كيف نحافظ على المداومة على الأعمال الصالحة بعد رمضان :
ضيدان بن عبد الرحمن اليامي
1431/10/21 - 2010/09/30 15:59PM
الخطبة الأولى :
عباد الله :
إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) [النحل53] أجلُّها وأعظمُها الهدايةُ لدين الإسلام ، والتوفيقُ للطاعة ، والإعانةُ على أدائها ، والقيامُ بها .
وإنه ليس شيء أحب إلى المؤمن الصادق من أن يبذل ما يملك ويترك ما يحب ، من أجل نيلِ رضا ربه عنه ، ومغفرةِ ذنوبه ، ومحو زلاته، وإقالةِ عثراته ، فهو يجتهد لله بالطاعة بقلب منيبٍ وجل خائف ، أمله في الله لا ينقطع ، ورجاؤه في رحمة أرحم الراحمين لا يخيب .
عباد الله :
وفي تقلباتِ الدهر وتصرمِ الأيام ، ومضيِ المناسبات ، مواقفٌ للمحاسبة والمساءلة ، وعلى المرء أن يقفَ وقفةَ صدقٍ مع نفسه ووقته ، فكل الناس عند ربهم موقوفون ، وجميعهم بين يديه مسؤولون ، الرسلُ وأممهم مسؤولون ( فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ ) [الأعراف6].
وأهلُ الصدق مسؤولون ( لِيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ) [الأحزاب8]. وذوو النعمة مسؤولون ، وعن النعيم محاسبون ( ثُمَّ لَتُسْـئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ ) [التكاثر:8].
كل الناس يغدو ، فبائع نفسه: فمعتقها أو موبقها .
فالاستمرار على الطاعة والحرص على إتقان العمل ، دليل على توفيق الله للعبد ، فلقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه ، ثم يهتمون بعدويخافون من رده ، وهؤلاء هم المؤمنون الذين قال الله فيهم: ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) [المؤمنون 60 ] « قالت عائشة : يا رسول الله ! هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : لا يا بنت أبي بكر ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف الله عز وجل » رواه الترمذي ، وابن ماجه (1) ، وفي رواية « وهم يخافون ألا يقبل منهم » رواه أحمد في المسند ، والترمذي في سننه (2) ، ولذلك لما قيل لابن عمر - رضي الله عنهما - ، ما أكثر الحاج ، قال : (بل ما أكثر الركب وأقل الحاج ) ، وقال علي - رضي الله عنه - : (كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل ، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (المائدة الآية 27) ) (3) ، وقال أبو الدرداء – رضي الله عنه - : ( لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) [المائدة 27] (4) ، وقال عبد العزيز بن أبي رواد - حاكياً حال السلف رحمهم الله- : " أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم ، أيقبل منهم أم لا ؟ ) (5) ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل ( أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبلُ غيرَها ، ولا يرحمُ إلا بها ، ولا يثيبُ إلا عليها ، فإن الواعظين بها كثير ، والعاملين بها قليل ) (6) .
وإن من الخسارة كذلك ، أن يلوث الصائم ما عاشه فيما مضى من لذة المناجاة ، ونعيم الطاعة ، بالمعاصي والذنوب ، وأن ينقضَ تلك العهود التي قطعها على نفسه ألا يعود إلى الخطأ والزلل مرة أخرى ، وإذا كان فعلُ السيئة قبيحا ، والوقوعُ قي الخطيئة جرما ، فإن ذلك يعظمُ ويقبحُ إذا كان بعد طاعةٍ من أجل الطاعات ، ألا وهي صيامُ شهر الصوم والعبادة والطاعة .
إن الخيرَ كلَّ الخير ، والطُّهرَ كلَّ الطهر، أن يصومَ أحدُنا وترى أثارَ صومهِ عليه ، بلزوم العهد القديم والمسلك القويم ، الذي كان عليه في الصيام ، وليكن خروجنا من هذه الطاعات ، خروجُ الغانمِ الكاسب المغتبط بما وفقه الله لطاعته ولزوم عهده ، فالمؤمنُ الصادقُ لا يخرج من طاعة إلا ويدخل في أخرى ، محياه ومماته لله رب العالمين .
