كيف تحظى بدعاء النبي الصيهد –صلى الله عليه وسلم-؟ (4)
محمد بن إبراهيم النعيم
1438/03/16 - 2016/12/15 20:32PM
خطبة د. محمد بن إبراهيم النعيم-رحمه الله- 21/5/1425هـ
الصف الأول والصاع النبوي
الحمدلله ...
كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعيش مع أصحابه لا يعتزل عنهم وإنما يخالطهم، ويعلمهم ويصبرهم على نوائب الحق ويدعو لهم في أمور دينهم ودنياهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم كثيرا ما يطلبون من النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لهم، وكانوا ويرون أثر دعائه –صلى الله عليه وسلم- لهم في حياتهم، وقد استجاب الله عز وجل لنبيه ما دعاه لهم -رضي الله عنهم-، فذات يوم رأى –صلى الله عليه وسلم- في المنام ناسا من أمته عرضوا عليه غزاة في سبيل الله يركبون البحر مثل الملوك على الأسرة، فقالت له أم حرام بنت ملحان: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، فتمر السنون وتركب البحر رضي الله عنها في زمن خلافة معاوية –رضي الله عنه- فتُصرع عن دابتها حين خرجت من البحر، وتموت شهيدة كما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-، وهذه امرأة مصابة بالصرع، جاءته تطلب منه الدعاء، فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك "، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها، رواه البخاري ومسلم.
وإن رضا هذه المرأة بالثواب الآجل على الشفاء العاجل لدليل على إيمانها بإجابة الله عز وجل لدعاء نبيه –صلى الله عليه وسلم-، كما أن حرصها -رضي الله عنها- على ستر نفسها وعدم تكشفها أو تبرجها لدليل على عفتها بالرغم من رفع الحرج عنها وعن أمثالها ومن تبشير رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لها بدخول الجنة بلا حساب، فكيف بمن لم تبشر من النساء بالجنة فما درجة الستر المطلوب منها؟
ومن القصص التي نثبت إجابة الله عز وجل لدعاء نبيه –صلى الله عليه وسلم- ما رواه عبد الحميد بن سلمة أن جده أسلم في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولم تسلم جدته وله منها ابن، فاختصما إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال لهما رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن شئتما خيرتما الغلام"، قال: وأجلس الأب في ناحية والأم ناحية فخيره، فانطلق نحو أمه فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "اللهم اهده" قال: فرجع إلى أبيه رواه أحمد وأبو داود.
فتأملوا كيف أن هذا الصغير لا يهتدي بنفسه للصواب، فمال بغريزته لأمه الكافرة، ولكن سرعان ما وفق للصواب بدعاء نبي الرحمة له –صلى الله عليه وسلم-.
هذا غيض من فيض من أدعية النبي –صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه رضي الله عنهم، فماذا للأجيال التي لم ترى النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ هل دعا لهم؟ وهل يمكن أن نحظى جميعا بدعائه –صلى الله عليه وسلم-؟ وقد أيقنا بأن دعائه –صلى الله عليه وسلم- مستجاب عند الله عز وجل.
إن من فضل الله على هذه الأمة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دعا بدعوات عابرة للقرون والأزمان وغير مقيدة لبعض الأنام، وإنما ربطها –صلى الله عليه وسلم- ببعض صالح الأعمال، فكل من تحلى بهذه الأعمال؛ نال هذه الدعوات المباركات المستجابة بإذن الله تعالى.
فما الأعمال التي يمكن بها أن نحظى على دعاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟
أو كيف ندخل في دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- ؟
هناك أعمال عديدة دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابها، وقد ذكرت بعضا منها في ثلاث خطب سابقة وبقي العديد، ومن ذلك:
الحرص على الصف الأول أو الثاني في صلاة الفريضة، فحرصك على الصف الأول أو الثاني في صلاة الفريضة: وسيلة لنيل استغفار النبي –صلى الله عليه وسلم- لك، فعن العرباض بن سارية –رضي الله عنه- قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرة. رواه أحمد والترمذي.
