يستودعك هديك الذي كنت عليه في أيامه ولياليه فاحفظ وديعته عندك ،وكن أميناً كما عهدك .
الخطبة الثانية
معاشر المسلمين : في شريعة الإسلام تجيء الأعياد ومناسبات الفرح والسرور عقب العبادات والطاعات فعيد الفطر المبارك يأتي عقب أداء المسلمين لعبادة الصيام المفروضة ، وعيد الأضحى المبارك يأتي عقب عبادة الحج المفروضة ، وما ذاك إلا لتكون تلك الأعياد مناسبة لشكر الله على ما أنعم به من الطاعة ووفق له من العبادة . فالحمد لله الذي هدى أمة الإسلام سبيلها ، وألهمها رشدها ، وخصها بفضل لم يكن لمن قبلها ، أطلق بصرك لترى هذه الأمة المرحومة مع إشراقة يوم العيد تتعبد لله تعالى بالفطر كما تعبدته من قبل بالصيام .
إن يوم العيد يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته ، وخلصت لله نيته ، وإن مما يندى له الجبين - أيها الإخوة - ما يقع فيه كثير من الناس من أشكال المعاصي والمحرمات في أيام العيد من تضييع للصلوات واستهانة بالجمع والجماعات إلى لهو وغناء محرم ،إلى مصافحة لغير المحارم من النساء كبنات العم والخال ،إلى نظر إلى ما حرم الله تعالى من الأفلام والقنوات ،أمور لا ترضي الله تعالى ولا توافق شرعة رسوله ، هؤلاء خرجوا من مدرسة رمضان الإيمانية بكل ما فيها من صيام وقيام وتلاوة . فأين يا ترى أثر هذه العبادات على أخلاقهم وهديهم ؟ وأين ما كانوا عليه في أيامه ولياليه ؟ ما أسرع ما خلعوا عنهم لبوس الطاعة واستبدلوا به لبوس العصيان .
أخي المسلم : إليك وقفات سريعة موجزة مع مع آداب العيد وأحكامه :
أولاً : احمد الله تعالى أن أتم عليك نعمته بما وفقك له من نعمة الصيام والقيام ، وأكثر من الدعاء أن يتقبل الله تعالى منك عملك ، وأن يتجاوز عنك ويغفر زللك .
ثانياً : يشرع لك التكبير من غروب يوم الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد ، قال الله تعالى : ( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ). وصفة التكبير أن يقول : ( الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ، ولله الحمد ) .
وهو سنة للرجال والنساء ،ويسن جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت إعلاناً بتعظيم الله تعالى ، وإظهاراً لشكره وذكره .
ثالثاُ : زكاة الفطر ، فقد شرع الله تعالى في نهاية هذا الشهر وختامه ، زكاة الفطر ، وهي طهرة للصائم ، من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، ولا يجوز في أصح قولي العلماء إخراجها مالاً لأن ذلك مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بل تكون صاعاً من طعام الآدميين من أهل البلد من رز أو بر أو تمر أو نحوه، وتخرج عن الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، من المسلمين ، ويسن إخراجها عن الجنين في بطن أمه ، والصاع ما يعادل ( كيلوين وأربعين غراماً )) ، وأفضل وقت لإخراجها هو قبل صلاة العيد ، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين ، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد ،ويجب تحري المساكين لدفعها إليهم .
رابعاً : تجهز لعيدك بالاغتسال والتطيب ، ولبس أحسن الثياب ، بدون إسراف ولا مخيلة ، ولا يجوز للمسلم أن يتجمل ليوم العيد بإسبال ثوبه وحلق لحيته فإن ذلك مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفائها .
خامساً : يسن للمسلم أن يأكل تمرات وتراً ، قبل الذهاب إلى المصلى لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لذك ، وتأكيداً لفطره في يوم عيد الفطر الذي يحرم على المسلم صيامه .
سادساً : أدِّ صلاة العيد مع المسلمين وحضور خطبة العيد ، والذي رجحه جمع من المحققين من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره : أن صلاة العيد ليست سنة مستحبة فقط بل هي واجبة على كل مسلم ومن العلماء من يوجبها على النساء لحديث أم عطية -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض في العيد ، فأما الحيض فكن يعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، رواه البخاري ومسلم.