وإن من علامةِ قبولِ الطاعة أن توصلَ بالطاعة بعدها ، وعلامةُ ردها أن توصل بمعصية بعدها – كما ذكر ذلك أهلُ العلم والمعرفة بالله - ، فما أوحشَ ذُلَّ المعصيةِ بعد عز الطاعة ، ولذلك كان الإمام أحمد - رحمه الله – يقول : ( اللهم أعزني بطاعتك ولا تُذلني بمعصيتك ) (7) ، وكان عامةُ دعاءِ إبراهيمَ بنِ أدهم - رحمه الله- : ( اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة ) (8) . وقد تضعف النفس في الاستمرار على العمل الصالح والمداومة عليه ، ولمعالجة هذا الداء لا بد من العزيمة الصادقة على لزومِ العمل والمداومةِ عليه ، أيا كانت الظروفُ والأحوالُ ، وهذا يستلزم نبذَّ العَجْزِ والكسلِ والدَّعةِ والخمول ، وإذا كان الإنسانُ يكره الموتَ الذي فيه انقطاعُ حياتِهِ ، ويكره الهَرَمَ الذي فيه انهيارُ شبابهِ وقوتِه ، ألا يدرك أن هناك أمراً - لربما كان أشدَّ منهما - وهو العَجْزُ والكسل ، وضعفُ الهمةِ والتراخي ، والتسويفُ وركوبُ بحر التمني ، مما يُقعده عن كل عمل صالح ، ويُثبطه عن كل بر وطاعة .
وقد كانت حياةُ السلف - رحمهم الله - معمورةً بطاعة الله حتى يلقوا ربهم ، وأقوالُهم وأحوالهُم في ذلك كثيرة ، قال ميمون بن مهران :
( لا خير في الحياة إلا لتائب ، أو رجلٍ يَعمل في الدرجات، ومن عداهما فخاسر ) ، وقال بعضهم يحكي حالهَم : (كانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس ) (9) ، يريد : أنهم كانوا لا يرضون كلَّ يوم إلا بالزيادة من عمل الخير ، أما حالنا فكل يوم أسوء من الذي قبله . سئل – صلى الله عليه وسلم - : أي الناس خير؟ قال: « من طال عمره وحسن عمله ، قيل: فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره وساء عمله » رواه الترمذي ، أحمد في المسند . (10) .
فالمؤمن الصادق لا يزدادُ بطول عمره إلا خيرا ، روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « لا يتمنين أحدكم الموت ، إما محسناً فلعله يزدادُ خيرا ، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب » (11) ، وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يتمنى أحدكم الموت ، ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه ، إنه إذا مات أحدُكم انقطع عمله ، وإنه لا يزيدُ المؤمنَ عمرُهُ إلا خيراً » رواه مسلم في صحيحه (12) ، وعنه أيضاً – رضي الله عنه - قال : قال رسولالله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَحَد يَمُوتُ إِلاَّ نَدِمَ». قالُوا وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولُ الله؟ قالَ: «إِنْ كَانَ مُحْسِناً نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسيئاً نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ نَزَعَ » رواه الترمذي في سننه (13) ، فإذا كان المحسنُ يندم على ترك الزيادةِ من العمل الصالح ، فكيف يكون حالُ المسيئ ؟ وكان السلفُ - رحمهم الله - لا يفرحون بمرور الأيام والليالي ، يقول أبو الدرداء : (إنما أنت أيام ، كلما مضى منك يوم مضى بعضك )، وقال بعضهم : (كل يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة) ، ولذا كانوا يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم الصالحة بالموت ، بكى معاذ - رضي الله عنه - عند موته وقال : ( اللهم إني لم أحب البقاء في الدنيا لا لغرس الأشجار ، ولا لجري الأنهار ، إنما أبكي لظمأ الهواجر ، وقيامِ الليالي المظلمة ، ومزاحمةِ العلماء بالركب، ومجالسةِ أناس ينتقون أطايب الكلام ، كما يُنتقى أطايبُ الثمر) ، وقال أحد الصالحين عند موته: (إنما أبكي على أن يصلي المصلون ولستُ فيهم ، وأن يصومَ الصائمون ولستُ فيهم ، ويذكرَ الذاكرون ولست فيهم ) (14).