وفي رواية للنسائي: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يصلي على الصف الأول ثلاثا وعلى الثاني واحدة.
قال السندي رحمه الله تعالى: أي يدعو لهم بالرحمة ويستغفر لهم ثلاث مرات كما فعل بالمحلقين والمقصرين.
وروى أبو أمامة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول، قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول، قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال: وعلى الثاني" رواه أحمد.
إن التأخر عن الصلاة والزهد في الصف الأول بات ظاهرة يشتكي منها معظم أئمة المساجد، في حين أن أكثر ما فصل فيه النبي –صلى الله عليه وسلم- من أمر الدين هو أحكام الصلاة، فأكثر أبواب الحديث هي أبواب الصلاة ترغيبا وترهيبا وتعليما، ومع ذلك فإن معظم الناس لا يزالون يجهلون عظم قدر الصلاة والثواب المناط بها، ولهذا لا يحرص أكثرهم على التبكير إليها، ولو تأخر أحدهم عنها لا تبدو عليه علامات الحزن والندم لجهله بالثواب الذي فاته، وقد أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- بنفي علم الناس لهذا الفضل، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير –أي التبكير- لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة –أي صلاة العشاء- والصبح لأتوهما و لو حبوا " متفق عليه.
فلماذا لا يستهم أكثر الناس على النداء والصف الأول؟ لأنهم يجهلون ثواب ذلك، ومتى جهل الناس ثواب العمل ثقل عليهم أداءه، وفرطوا في التسابق إليه، ولو أيقنوا به لتسابقوا وكانت بينهم قرع كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولهذا جاء عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: لو تعلمون ما في الصف الأول ما كانت إلا قرعة" رواه مسلم.
وقال عبد الله البراثي رحمه الله تعالى: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه في جميع الأحوال.
لا ترضَ لنفسك يا عبد الله الاكتفاء بإدراك صلاة الجماعة لتحظى بثوابها فقط، وإنما عود نفسك أن تكون من أهل الصف الأول في كل صلاة، ولن يتأتى لك ذلك إلا بالتعود على التبكير والذهاب إلى المسجد متى ما سمعت النداء.
إن كثيرا من الناس لا يعطون مثل هذه الأجور أهمية ولا يقدرونها قدرها، ولا يتسابقون لنيل ثوابها، وإنك ترى أحدهم إذا دخل المسجد ورأى في طرف الصف فرجة ومكانا، تلفت يمنة ويسرة، لعله يرى رجلا شهما يذهب بدلا منها حتى لا يعنيه المشوار الطويل الذي سيمشيه، ليكمل الصف راضيا عن نفسه أن يقف في صف متأخر وجاهلا ما فاته من ثواب وأجر؛ كان الصحابة يتسابقون إليه، لقد حذر النبي –صلى الله عليه وسلم- من تكرار التأخر عن الصف الأول؛ حيث روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : " لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار" رواه أبو داود.
فهل نتسابق إلى الصف الأول لنحظى بدعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ اسأل الله القدير أن يجعلنا ممن يستمع إلى القول فيتبع أحسنه.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مستحق الحمد، أهل الثناء والمجد، وكلنا له عبد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن نحظى به إلا بالمبادرة إلى الأعمال التي دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابها والتي منها: استخدام المكيال والميزان النبوي.
نعلم جميعا بأن الناس يحتاجون إلى ما يضبطون به أمور معاشهم، ومن ذلك اتخاذهم موازين ومكاييل معروفة لديهم يضبطون بها مبيعاتهم ونحوها، وإن المسلمين لم يزالوا من فجر الإسلام لهم مكاييل وموازين مخصوصة هي الصاع والمد في المدينة المنورة تكال بها الحبوب والثمار، والمثقال في مكة يوزن به الذهب، ولقد دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- بالبركة باستخدام المكاييل والموازين النبوية، حيث أبو سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا واجعل مع البركة بركتين "رواه مسلم.
وجاء في رواية لأبي هريرة –رضي الله عنه- قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فإذا أخذه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه "، وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم" يعني أهل المدينة متفق عليه.
