كيف تحذر غضب الله؟ (ترك الدعاء) (3)
محمد بن إبراهيم النعيم
لقد أخبرنا رسولنا عن العديد من الأعمال والأقوال التي تغضب الله -عز وجل- وحذرنا من الوقوع فيها، فمتى ما حل على العبد غضب الله فقد هوى، قال تعالى محذرا )كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى(.
كنت معكم في خطب سابقة في موضوع كيف نحذر غضب الله -عز وجل-؟، وأجبت أن ذلك يكون بترك الكلام السيئ الذي يغضب الله- عز وجل-، وبعدم جحود النعم التي أسبغها الله علينا.
ومن الأعمال الأخرى التي تغضب الله -عز وجل-: ترك سؤال الله -عز وجل- وهجر الدعاء. فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: (مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ غَضِبَ عَلَيْهِ) رواه ابن ماجه، وفي رواية للترمذي أن النبي قال: (مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ). وقديما قال الشاعر:
لا تسألن بُنيَّ آدم حـاجـة وسل الذي أبوابُه لا تُحجبُ
اللهُ يغضب إن تركتَ سؤاله وبُنيَّ آدم حين يُسألُ يغضبُ
فالدعاء مطلب العارفين، ومطية الصالحين، ومفزع المظلومين، وملجأ المستضعفين، به تُستجلب النعم، وبمثله تُستدفع النقم. إن حاجة المسلم إلى ربه دائمة، فهو سبحانه الرزاق ذو القوة المتين، وما يصيب العباد من النعماء والخير فبفضله، ولا يمسهم شيء من الأذى والعنت إلا بعلمه وحكمته، ولا يرفع إلا بإذنه )وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْـئَرُونَ{ ، فبعض الناس إذا حزبه أمر من أمور الدنيا لجأ إلى معارفه ولمن يتوسط له، ولجأ إلى الناس عموما، وآخر من يفكر في اللجوء إليه؛ ربه عز وجل.
وإن المتأمل في سيرة النبي وأحواله، ليرى منه العجب في تعلقه بربه واللجوء إليه والإلحاح على الله بالدعاء والطلب وعدم اليأس والملل، مع أن دعاءه مجاب ورغبته محققة، فقد كان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة يسأل الله تعالى ويدعوه ويتضرع إليه، أما عند مدلهمات الأمور فإن نبينا كان يكثر ويلح في الدعاء، حتى إن أصحابه -رضي الله عنهم- ليشفقون عليه ويرحمونه من شدة تضرعه وسؤاله، قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: )إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ(، تستغيثون ربكم: تستجيرون به من عدوكم وتدعونه للنصر عليهم، فاستجاب لكم، فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضاً، ويتلو بعضهم بعضاً، ثم ساق سنده عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله إلى المشركين وعدتهم ونظر إلى أصحابه نيفاً على ثلاث مائة، فاستقبل القبلة فجعل يدعو ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض)، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه وأخذه أبو بكر الصديق فوضعه عليه ثم التزمه من ورائه ثم قال: كفاك يا نبي الله ـ بأبي وأمي ـ مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله: )إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ( اهـ. أرأيتم تعلق النبي بالدعاء؟
فالدعاء أهم عبادة بل هو العبادة لقوله (الدعاء هو العبادة)، وقد أخبرنا القرآن الكريم أن الدعاء عند مواجهة العدو من أمضى الأسلحة وأقواها، قال تعالى عن عباده المجاهدين: )وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ فَـاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ (.
وقال تعالى عن جند طالوت حين عاينوا جالوت وجنوده، وفر منهم من فر: }وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَـٰفِرِينَ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء {، وهكذا كل مسلم تنزل به نازلة أو تحل به أو بإخوانه نكبة، يلجأ إلى ربه بالدعاء والضراعة، ولا يمل، فقد قنت النبي شهرا كاملا - وهو مجاب الدعوة – ومع ذلك استمر يدعو لا يمل، يدعو على أشخاص بأسمائهم؛ لأنهم حاربوا المسلمين وعادوهم، ففي الصحيحين كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ..). قال ابن حجر رحمه الله تعالى: إنه كما شرع الدعاء بالاستسقاء للمؤمنين كذلك شرع الدعاء بالقحط على الكافرين لما فيه من نفع المسلمين بإضعاف عدو المؤمنين. اهـ.