فما أعظمَ الانتكاسةَ بعد الطاعة ، وما أقبحَ العودَ إلى الغفلةِ بعد الذكرى والموعظة ، كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : « اللهمثبت قلبي على دينك » رواه ابن ماجه في سننه بهذا اللفظ ، وصححه الألباني (15) ، ورواه الترمذي في سننه بلفظ : « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » (16) ، ورواه أحمد في المسند بلفظ : « اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك » (17) ، ومن دعائه – صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور » جزء من حديث عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - ، رواه مسلم في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، وابن ماجه في سننه (18) ، والمعنى : أي من النقصان بعد الزيادة ، وقيل : هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية ، أو الرجوعِ من شيء إلى شيء من الشر ، وقيل : الرجوعِ عن حالة مستقرة جميلة . (19) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطبة الثانية :
عباد الله :
وإن للمداومة على الأعمال الصالحة أثاراً حميدة منها : دوامُ اتصال القلب بخالقه وبارئه ، مما يعطيه قوةً وثباتا ، وتعلقاً بالله عز وجل ، وتوكلاً عليه ، ومن ثم يكفيه همَه ، ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) [الطلاق3] . ومن الآثار كذلك : تعاهدُ النفس عن الغفلة ، وترويضُها على لزوم الخيرات ، حتى تَسْهُلَ عليها فلا تكاد تنفك عنها رغبة فيها ، وقد قيل : (نفسك إن لم تشغلها بالطاعة ، شغلتك بالمعصية) ، ومن أثار المداومةِ على العمل الصالح ، أنه سببٌ لمحبة الله تعالى عبدَه وولايتَه له ، وذلك فضل عظيم ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل » رواه البخاري ، ومسلم واللفظ له (20) . قال النووي : ( وفيه الحث على المداومة على العمل ، وأن قليلَه الدائمَ خيرٌ من كثير ينقطع ، وإنما كان القليلُ الدائمُ خيراً من الكثير المنقطع ، لأن بدوام القليل تدومُ الطاعةُ والذكرُ والمراقبةُ والنيةُ والإخلاصُ والإقبالُ على الخالق سبحانه وتعالى ، ويثمرُ القليلُ الدائمُ بحيث يزيدُ على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة ) (21) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها » (22) ، ومن آثار المداومة على العمل الصالح ، أنها سبب لحسن الختام ، لأن المؤمنَ لايزال يجاهد نفسه بفعل الطاعات وترك المحرمات ، حتى يقوى عزمُه ، ويستقيمَ حالُهُ ، ويستمرَ على العمل الصالح حتى الممات ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) [إبراهيم 27] .
__________________
(1) رواه الترمذي (3175) ، وابن ماجه (4198)
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 6/159، والترمذي في سننه ( 5/ 306، 307 برقم 3175) .
(3) لطائف المعارف (375).
(4) ذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 85) وعزاه لابن أبي حاتم عنه .
(5) لطائف المعارف (376) .
(6)ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/485) وعزاه لابن أبي الدنيا عنه .
(7) لطائف المعارف (129) .
(8) لطائف المعارف (129) .
(9) لطائف المعارف (517) .
(10)رواه الترمذي- كتاب الزهد- ، (4/489) الحديث رقم (2330) ، و أحمد في المسند (5/40 و 43) .
(11) رواه البخاري في صحيحه- كتاب المرضى- باب تمني المريض الموت (10/127) برقم (5673) .
(12) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الذكر والدعاء- باب كراهة تمني الموت لضر نزل به (17/ 8) .
(13) رواه الترمذي في سننه- كتاب الزهد- (4/522) برقم (2404) .
(14) لطائف المعارف (519) .
(15) رواه بهذا اللفظ: ابن ماجه في سننه- كتاب الدعاء- باب دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم – (2/325) ، وصححه الألباني .
(16) رواه الترمذي في سننه- كتاب الدعوات (5/503) برقم (3522) .
(17) رواه أحمد في المسند (2/168) .
(18) جزء من حديث عبد الله بن سرجس -رضي الله عنه - ، روي "الكور" و "الكون " ، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب استحباب الذكر إذا ركب دابته متوجها لسفر حج أو غيره (9/111) .
(19) ينظر: شرح النووي لمسلم (9/111) .
(20) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الرقاق- باب القصد والمداومة على العمل (11/294) برقم (6464) ، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب صلاة المسافرين- باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (6/72) واللفظ له) .
(21)شرح النووي على صحيح مسلم (6/71) .
(22) رواه البخاري ، الرقاق (6137)
عباد الله :
إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ) [النحل53] أجلُّها وأعظمُها الهدايةُ لدين الإسلام ، والتوفيقُ للطاعة ، والإعانةُ على أدائها ، والقيامُ بها .
وإنه ليس شيء أحب إلى المؤمن الصادق من أن يبذل ما يملك ويترك ما يحب ، من أجل نيلِ رضا ربه عنه ، ومغفرةِ ذنوبه ، ومحو زلاته، وإقالةِ عثراته ، فهو يجتهد لله بالطاعة بقلب منيبٍ وجل خائف ، أمله في الله لا ينقطع ، ورجاؤه في رحمة أرحم الراحمين لا يخيب .
