كيف كنا في رمضان .. وكيف صرنا بعده

د محمد بن حمد الهاجري
1444/10/08 - 2023/04/28 08:45AM

هكذا يباغتنا الزمن، وتطوينا الأيام، وتسافر بنا الأعوام؛ هكذا ينقضي العمر، وتنصرم الحياة في سرعة غريبة، وحركة عجيبة: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون:112-114].
قبل اربع جمع كانت إطلالة شهر رمضان، فاستقبلناه بالبشر، ولقيناه بالترحاب، واليوم في طرفة عين، نودعه، نودعه ولم نملأ بعد من وصاله أعيننا، ولم تشبع أنفسنا، ولم ترتوِ قلوبنا. نودعه ونحن لا زلنا نعيش في غمرة استقباله، وفرحه إطلاله، فكيف عجل بفراقه، وبادر برحيله، دون مراعاة لأحبة تكاد قلوبهم تتمزق لغيابه عنها، نودعه والقلوب تنادي:
رمضان دمعي للفراق يسيل        والقلب من ألم الوداع هزيل
رمضان إنك سيدٌ ومهذبٌ        وضياء وجهك يا عزيز جليل
رمضان جئت وليلنا متصدعٌ        أما النهار بلهوه مشغول
فالتف حولك سادةٌ ذو همةٍ        لم يثنهم عن صومهم مخذول
قاموا ليالٍ والدموع غزيرةٌ        ويد السخاء يزينها التّنويل
سجدوا لبارئهم بجبهة مخلصٍ        وأصاب كلاًّ زفرةٌ وعويل
كم فيك من منح الإله ورحمةٍ        والعتق فيك لمن هفا مأمول
وسحائب الرحمات في فلك الدجى        في ليلةٍ نادى بها التنزيل
وملائك الرحمن تحيي ليلها        فيهم أمين الوحي جبرائيل
وعصابة الشيطان في أصفادها        قد ذلّها التسبيح والتهليل
تلك المساجد والدعاء مدويٌ        لله جل جلاله التبجيل
رباه فارحم فالذنوب تتابعت        كالموج في لجج البحار يسير
واغفر لعبدٍ آب أوبة صادقٍ        واقبل دعاءً حرفه مذهول
أنت المجيب وأنت أعظم من عفا        أنت السميع وإن دعاك جهول
ذنبي وإن ملأ البحار فإنه        في عفو مثلك يا كريم قليل
ثم الصلاة على النبي وآله        والصحب ما شمل الدعاء قبول
وداعا أيها الحبيب الراحل، والأنيس المسافر؛ وداعا لساعات الوصال، وأيام اللقاء، ولحظات الصفاء؛ وداعا يا شهر الخير والبركات، والبر والحسنات، واللطف والنفحات، وداعا يا ميدان الطاعة؛ وموسم العبادة، وداعا لأيام صفت فيها النفس، وزكا بها الفؤاد، وسما بها الفكر؛ وداعا لليال نشطت فيها الأجسام، وتراصت الأقدام، وحسُن الخشوع، وعذُب الخضوع، ونُثِرَت الدموع؛ وداعا لحلاوة الإفطار بعد الصيام، والراحة بعد القيام، والري بعد العطش؛ وداعا لتلذذ بتفطير الصائمين، وإطعام الجائعين، ومعونة المعوزين؛ وداعا لأيام تعطرت فيها الأجواء بعبير الدعاء، وتزينت فيها الأرجاء بأريج الثناء.
واحزناه على نغمات القرآن الحانية وهي تداعب القلوب، وتسمو بالأرواح! واحزناه على ليال ضجت فيها الأصوات، وتعالت الدعوات! واحزناه على منظر المؤمنين الصائمين، ومشهد المعتمرين الطائفين! واحزناه على ما فرطنا في جنب الله! يا ليتنا اجتهدنا، يا ليتنا أكثرنا، يا ليتنا صبرنا، يا ليتنا ما كسلنا ولا تهاونَّا!.
أيها الحبيب الراحل: لقد عشنا فيك دقائق جميلة، وساعات بديعة، ومشاعر عجيبة؛ لقد كنا نشعر أننا انتقلنا من الكوكب الأرضي إلى عالَم علوي ندي، كنا نشعر بالرحمة تهبط علينا، والسكينة تحفنا، والعناية تحوطنا، والولاية تحرسنا، وكأنها الملائكة تصافحنا في الطرقات، القلوب غير القلوب، والأنفس غير الأنفس، والأخلاق غير الأخلاق.
هذا كله مع شدة تقصيرنا معك، وتضييعنا لحقوقك، ومخالفتنا لقوانينك؛ فكيف لو أخلصنا في الحب، وصدقنا في الود، والتزمنا بالعهد؟ واحسرتاه على أوقات ضاعت، وليال مرت، لم تكن في رحاب الحبيب! ماذا جناه النائمون من نومهم؟ والمفرطون من تفريطهم؟ واللاهون من لهوهم؟ واللاعبون من لعبهم؟ فئام هائمة، وأنوف راغمة، وجهود خاسرة، تلك التي لم تتذوق حلاوة الصيام، وروعة القيام، ولذة القرآن: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) 
 