قال ابن حجر: دعاؤه –صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة في صاعهم ومدهم، خصهم من البركة ما اضطر أهل الأفاق إلى قصدهم في ذلك المعيار المدعو له بالبركة، ليجعلوه طريقة متبعة في معاشهم، وأداء ما فرض الله عليهم اهـ.
وقال أيضا: وقد وُجد مصداق الدعوة بأن بورك في مدهم وصاعهم بحيث اعتبر قدرهما أكثر فقهاء الأمصار ومقلدوهم إلى اليوم في غالب الكفارات اهـ.
فهل لو رجعنا إلى هذه الموازين والمكاييل تكون أكثر بركة علينا وعلى اقتصادنا؟ لعله يكون ذلك.
ونحن اليوم بحاجة إلى مثل هذا المكيال النبوي ولو على المستوى المحلي خصوصا بعد انتشار أوعية مختلفة الأحجام والأشكال مجهولة الوزن من صناديق وسلال وأواني يباع فيها الرطب وغيره من محاصيل زراعية محلية، مما جعل الكثير من الناس يتذمرون من عدم توحد هذه الأوعية وجهلهم بوزنها، فلو أن البلدية قامت مشكورة بفرض صناديق أو أوعية بلاستيكية أو فلينية موحدة بحجم صاع وصاعين ومضاعفات الصاع النبوي على هؤلاء الباعة؛ لكان أكثر بركة في أرزاقنا جميعا، وأدعى للراحة النفسية للبائع والمشتري على حد سواء، كما أن فيه نشر وتداول للصاع النبوي في أسواق المسلمين وفي بلاد المسلمين، فيعرفه الناس: صغيرهم وكبيرهم، ويرونه بأعينهم، ويتداولونه فيما بينهم، بل ويستخدموه بأنفسهم في كيل زكوات فطرهم وكفاراتهم وغير ذلك، فإننا نرى الناس لا يزالون يسألون العلماء بين فترة وأخرى عن مقدار الصاع النبوي بالكيلوجرام من الأرز وغيره، إذا أرادوا أداء كفارة يمين أو زكاة فطر، فلماذا نبقى على هذا الجهل، ولا نستخدم مكاييل هي من تراثنا، بل ودعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لها بالبركة؟ ودعاءه –صلى الله عليه وسلم- مستجاب، وأين المحافظين على التراث، فلماذا لا ينادون بإحياء مثل هذا التراث؟ أدع الجواب لكم.
لقد نشر الاستعمار أفكاره وتقاليده وموازينه في البلاد التي استعمرها، ولكن المسلمين تقاعسوا عن نشر مبادئهم وتعاليم دينهم، إنك تجد كل دولة من الدول الصناعية لها مقاييسها وموازينها الخاصة التي تعتز بها وتسعى إلى نشرها، فالولايات المتحدة الأمريكية لها مقياس الرطل أو (الباوند) والجالون الأمريكي، وفرنسا لها مثل ذلك كالمتر والكيلو، وبريطانيا لها مثل ذلك كالقدم واليارد، والغريب أن هذه الدول تأبى أن تتنصل عن موازينها بينما المسلمون يتغربون عن دينهم وموازينهم ويرون الكفاية في غيره، وإنما وفر لنا ديننا ما يغنينا ويميز شخصيتنا أمام الحضارات الأخرى حتى في الموازين والمكاييل، فهل من عودة إلى ذلك؟ لا سيما أن هذه الموازين فيها بركة محققة بفضل دعاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
أيها الأخوة الكرام: لا يزال هناك أعمال دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابها لعلنا نذكرها إن طالت بنا حياة في خطب قادمة بمشيئة الله تعالى.
اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن لا يحرمنا من دعاء النبي ، وأن يحشرنا في زمرته، اللهم اهدنا لليسرى وجنبنا العسرى، اللهم قنا شر أنفسنا وبصرنا بعيوبنا، اللهم ارفع عن أمتنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم انصرنا على أعدائنا وانصرنا على أهوائنا، اللهم أشهدنا عز الإسلام وذل الكافرين، اللهم دمر أعداء الدين.... اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين....