عباد الله :
وفي تقلباتِ الدهر وتصرمِ الأيام ، ومضيِ المناسبات ، مواقفٌ للمحاسبة والمساءلة ، وعلى المرء أن يقفَ وقفةَ صدقٍ مع نفسه ووقته ، فكل الناس عند ربهم موقوفون ، وجميعهم بين يديه مسؤولون ، الرسلُ وأممهم مسؤولون ( فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ ) [الأعراف6].
وأهلُ الصدق مسؤولون ( لِيَسْأَلَ ٱلصَّـٰدِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ) [الأحزاب8]. وذوو النعمة مسؤولون ، وعن النعيم محاسبون ( ثُمَّ لَتُسْـئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ ) [التكاثر:8].
كل الناس يغدو ، فبائع نفسه: فمعتقها أو موبقها .
فالاستمرار على الطاعة والحرص على إتقان العمل ، دليل على توفيق الله للعبد ، فلقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإتقانه ، ثم يهتمون بعدويخافون من رده ، وهؤلاء هم المؤمنون الذين قال الله فيهم: ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) [المؤمنون 60 ] « قالت عائشة : يا رسول الله ! هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : لا يا بنت أبي بكر ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف الله عز وجل » رواه الترمذي ، وابن ماجه (1) ، وفي رواية « وهم يخافون ألا يقبل منهم » رواه أحمد في المسند ، والترمذي في سننه (2) ، ولذلك لما قيل لابن عمر - رضي الله عنهما - ، ما أكثر الحاج ، قال : (بل ما أكثر الركب وأقل الحاج ) ، وقال علي - رضي الله عنه - : (كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتماماً منكم بالعمل ، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) (المائدة الآية 27) ) (3) ، وقال أبو الدرداء – رضي الله عنه - : ( لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : ( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ) [المائدة 27] (4) ، وقال عبد العزيز بن أبي رواد - حاكياً حال السلف رحمهم الله- : " أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم ، أيقبل منهم أم لا ؟ ) (5) ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل ( أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبلُ غيرَها ، ولا يرحمُ إلا بها ، ولا يثيبُ إلا عليها ، فإن الواعظين بها كثير ، والعاملين بها قليل ) (6) .
وإن من الخسارة كذلك ، أن يلوث الصائم ما عاشه فيما مضى من لذة المناجاة ، ونعيم الطاعة ، بالمعاصي والذنوب ، وأن ينقضَ تلك العهود التي قطعها على نفسه ألا يعود إلى الخطأ والزلل مرة أخرى ، وإذا كان فعلُ السيئة قبيحا ، والوقوعُ قي الخطيئة جرما ، فإن ذلك يعظمُ ويقبحُ إذا كان بعد طاعةٍ من أجل الطاعات ، ألا وهي صيامُ شهر الصوم والعبادة والطاعة .
إن الخيرَ كلَّ الخير ، والطُّهرَ كلَّ الطهر، أن يصومَ أحدُنا وترى أثارَ صومهِ عليه ، بلزوم العهد القديم والمسلك القويم ، الذي كان عليه في الصيام ، وليكن خروجنا من هذه الطاعات ، خروجُ الغانمِ الكاسب المغتبط بما وفقه الله لطاعته ولزوم عهده ، فالمؤمنُ الصادقُ لا يخرج من طاعة إلا ويدخل في أخرى ، محياه ومماته لله رب العالمين .
وإن من علامةِ قبولِ الطاعة أن توصلَ بالطاعة بعدها ، وعلامةُ ردها أن توصل بمعصية بعدها – كما ذكر ذلك أهلُ العلم والمعرفة بالله - ، فما أوحشَ ذُلَّ المعصيةِ بعد عز الطاعة ، ولذلك كان الإمام أحمد - رحمه الله – يقول : ( اللهم أعزني بطاعتك ولا تُذلني بمعصيتك ) (7) ، وكان عامةُ دعاءِ إبراهيمَ بنِ أدهم - رحمه الله- : ( اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة ) (8) . وقد تضعف النفس في الاستمرار على العمل الصالح والمداومة عليه ، ولمعالجة هذا الداء لا بد من العزيمة الصادقة على لزومِ العمل والمداومةِ عليه ، أيا كانت الظروفُ والأحوالُ ، وهذا يستلزم نبذَّ العَجْزِ والكسلِ والدَّعةِ والخمول ، وإذا كان الإنسانُ يكره الموتَ الذي فيه انقطاعُ حياتِهِ ، ويكره الهَرَمَ الذي فيه انهيارُ شبابهِ وقوتِه ، ألا يدرك أن هناك أمراً - لربما كان أشدَّ منهما - وهو العَجْزُ والكسل ، وضعفُ الهمةِ والتراخي ، والتسويفُ وركوبُ بحر التمني ، مما يُقعده عن كل عمل صالح ، ويُثبطه عن كل بر وطاعة .