والله تعالى قريب ممن دعاه، }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ{، والدعاء خيرٌ كله، ومن رفع يديه والتجأ إلى ربه ودعا لنفسه ولإخوانه المسلمين، لم يخسر شيئاً، بل سيربح إحدى ثلاث خصال أخبر بهن النبي بقوله: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاثٍ؛ إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا)، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: (اللَّهُ أَكْثَرُ) رواه الترمذي والحاكم، فهنا الصحابة قرروا أن يكثروا من الدعاء، فهل نعمل مثلهم؟ وقال : (الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء) أخرجه الحاكم.
أتهـزأ بالدعـاءِ وتزدَريـهِ ومـا تدري بما صنع الدعاءُ
سهامُ الليلِ لا تخطي ولكـن لها أمدٌ وللأمدِ انقضـاء
فلندعو الله دائما، فالله قريب مجيب، يسمع دعاءنا، ويرى مكاننا، ويعلم سرنا وعلانيتنا، فنسأله أن يثبتنا على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إن هدانا.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الحكمة والبيان، أقول قولي هذا و أستغفر الله لي لكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله مجيب دعوة المضطر إذا دعاه، والواعد بإجابة من دعاه فقال )ادعوني أستجب لكم( وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فاتقوا تعالى عباد الله وقولوا قولا سديدا، واحرصوا على سؤال الله -عز وجل- حتى لا نقع في غضب الله. لقد كان رسول الله يأمر ابنته فاطمة رضي الله عنها ويوصيها أن تلجأ إلى الله في كل أحوالها فقال: (ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت: يا حيُّ يا قيومُ برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين).
وللإكثار من سؤال الله -عز وجل-، فهناك أحوال عدة، وقد خص النبي الأمة بإكثار الدعاء عندها ومن أهمها:
(الحال الأول) أن نكثر من الدعاء في الرخاء:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ) رواه الترمذي والحاكم.
فلا ينبغي للمسلم أن يعرف ربه -عز وجل- ويلجأ إليه في الشدائد فقط ، فهذا حال المشركين، فقد قال تعالى ذاما صنيعهم )وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ(. وقال تعالى )وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(. وقال تعالى )وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً(.
وقديما قال الشاعر: صلى وصام لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر فلا صلى ولا صامَ
ولذلك أمر النبي أن نكثر سؤال الله تعالى في الرخاء ليعرفنا في الشدة، فقال : (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).
(الحال الثاني) الإكثار من السؤال أثناء الدعاء:
فإذا سألت الله تعالى، فلا تسأله شيئا واحدا، ولا تسأله لمرة واحدة وإنما أكثر من السؤال وأكثر من الطلبات، لأنك تسأل وهابا كريما يعطي بلا حساب، فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: (إذا سأل أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه) رواه ابن حبان. وروت أيضا رضي الله عنها أن النبي قال: (إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه) رواه الطبراني.
(الحال الثالث): إكثار الدعاء عند السجود:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ) رواه مسلم. والإكثار من الدعاء أثناء السجود؛ يلزمه إطالة السجود قليلا، وأن لا ننقر الصلاة نقرا.
واعلموا –أحبتي في الله- أن الله عز وجل بحكمته قد يبتلي عباده بالبأساء والضراء؛ لأنه يريد منهم أن يتضرعوا إليه ويسألوه وحده، قال تعالى )وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ{، وقال تعالى )وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ(، وقال تعالى )فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{، فبعض الناس تراه يتفرج على مآسي المسلمين عبر الفضائيات، وقد يكتفي بالاسترجاع والحوقلة والتحسب، ولكنه لا يفكر أن يحرك لسانه بالدعاء لهم أو يصلي ركعتين في جوف الليل يدع لهم أو أن يأتي على الأقل مبكرا إلى الصلاة ليدعوا الله لهم فإن الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد، فهل فعلنا ذلك؟
وقد أخبرنا المصطفى بأننا نُنصر بدعاء الصالحين والضعفاء من هذه الأمة، فقال (إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ) رواه النسائي
يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.