الصف الأول والصاع النبوي
الحمدلله ...
كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعيش مع أصحابه لا يعتزل عنهم وإنما يخالطهم، ويعلمهم ويصبرهم على نوائب الحق ويدعو لهم في أمور دينهم ودنياهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم كثيرا ما يطلبون من النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لهم، وكانوا ويرون أثر دعائه –صلى الله عليه وسلم- لهم في حياتهم، وقد استجاب الله عز وجل لنبيه ما دعاه لهم -رضي الله عنهم-، فذات يوم رأى –صلى الله عليه وسلم- في المنام ناسا من أمته عرضوا عليه غزاة في سبيل الله يركبون البحر مثل الملوك على الأسرة، فقالت له أم حرام بنت ملحان: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، فتمر السنون وتركب البحر رضي الله عنها في زمن خلافة معاوية –رضي الله عنه- فتُصرع عن دابتها حين خرجت من البحر، وتموت شهيدة كما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-، وهذه امرأة مصابة بالصرع، جاءته تطلب منه الدعاء، فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك "، قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها، رواه البخاري ومسلم.
وإن رضا هذه المرأة بالثواب الآجل على الشفاء العاجل لدليل على إيمانها بإجابة الله عز وجل لدعاء نبيه –صلى الله عليه وسلم-، كما أن حرصها -رضي الله عنها- على ستر نفسها وعدم تكشفها أو تبرجها لدليل على عفتها بالرغم من رفع الحرج عنها وعن أمثالها ومن تبشير رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لها بدخول الجنة بلا حساب، فكيف بمن لم تبشر من النساء بالجنة فما درجة الستر المطلوب منها؟
ومن القصص التي نثبت إجابة الله عز وجل لدعاء نبيه –صلى الله عليه وسلم- ما رواه عبد الحميد بن سلمة أن جده أسلم في عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولم تسلم جدته وله منها ابن، فاختصما إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال لهما رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن شئتما خيرتما الغلام"، قال: وأجلس الأب في ناحية والأم ناحية فخيره، فانطلق نحو أمه فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "اللهم اهده" قال: فرجع إلى أبيه رواه أحمد وأبو داود.
فتأملوا كيف أن هذا الصغير لا يهتدي بنفسه للصواب، فمال بغريزته لأمه الكافرة، ولكن سرعان ما وفق للصواب بدعاء نبي الرحمة له –صلى الله عليه وسلم-.
هذا غيض من فيض من أدعية النبي –صلى الله عليه وسلم- لبعض أصحابه رضي الله عنهم، فماذا للأجيال التي لم ترى النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ هل دعا لهم؟ وهل يمكن أن نحظى جميعا بدعائه –صلى الله عليه وسلم-؟ وقد أيقنا بأن دعائه –صلى الله عليه وسلم- مستجاب عند الله عز وجل.
إن من فضل الله على هذه الأمة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- دعا بدعوات عابرة للقرون والأزمان وغير مقيدة لبعض الأنام، وإنما ربطها –صلى الله عليه وسلم- ببعض صالح الأعمال، فكل من تحلى بهذه الأعمال؛ نال هذه الدعوات المباركات المستجابة بإذن الله تعالى.
فما الأعمال التي يمكن بها أن نحظى على دعاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟
أو كيف ندخل في دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- ؟
هناك أعمال عديدة دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابها، وقد ذكرت بعضا منها في ثلاث خطب سابقة وبقي العديد، ومن ذلك:
الحرص على الصف الأول أو الثاني في صلاة الفريضة، فحرصك على الصف الأول أو الثاني في صلاة الفريضة: وسيلة لنيل استغفار النبي –صلى الله عليه وسلم- لك، فعن العرباض بن سارية –رضي الله عنه- قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يستغفر للصف المقدم ثلاثا وللثاني مرة. رواه أحمد والترمذي.
وفي رواية للنسائي: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يصلي على الصف الأول ثلاثا وعلى الثاني واحدة.