 
 
الخطبة 2
 
الأحبة في الله : فبعد أيام قلائل من رحيل شهر رمضان المبارك !!
كيف حالكم بعد رمضان ؟ فلنقارن بين حالنا في رمضان وحالنا بعد رمضان !!
إيه أيتها النفس ؟! كنت في أيام... في صلاة , وقيام , وتلاوة , وصيام , وذ كّر , ودعاء , وصدقه , وإحسان , وصلة أرحام ! .
ذقنا حلاوة ا لإيمان وعرفنا حقيقه الصيام , وذقنا لذّه الدمعه , وحلاوة المناجاة في الأسحار !!

كنا نُصلي صلاة من جُعلت قرةُ عينه في الصلاة , وكنا نصوم صيام من ذاق حلاوته وعرف طعمه , وكنا ننفق نفقه من لا يخشى الفقر , وكنا .. وكنا .. مما كنا نفعله في هذا الشهر المبارك الذي رحل عنا !.

وهكذا .. كنا نتقلب في أعمال الخير وأبوابه حتى قال قائلنا ... ياليتني متّ على هذا الحال !!

ياليت خاتمتي كانت في رمضان ..! .

رحل رمضان ولم يمضى على رحيله إلا القليل ! ولربما عاد تارك الصلاة لتركه , وآكل الربا لأكله , ومشاهد الفحش لفحشه , وشارب الدخان لشربه .

فنحن لا نقول أن نكون كما كنا في رمضان من الأجتهاد .

ولكن نقول : لا للإنقطاع عن الأعمال الصالحة , فلنحيا على الصيام , والقيام , والصدقة , ولو القليل.
ولقد أوصى رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- عبدَاللهِ بنَ عمرٍو -رضيَ اللهُ عنهما- فقالَ له: "لا تكنْ مثلَ فلان، كانَ يَقومُ الليلَ فتركَ قيامَ الليل", فما تركَ عبدُاللهِ قيامَ الليلِ حتى مات. 
فيا من صامَ وقامَ وختمَ وتصدَّقَ في رمضان: لا تكنْ مثلَ فلان، كانَ يُسارعُ إلى الصّلاةِ فتكاسل، ولا تكنْ مثلَ فلان، كانَ يُسابقُ للتّلاوةِ والصّلةِ والأذكارِ فتَثاقل، ولا تكنْ مثلَ فلان، كانَ يُكثرُ من البذلِ والصّدقاتِ فتباخل، فالحذرَ الحذرَ من تَثبيطِ الشّيطان، واجتهدوا في المُداومةِ على الأعمالِ الصّالحةِ بعدَ رمضان، مثلَ قيامِ الليلِ, وصيامِ البِيضِ, وصيامِ السّتِّ من شوّال، والمحافظةِ على السّننِ الرّواتبِ, والأذكارِ, وتلاوةِ القرآن، والإكثارِ من الدّعاءِ, والصّدقةِ, وسائرِ أنواعِ البرِّ والإحسان، فما أجملَ الطّاعةَ تَعقبُها الطّاعات! وما أبهى الحسنةَ تُجمعُ إليها الحسنات!.
 
فاستمرّوا على السَّيْر، ولا تَستقِلّوا الخير، ولا تَحتقِروا المعروف، ولا تَنقطعوا عن العبادة، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا، فلا تتركوا قيامَ الليلِ ولو بركعة، ولا تهجروا تلاوةَ القرآنِ ولو بصفحة، ولا تَدَعُوا صيامَ التّطوعِ ولو بيوم، ولا تُمْسِكُوا عن الصّدقة ولو بريال؛ فالرّكعةُ تَحُطُّ الخطايا وتَرفعُ الدّرجات، والحرفُ من القرآنِ بعشرِ حسنات، وصيامُ يومٍ يُباعِدُ عن النّارِ سبعينَ خريفًا، والرّيالُ في الميزانِ كالجبال، ومن زادَ زادَ اللهُ له، وَٱللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. 
فاتّقوا اللهَ -رحمكم الله-، وجاهدوا أنفسَكم على الثّباتِ على فعلِ الطّاعات، وتركِ الذّنوبِ والسّيئات، واستعينوا باللهِ على الاستقامةِ على ذلك ما دمتم على قيدِ الحياة؛ فإنّ عملَ المؤمنِ لا ينتهي حتى الممات، قالَ -تعالى- في كتابِه المُبين: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)
فاللهمّ ارزقْنا الاستقامةَ على ما يُرضيك، وجنّبْنا أسبابَ سخطِك ومعاصيك، اللهمّ وفقْنا لهداك، واجعلْ عملَنا في رضاك، وثبّتْنا على دينِك وطاعتِك حتى نلقاك

 

المشاهدات 820 | التعليقات 0