سابعاً : لا بأس بالتهنئة يوم العيد كقول المسلم لأخيه : ( تقبل الله منا ومنك ) أو نحو ذلك من عبارات التهنئة التي يهنئ المسلون بها بعضهم على ما أنعم عليهم من نعمة العيد بعد الصيام .
معاشر الصائمين : أيام العيد ليست أيام لهوٍ وغفلة ، بل هي أيام عبادة وشكر ، ولله في كل وقت عبادة هي عبادة ذلك الوقت ، فمن عبادات العيد التي يحبها الله تعالى ويرضاها صلة الأرحام ،وزيارة الأقارب ، وترك التباغض والتحاسد ، والعطف على المساكين ، ومواساة الأرامل والأيتام ، وإدخال السرور على المحتاج والفقير .[/align]
أيها المسلمون : هذه أيام شهركم تتقلص ، ولياليه الشريفة تتقضى ،تتقلص وتتقضى شاهدة عليكم بما عملتم ، وحافظة لما أودعتم ، هي لأعمالكم خزائن محصنة ، ومستودعات محفوظة ، تُدعون بها يوم القيامة { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بنها وبينه أمداً بعيداً } يناديكم ربكم (( يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه )) كما روى مسلم من حديث أبي ذر .
ها هي صفحات الأيام تطوى ، وساعات الزمن تقضى ، بالأمس القريب استقبلنا حبيباً واليوم نودعه ، قبل أيام أهل هلال رمضان فكان فرحة ومسرة للطائعين ، واليوم تصرمت أيامه ولياليه فكان وداعه حزناً للعابدين وأسفاً للصائمين والقائمين والتالين الذين جدد رمضان فيهم حقيقة العبودية ، وأحيى فيهم معاني الطاعة لصاحب الألوهية .
هذا شهركم ، وهذه هي نهاياته ،كم من منتظر له لم يدركه ، وكم من مستقبل له لم يستكمله ، وكم من مؤمل أن يدركه في عام قادم وقد كتب الله في غيبه أن هذا آخر رمضان يأتي عليه .
أيها الصائمون : إن كان في النفوس زاجر ، وإن كان في القلوب واعظ ، فقد بقيت من ساعات الشهر بقية ، بقية وأي بقية ، فرصة للتائبين ، وفسحة للمتذكرين ، إنها أيام الوداع لشهر رمضان المبارك.
في مثل هذه الليالي كان صلى الله عليه وسلم يطرق باب بنته فاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما فيقول : ألا تقومان فتصليان ، وهو يتلو ( وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى ) ويتجه لحجرات نسائه قائلاً ( أيقظوا صواحب الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة ) كما في البخاري .
التجار من تاجروا مع الله ، والعقلاء من عقلوا عن الله ، والرجال قو م لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
أخي المسلم : لا تقل إنك تحسن الظن بربك !! فإحسان الظن بغير عمل ولا طاعة غرور ، وإحسان الظن بغير توبة ولا قربة تمني ، والله يقول : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ) ، الخوف من الله تعالى ليس بالبكاء ومسح الدموع ، ولكن الخوف من الله تعالى ما حجزك عن معصيته ، وردك عن محارمه .
أرأيتم - أيها الإخوة - إلى هذا الموفق الذي أدركه حظه من الدعاء ، ونال نصيبه من التضرع ، أدرك شرف الزمان ، وانفتاح أبواب الرحمة والعفو والغفران ، فأخذ على نفسه أن يتعرض لنفحات ربه المنان ، وعطايا ومنح الرحيم بعباده الرحمن ، عظم في الله تعالى الرجاء وألح على الله تعالى بالدعاء عالماً مستيقناً أن الله تعالى يسمع مناجاته ويصغي لأحرفه وكلماته يقبل توبة التائبين ويغفر ذنوب المسيئين ويسمع دعاء الضارعين بل ويستحي من عبده إذا رفع له يديه بالدعاء أن يردهما صفراً ، علم أن له رباً يغفر الذنب ويعفو عن السيئات فلجأ إليه وتاب ، وغسل بدموع التوبة قذر الذنوب من نفسه وأناب ،فماذا ترون الله تعالى فاعل بمثل هذا وهو الذي نادى عباده المسرفين على أنفسهم بالخطايا فقال : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) .