قال السندي رحمه الله تعالى: أي يدعو لهم بالرحمة ويستغفر لهم ثلاث مرات كما فعل بالمحلقين والمقصرين.
وروى أبو أمامة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول، قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال: إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول، قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال: وعلى الثاني" رواه أحمد.
إن التأخر عن الصلاة والزهد في الصف الأول بات ظاهرة يشتكي منها معظم أئمة المساجد، في حين أن أكثر ما فصل فيه النبي –صلى الله عليه وسلم- من أمر الدين هو أحكام الصلاة، فأكثر أبواب الحديث هي أبواب الصلاة ترغيبا وترهيبا وتعليما، ومع ذلك فإن معظم الناس لا يزالون يجهلون عظم قدر الصلاة والثواب المناط بها، ولهذا لا يحرص أكثرهم على التبكير إليها، ولو تأخر أحدهم عنها لا تبدو عليه علامات الحزن والندم لجهله بالثواب الذي فاته، وقد أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- بنفي علم الناس لهذا الفضل، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير –أي التبكير- لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة –أي صلاة العشاء- والصبح لأتوهما و لو حبوا " متفق عليه.
فلماذا لا يستهم أكثر الناس على النداء والصف الأول؟ لأنهم يجهلون ثواب ذلك، ومتى جهل الناس ثواب العمل ثقل عليهم أداءه، وفرطوا في التسابق إليه، ولو أيقنوا به لتسابقوا وكانت بينهم قرع كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولهذا جاء عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: لو تعلمون ما في الصف الأول ما كانت إلا قرعة" رواه مسلم.
وقال عبد الله البراثي رحمه الله تعالى: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه في جميع الأحوال.
لا ترضَ لنفسك يا عبد الله الاكتفاء بإدراك صلاة الجماعة لتحظى بثوابها فقط، وإنما عود نفسك أن تكون من أهل الصف الأول في كل صلاة، ولن يتأتى لك ذلك إلا بالتعود على التبكير والذهاب إلى المسجد متى ما سمعت النداء.
إن كثيرا من الناس لا يعطون مثل هذه الأجور أهمية ولا يقدرونها قدرها، ولا يتسابقون لنيل ثوابها، وإنك ترى أحدهم إذا دخل المسجد ورأى في طرف الصف فرجة ومكانا، تلفت يمنة ويسرة، لعله يرى رجلا شهما يذهب بدلا منها حتى لا يعنيه المشوار الطويل الذي سيمشيه، ليكمل الصف راضيا عن نفسه أن يقف في صف متأخر وجاهلا ما فاته من ثواب وأجر؛ كان الصحابة يتسابقون إليه، لقد حذر النبي –صلى الله عليه وسلم- من تكرار التأخر عن الصف الأول؛ حيث روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : " لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار" رواه أبو داود.
فهل نتسابق إلى الصف الأول لنحظى بدعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ اسأل الله القدير أن يجعلنا ممن يستمع إلى القول فيتبع أحسنه.
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مستحق الحمد، أهل الثناء والمجد، وكلنا له عبد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن نحظى به إلا بالمبادرة إلى الأعمال التي دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابها والتي منها: استخدام المكيال والميزان النبوي.
نعلم جميعا بأن الناس يحتاجون إلى ما يضبطون به أمور معاشهم، ومن ذلك اتخاذهم موازين ومكاييل معروفة لديهم يضبطون بها مبيعاتهم ونحوها، وإن المسلمين لم يزالوا من فجر الإسلام لهم مكاييل وموازين مخصوصة هي الصاع والمد في المدينة المنورة تكال بها الحبوب والثمار، والمثقال في مكة يوزن به الذهب، ولقد دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- بالبركة باستخدام المكاييل والموازين النبوية، حيث أبو سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا واجعل مع البركة بركتين "رواه مسلم.
وجاء في رواية لأبي هريرة –رضي الله عنه- قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فإذا أخذه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه "، وعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم ومدهم" يعني أهل المدينة متفق عليه.