وقد كانت حياةُ السلف - رحمهم الله - معمورةً بطاعة الله حتى يلقوا ربهم ، وأقوالُهم وأحوالهُم في ذلك كثيرة ، قال ميمون بن مهران :
( لا خير في الحياة إلا لتائب ، أو رجلٍ يَعمل في الدرجات، ومن عداهما فخاسر ) ، وقال بعضهم يحكي حالهَم : (كانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس ) (9) ، يريد : أنهم كانوا لا يرضون كلَّ يوم إلا بالزيادة من عمل الخير ، أما حالنا فكل يوم أسوء من الذي قبله . سئل – صلى الله عليه وسلم - : أي الناس خير؟ قال: « من طال عمره وحسن عمله ، قيل: فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره وساء عمله » رواه الترمذي ، أحمد في المسند . (10) .
فالمؤمن الصادق لا يزدادُ بطول عمره إلا خيرا ، روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « لا يتمنين أحدكم الموت ، إما محسناً فلعله يزدادُ خيرا ، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب » (11) ، وعنه - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يتمنى أحدكم الموت ، ولا يدعُ به من قبل أن يأتيه ، إنه إذا مات أحدُكم انقطع عمله ، وإنه لا يزيدُ المؤمنَ عمرُهُ إلا خيراً » رواه مسلم في صحيحه (12) ، وعنه أيضاً – رضي الله عنه - قال : قال رسولالله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَحَد يَمُوتُ إِلاَّ نَدِمَ». قالُوا وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولُ الله؟ قالَ: «إِنْ كَانَ مُحْسِناً نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسيئاً نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ نَزَعَ » رواه الترمذي في سننه (13) ، فإذا كان المحسنُ يندم على ترك الزيادةِ من العمل الصالح ، فكيف يكون حالُ المسيئ ؟ وكان السلفُ - رحمهم الله - لا يفرحون بمرور الأيام والليالي ، يقول أبو الدرداء : (إنما أنت أيام ، كلما مضى منك يوم مضى بعضك )، وقال بعضهم : (كل يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة) ، ولذا كانوا يتأسفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم الصالحة بالموت ، بكى معاذ - رضي الله عنه - عند موته وقال : ( اللهم إني لم أحب البقاء في الدنيا لا لغرس الأشجار ، ولا لجري الأنهار ، إنما أبكي لظمأ الهواجر ، وقيامِ الليالي المظلمة ، ومزاحمةِ العلماء بالركب، ومجالسةِ أناس ينتقون أطايب الكلام ، كما يُنتقى أطايبُ الثمر) ، وقال أحد الصالحين عند موته: (إنما أبكي على أن يصلي المصلون ولستُ فيهم ، وأن يصومَ الصائمون ولستُ فيهم ، ويذكرَ الذاكرون ولست فيهم ) (14).
فما أعظمَ الانتكاسةَ بعد الطاعة ، وما أقبحَ العودَ إلى الغفلةِ بعد الذكرى والموعظة ، كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : « اللهمثبت قلبي على دينك » رواه ابن ماجه في سننه بهذا اللفظ ، وصححه الألباني (15) ، ورواه الترمذي في سننه بلفظ : « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » (16) ، ورواه أحمد في المسند بلفظ : « اللهم مصرف القلوب اصرف قلوبنا إلى طاعتك » (17) ، ومن دعائه – صلى الله عليه وسلم - أيضاً : « اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور » جزء من حديث عبد الله بن سرجس - رضي الله عنه - ، رواه مسلم في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، وابن ماجه في سننه (18) ، والمعنى : أي من النقصان بعد الزيادة ، وقيل : هو الرجوع من الإيمان إلى الكفر أو من الطاعة إلى المعصية ، أو الرجوعِ من شيء إلى شيء من الشر ، وقيل : الرجوعِ عن حالة مستقرة جميلة . (19) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطبة الثانية :
عباد الله :
وإن للمداومة على الأعمال الصالحة أثاراً حميدة منها : دوامُ اتصال القلب بخالقه وبارئه ، مما يعطيه قوةً وثباتا ، وتعلقاً بالله عز وجل ، وتوكلاً عليه ، ومن ثم يكفيه همَه ، ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) [الطلاق3] . ومن الآثار كذلك : تعاهدُ النفس عن الغفلة ، وترويضُها على لزوم الخيرات ، حتى تَسْهُلَ عليها فلا تكاد تنفك عنها رغبة فيها ، وقد قيل : (نفسك إن لم تشغلها بالطاعة ، شغلتك بالمعصية) ، ومن أثار المداومةِ على العمل الصالح ، أنه سببٌ لمحبة الله تعالى عبدَه وولايتَه له ، وذلك فضل عظيم ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل » رواه البخاري ، ومسلم واللفظ له (20) . قال النووي : ( وفيه الحث على المداومة على العمل ، وأن قليلَه الدائمَ خيرٌ من كثير ينقطع ، وإنما كان القليلُ الدائمُ خيراً من الكثير المنقطع ، لأن بدوام القليل تدومُ الطاعةُ والذكرُ والمراقبةُ والنيةُ والإخلاصُ والإقبالُ على الخالق سبحانه وتعالى ، ويثمرُ القليلُ الدائمُ بحيث يزيدُ على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة ) (21) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله قال : من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها » (22) ، ومن آثار المداومة على العمل الصالح ، أنها سبب لحسن الختام ، لأن المؤمنَ لايزال يجاهد نفسه بفعل الطاعات وترك المحرمات ، حتى يقوى عزمُه ، ويستقيمَ حالُهُ ، ويستمرَ على العمل الصالح حتى الممات ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) [إبراهيم 27] .
__________________
(1) رواه الترمذي (3175) ، وابن ماجه (4198)
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 6/159، والترمذي في سننه ( 5/ 306، 307 برقم 3175) .
(3) لطائف المعارف (375).
(4) ذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 85) وعزاه لابن أبي حاتم عنه .
(5) لطائف المعارف (376) .
(6)ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/485) وعزاه لابن أبي الدنيا عنه .
(7) لطائف المعارف (129) .
(8) لطائف المعارف (129) .
(9) لطائف المعارف (517) .
(10)رواه الترمذي- كتاب الزهد- ، (4/489) الحديث رقم (2330) ، و أحمد في المسند (5/40 و 43) .
(11) رواه البخاري في صحيحه- كتاب المرضى- باب تمني المريض الموت (10/127) برقم (5673) .
(12) رواه مسلم في صحيحه -كتاب الذكر والدعاء- باب كراهة تمني الموت لضر نزل به (17/ 8) .
(13) رواه الترمذي في سننه- كتاب الزهد- (4/522) برقم (2404) .
(14) لطائف المعارف (519) .
(15) رواه بهذا اللفظ: ابن ماجه في سننه- كتاب الدعاء- باب دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم – (2/325) ، وصححه الألباني .
(16) رواه الترمذي في سننه- كتاب الدعوات (5/503) برقم (3522) .
(17) رواه أحمد في المسند (2/168) .
(18) جزء من حديث عبد الله بن سرجس -رضي الله عنه - ، روي "الكور" و "الكون " ، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب الحج- باب استحباب الذكر إذا ركب دابته متوجها لسفر حج أو غيره (9/111) .
(19) ينظر: شرح النووي لمسلم (9/111) .
(20) رواه البخاري في صحيحه -كتاب الرقاق- باب القصد والمداومة على العمل (11/294) برقم (6464) ، ورواه مسلم في صحيحه -كتاب صلاة المسافرين- باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره (6/72) واللفظ له) .
(21)شرح النووي على صحيح مسلم (6/71) .
(22) رواه البخاري ، الرقاق (6137)
المشاهدات 5531 | التعليقات 2
مروركم فيه كرم على ما تسميتم به ، صدقت - والله - ولوقلنا : المحافظة على الأعمال الصالحة بعد رمضان ، لكان أحسن .
ملحوظة في محلها لم أتنبه لها . بارك الله فيك ، ونفعنا بعلمك .
ملحوظة في محلها لم أتنبه لها . بارك الله فيك ، ونفعنا بعلمك .
مرور الكرام
كيف نحافظ على المداومة على الأعمال الصالحة !!!
عنوان طويل شيخ ضيدان ...
ولماذا لايكون (( كيف نداوم على الأعمال الصالحة بعد رمضان )) ؟؟
تعديل التعليق