ثم أين هذا - أيها الإخوة - من محروم مخذول ، لم يذق حلاوة المناجاة ، ولم يعرف لذة التعبد ، يستنكف عن الذل لربه ، ويستكبر عن دعاء مولاه ،كأنه قد استغنى عن الله تعالى فليست له إلى الله حاجة ، وليس له عند رب مطلب ، محروم والله محروم ، قد سد على نفسه باب الرحمة والتوفيق ، واكتسى بحجب الغفلة والإعراض فمتى يفيق .عاملنا الله جميعاً بعفوه .
أيها الصائمون: أيامكم هذه من أعظم الأيام فضلاً ، وأوفرها أجراً ، تصفو فيها لذيذ المناجاة ، وتسكب فيها غزير العبرات ، كم لله فيها من عتيق من النار ، وكم فيها من تائب فاز برحمة العزيز الغفار .
المغبون فيها من انصرف عن طاعة الله ، والمحروم من حرم من رحمة الله ، والمأسوف عليه من فاتت عليه فرصة الشهر ، وضاعت عليه غنائم العشر ، وخاب رجاؤه في ليلة القدر ، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة ، ولم تذرف عينه بدمعة ، ولم يخشع قلبه لله لحظة ، ويحه ثم ويحه ، أدرك شهر رمضان المبارك كله ألم يظفر بمغفرة ؟ ألم ينل رحمة ؟ يا بؤسه ألم تقل له عثرة ؟ساءت خليقته ، وأحاطت به خطيئته ،ألم يبق للصلاح في نفسه موضع ؟ ولا لحب الخير في قلبه منزع ؟ أطال الرقاد حين قام الناس ،هذا والله غاية الإفلاس والإبلاس .أمر بالصلاة فضيعها ، ووجب عليه الصيام فتلاعب به ، ما أقبل حين دعي للإقبال ولا أقصر حين دعي للإقصار .
معاشر الصائمين : إن نزع حلاوة المناجاة من القلب هي أشد ألون الإبعاد والحرمان ، ألم يستعذ نبينا صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن دعاء لا يسمع ؟.
إن أهل الدعاء الموفقين حين يعجون إلى ربهم بالدعاء ، يعلمون أن جميع الأبواب قد توصد في وجوههم إلا باباً واحداً هو باب السماء ، باب مفتوح لا يغلق أبداً ، إنه باب الكريم الرحيم الذي لا يرد داعيا ، ولا يخيب راجياً فهو أمان الخائفين وغياث المستغيثين وملجأ التائبين .
أيها الطامعون في أعطيات الله تعالى : هذا شهر رمضان الكريم يستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه ، يستودعكم الله تعالى دينكم وأماناتكم وخواتيم أعمالكم ، ويستودعكم ما كنتم عليه من خير وطاعة في أيامه ولياليه يستودعكم الصيام والقيام والدعاء والتلاوة ويناشدكم الله تعالى : ألا ترتدوا على أعقابكم وأدباركم بعد إذ هداكم الله ، وبعد إذ كنتم فيه على خير أحوالكم ، وهذه أواخر الشهر تودعكم أيضاً وقد انفرط عقدها وتناقص عددها فلا ندري يا ترى من الموفق فيها ومن المخذول ومن المقبول ومن المطرود ومن الفائز بمغفرة الله سبحانه ومن المحروم الذي خرج من رمضان كما دخل فيه فأبعده الله نعوذ بعزة الله تعالى أن نكون منهم .
هاهنا يرد السؤال المهم أيها الأخوة : كيف نودع شهر رمضان المبارك ،وبماذا نودعه ، إن عليك أخي الصائم أن تودع شهر رمضان المبارك ولياليه العامرات بجملة من الأمور :
منها أن تجدد التوبة مع الله تعالى بصدق ، التوبة النصوح الصادقة ، من ذنوب ركبتها ومآثم كسبتها ، انتصرت عليك فيها نفسك الأمارة بالسوء ، والشيطان الذي يأمر بالفحشاء والمنكر ،والفتن التي تعرض على قلبك كعرض الحصير عوداً عوداً ، فضعفت أمام الذنب ووقعت فيما يغضب الرب ، وليس لك بغضب الله من طاقة ؟ ولا لسخطه عليك من احتمال ؟ إن الذي يطهرك من قذر ذنبك وأذى خطيئتك هو توبة خالصة يُنَقِّيْكَ الله تعالى بها من ذنوبك كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ،بل ويبدل الله تعالى بها سيئاتك حسنات ، توبة تفتح لك مع الله تعالى صفحة جديدة في ختام هذا الشهر والعشر ، فيا حسن ما استودعت به شهرك وختمت به عشرك تقبل الله منا ومنك .وليس بعيداً عنك ما أخبرنا به الهادي صلى الله عليه وسلم من فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح الموشك على الهلاك يجد طعم النجاة .
ومما تودع به الشهر الكريم : أن تعقد النية والعزم على أن تداوم وتحافظ على ما وفقك الله له من أعمال الخير والبر والطاعة ، فقد وفقت في هذا الشهر للصيام أفتكون آخر ليلة من رمضان هي آخر عهدك بالصيام ؟ وقد وفقت في هذا الشهر للقيام أفتكون آخر ليلة من رمضان هي آخر عهدك بالقيام ؟ وقد جددت في رمضان صلتك بكتاب الله تعالى أفتعود بعده للهجر بعد الوصال ؟ وقد هديت إلى أنواع من الصالحات والقربات أفيطيب لك أن تنقض بعد رمضان غزلك ، وتنكث مع الله عهدك ، والله يقول : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ) .وأنت تعلم أن أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومهـا وإن قل، وقد حدثت عائشة (رضي الله عنها) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كان إذا عمل عملاً أثبته) رواه مسلم. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى : ( أبى قوم المداومة ، والله ما المؤمن بالذي يعمل شهراً أو شهرين أو عاماً أو عامين ، لا والله ما جعل لعمل المؤمن أجل دون الموت ) .
يا من عمرت بصلاة الفجر بيوت الله طيلة أيام رمضان هل سيكون آخر يوم منه هو آخر عهدك بهذه الفريضة ؟ لتعود لتركها ؟ والتخلق بأخلاق المنافقين المتثاقلين عنها ؟ إن المطلوب منك - أخي الصائم – هو أن تجعل هذه المواسم محطات للتزود من التقوى ، ثم تسير بهذا الزاد من محطة إلى أخرى، لا أن تجـعـــل طاعة الله في هذه المواسم ، فمتى مضت مضت طاعتك معها!. إن رمضان وهو يودعك يستودعك هديك الذي كنت عليه في أيامه ولياليه فاحفظ وديعته عندك ،وكن أميناً كما عهدك .
الخطبة الثانية
معاشر المسلمين : في شريعة الإسلام تجيء الأعياد ومناسبات الفرح والسرور عقب العبادات والطاعات فعيد الفطر المبارك يأتي عقب أداء المسلمين لعبادة الصيام المفروضة ، وعيد الأضحى المبارك يأتي عقب عبادة الحج المفروضة ، وما ذاك إلا لتكون تلك الأعياد مناسبة لشكر الله على ما أنعم به من الطاعة ووفق له من العبادة . فالحمد لله الذي هدى أمة الإسلام سبيلها ، وألهمها رشدها ، وخصها بفضل لم يكن لمن قبلها ، أطلق بصرك لترى هذه الأمة المرحومة مع إشراقة يوم العيد تتعبد لله تعالى بالفطر كما تعبدته من قبل بالصيام .
إن يوم العيد يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته ، وخلصت لله نيته ، وإن مما يندى له الجبين - أيها الإخوة - ما يقع فيه كثير من الناس من أشكال المعاصي والمحرمات في أيام العيد من تضييع للصلوات واستهانة بالجمع والجماعات إلى لهو وغناء محرم ،إلى مصافحة لغير المحارم من النساء كبنات العم والخال ،إلى نظر إلى ما حرم الله تعالى من الأفلام والقنوات ،أمور لا ترضي الله تعالى ولا توافق شرعة رسوله ، هؤلاء خرجوا من مدرسة رمضان الإيمانية بكل ما فيها من صيام وقيام وتلاوة . فأين يا ترى أثر هذه العبادات على أخلاقهم وهديهم ؟ وأين ما كانوا عليه في أيامه ولياليه ؟ ما أسرع ما خلعوا عنهم لبوس الطاعة واستبدلوا به لبوس العصيان .
أخي المسلم : إليك وقفات سريعة موجزة مع مع آداب العيد وأحكامه :
أولاً : احمد الله تعالى أن أتم عليك نعمته بما وفقك له من نعمة الصيام والقيام ، وأكثر من الدعاء أن يتقبل الله تعالى منك عملك ، وأن يتجاوز عنك ويغفر زللك .
ثانياً : يشرع لك التكبير من غروب يوم الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد ، قال الله تعالى : ( ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون ). وصفة التكبير أن يقول : ( الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ، ولله الحمد ) .
وهو سنة للرجال والنساء ،ويسن جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت إعلاناً بتعظيم الله تعالى ، وإظهاراً لشكره وذكره .
ثالثاُ : زكاة الفطر ، فقد شرع الله تعالى في نهاية هذا الشهر وختامه ، زكاة الفطر ، وهي طهرة للصائم ، من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، ولا يجوز في أصح قولي العلماء إخراجها مالاً لأن ذلك مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بل تكون صاعاً من طعام الآدميين من أهل البلد من رز أو بر أو تمر أو نحوه، وتخرج عن الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، من المسلمين ، ويسن إخراجها عن الجنين في بطن أمه ، والصاع ما يعادل ( كيلوين وأربعين غراماً )) ، وأفضل وقت لإخراجها هو قبل صلاة العيد ، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين ، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد ،ويجب تحري المساكين لدفعها إليهم .
رابعاً : تجهز لعيدك بالاغتسال والتطيب ، ولبس أحسن الثياب ، بدون إسراف ولا مخيلة ، ولا يجوز للمسلم أن يتجمل ليوم العيد بإسبال ثوبه وحلق لحيته فإن ذلك مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفائها .
خامساً : يسن للمسلم أن يأكل تمرات وتراً ، قبل الذهاب إلى المصلى لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لذك ، وتأكيداً لفطره في يوم عيد الفطر الذي يحرم على المسلم صيامه .
سادساً : أدِّ صلاة العيد مع المسلمين وحضور خطبة العيد ، والذي رجحه جمع من المحققين من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره : أن صلاة العيد ليست سنة مستحبة فقط بل هي واجبة على كل مسلم ومن العلماء من يوجبها على النساء لحديث أم عطية -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض في العيد ، فأما الحيض فكن يعتزلن المصلى ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، رواه البخاري ومسلم.
سابعاً : لا بأس بالتهنئة يوم العيد كقول المسلم لأخيه : ( تقبل الله منا ومنك ) أو نحو ذلك من عبارات التهنئة التي يهنئ المسلون بها بعضهم على ما أنعم عليهم من نعمة العيد بعد الصيام .
معاشر الصائمين : أيام العيد ليست أيام لهوٍ وغفلة ، بل هي أيام عبادة وشكر ، ولله في كل وقت عبادة هي عبادة ذلك الوقت ، فمن عبادات العيد التي يحبها الله تعالى ويرضاها صلة الأرحام ،وزيارة الأقارب ، وترك التباغض والتحاسد ، والعطف على المساكين ، ومواساة الأرامل والأيتام ، وإدخال السرور على المحتاج والفقير .[/align]
احمد ابوبكر
تعديل التعليق