قال ابن حجر: دعاؤه –صلى الله عليه وسلم- لأهل المدينة في صاعهم ومدهم، خصهم من البركة ما اضطر أهل الأفاق إلى قصدهم في ذلك المعيار المدعو له بالبركة، ليجعلوه طريقة متبعة في معاشهم، وأداء ما فرض الله عليهم اهـ.
وقال أيضا: وقد وُجد مصداق الدعوة بأن بورك في مدهم وصاعهم بحيث اعتبر قدرهما أكثر فقهاء الأمصار ومقلدوهم إلى اليوم في غالب الكفارات اهـ.
فهل لو رجعنا إلى هذه الموازين والمكاييل تكون أكثر بركة علينا وعلى اقتصادنا؟ لعله يكون ذلك.
ونحن اليوم بحاجة إلى مثل هذا المكيال النبوي ولو على المستوى المحلي خصوصا بعد انتشار أوعية مختلفة الأحجام والأشكال مجهولة الوزن من صناديق وسلال وأواني يباع فيها الرطب وغيره من محاصيل زراعية محلية، مما جعل الكثير من الناس يتذمرون من عدم توحد هذه الأوعية وجهلهم بوزنها، فلو أن البلدية قامت مشكورة بفرض صناديق أو أوعية بلاستيكية أو فلينية موحدة بحجم صاع وصاعين ومضاعفات الصاع النبوي على هؤلاء الباعة؛ لكان أكثر بركة في أرزاقنا جميعا، وأدعى للراحة النفسية للبائع والمشتري على حد سواء، كما أن فيه نشر وتداول للصاع النبوي في أسواق المسلمين وفي بلاد المسلمين، فيعرفه الناس: صغيرهم وكبيرهم، ويرونه بأعينهم، ويتداولونه فيما بينهم، بل ويستخدموه بأنفسهم في كيل زكوات فطرهم وكفاراتهم وغير ذلك، فإننا نرى الناس لا يزالون يسألون العلماء بين فترة وأخرى عن مقدار الصاع النبوي بالكيلوجرام من الأرز وغيره، إذا أرادوا أداء كفارة يمين أو زكاة فطر، فلماذا نبقى على هذا الجهل، ولا نستخدم مكاييل هي من تراثنا، بل ودعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لها بالبركة؟ ودعاءه –صلى الله عليه وسلم- مستجاب، وأين المحافظين على التراث، فلماذا لا ينادون بإحياء مثل هذا التراث؟ أدع الجواب لكم.
لقد نشر الاستعمار أفكاره وتقاليده وموازينه في البلاد التي استعمرها، ولكن المسلمين تقاعسوا عن نشر مبادئهم وتعاليم دينهم، إنك تجد كل دولة من الدول الصناعية لها مقاييسها وموازينها الخاصة التي تعتز بها وتسعى إلى نشرها، فالولايات المتحدة الأمريكية لها مقياس الرطل أو (الباوند) والجالون الأمريكي، وفرنسا لها مثل ذلك كالمتر والكيلو، وبريطانيا لها مثل ذلك كالقدم واليارد، والغريب أن هذه الدول تأبى أن تتنصل عن موازينها بينما المسلمون يتغربون عن دينهم وموازينهم ويرون الكفاية في غيره، وإنما وفر لنا ديننا ما يغنينا ويميز شخصيتنا أمام الحضارات الأخرى حتى في الموازين والمكاييل، فهل من عودة إلى ذلك؟ لا سيما أن هذه الموازين فيها بركة محققة بفضل دعاء رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
أيها الأخوة الكرام: لا يزال هناك أعمال دعا النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابها لعلنا نذكرها إن طالت بنا حياة في خطب قادمة بمشيئة الله تعالى.
اسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن لا يحرمنا من دعاء النبي ، وأن يحشرنا في زمرته، اللهم اهدنا لليسرى وجنبنا العسرى، اللهم قنا شر أنفسنا وبصرنا بعيوبنا، اللهم ارفع عن أمتنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم انصرنا على أعدائنا وانصرنا على أهوائنا، اللهم أشهدنا عز الإسلام وذل الكافرين، اللهم دمر أعداء الدين.... اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين....