كيف تحذر غضب الله (إرضاء الناس بسخط الله) (12)
محمد بن إبراهيم النعيم
لقد أخبرنا رسولنا عن أعمال وأقوال تغضب الله عز وجل وتسخطه وحذرنا من الوقوع فيها، فمتى ما حل على العبد غضبُ الله فقد هوى، قال تعالى:}َومَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى{.
أيها الإخوة في الله، كنت قد ذكرت لكم في إحدى عشرة خطبة سابقة، عن بعض الأعمال التي تغضب الله عز وجل ولا يزال هناك بعض الأفعال التي تدل على غضب الله عز وجل على العبد، ومنها إرضاء الناس بسخط الله.
فمن أسباب غضب الله تعالى على العبد أن يُرضي الناس ولو بسخط الله، خوفا من كلامهم، أو مجاملة لهم، أو طمعا فيما عندهم. فقد روت عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ، سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ) رواه ابن حبان. والسخط هو الغضب الشديد المقتضي للعقوبة.
إن الكثير من الناس اليوم ليشقى طوال حياته، فتراه يبذل أقصى جهده من أجل أن يُرضي فلانا أو علانا من الناس، وربما ارتكب من أجل ذلك الكثير من المعاصي، وربما تلاعب بالقيم، وزوّر الحقائق، وباع دينه وأمانته وأخلاقه؛ ليصل إلى هذا المطلوب! والله -سبحانه وتعالى- لم يأمر بذلك بل أمر بنقيض ذلك فقال: }وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ{.
وترى الموظف يرى المخالفات تُرتكب أمامه، ويسكت عنها إرضاءً لمديره، وقد تجد من يشهد الزور من أجل أصحابه وجماعته، وتجد من يعق أمه وأباه إرضاءً لزوجته، وتجد المرأة ترضي زوجها ولو خالفت شرع ربها، وقد يكون أحدنا في مجلس، فيسمع الغيبة والنميمة، فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، إرضاءً لمن في ذلك المجلس ومجاملة، وحتى لا يعكر عليهم متعة الحديث، فهذا أرضى الناس بسخط الله.
وترى بعض الناس قد يحلق لحيته ويطيل ثوبه ويقع في العديد من المحاذير ويقدم تنازلات عديدة تغضب الله عز وجل، فلا يظهر بالمظهر الإسلامي الصحيح، خوفا من انتقاد الناس وطلبا لرضاهم، ولو بسخط الله.
وترى بعض التجار تنصحه ألا يبيع بعض السلع المحرمة، فيرفض بحجة إرضاء زبائنه. وترى البعض يسرف ويبذر في ولائم الأعراس، إرضاءً للناس أو خوفا من انتقادهم، وليس خوفا من عاقبة نهي الله تعالى عن التبذير. فظاهرة الخوف من كلام الناس وانتقادهم، أصبحت تتضخم عند الناس حتى أصبح البعض منهم يخاف من كلامهم ويحاول إرضاءهم ولو بسخط الله عز وجل.
وعلى مستوى الأمة دولاً وشعوبًا ومجتمعات، تجد بعضها لا يطبق شرع الله ولا يحتكم إلى دينه، أو قد يستحي أن يعلن للعالم أنه يستمدُ تشريعاته من الإسلام إرضاءً للغرب، وخوفا من منظمات حقوق الإنسان اليهودية التي تكيل بمكيالين. والله قد أخبرنا سلفا بقوله: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)، وترى البعض من هؤلاء يداهنون من فوقهم إرضاء ومجاملة لهم، ولو أوقعهم ذلك في سخط الله، ولو على حساب شعوبهم وإخوانهم المسلمين والمذابح التي تحصل لإخواننا في سوريا ليست منا ببعيد.
وترى بعض الدول الإسلامية التي تضعُ الجذب السياحي هدفا لها، تسمح بالخمور والمراقص في بلادها إرضاء لهؤلاء السياح، ولو بسخط الله عز وجل.
لقد استدعى عمر بن هبيرة والي العراق الحسن البصري والإمام الشعبي ليسأل عما يبعثه إليه الخليفة من أوامر تحتوي على ظلم، هل ينفذُها أم لا، فسأل عمرُ الشعبي في هذا الموقف أولاً، فقال كلامًا يرضي الوالي والخليفة، والحسن البصري ساكت، فلما انتهى الشعبي من كلامه التفت عمرُ بن هبيرة إلى الحسن وقال: وما تقول أنت يا أبا سعيد؟! فوعظه الحسن البصري موعظة قوية أمره فيها بالمعروف ونهاه فيها عن المنكر، ولم يداهن أو يواري، فقال فيما قال: "يا ابن هبيرة: خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله -عز وجل- يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة: إنه يوشك أن ينزل بك مَلَكٌ غليظ شديد، لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك هذا، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك، يا ابن هبيرة: إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد في الدنيا والآخرة، وإن تك مع يزيد في معصيته فإن الله يكلك إلى يزيد، واعلم -يا ابن هبيرة- أنه لا طاعة لمخلوق كائنًا من كان في معصية الخالق -عز وجل-"، فبكى عمر بن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته، وأكرم الحسن البصري إكرامًا شديدًا، ولم يلتفت إلى الشعبي، فلما خرج الحسن والشعبي وذهبا للمسجد، واجتمع الناس ليعرفوا خبرهما، التفت الشعبي للناس بعد أن تعلم درسًا مهمًّا، تعلم أن لا يرضي أحدًا دون الله تعالى بعد ذلك، قال: يا أيها الناس: من استطاع منكم أن يؤثر الله -عز وجل- على خلقه في كل مقام فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولاً لا أجهله -يعني كنت أستطيع أن أقول مثل ما قال الحسن-، ولكن أردت فيما قلت وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن فيما قال وجه الله.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.
اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة، ولوجهك خالصة، واجعل رضاك أحبَّ إلينا من أنفسنا ومن الدنيا وما سواها، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد، فقد كتب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كتابا إلى أمّنا عائشة رضي الله عنها قائلا: "اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري، فكتبت إليه -رضي الله عنها- فقالت: "أما بعد: فقد سمعت رسول الله يقول: (من الْتمسَ رضا الله بسخط الناس، رضِي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا النَّاسِ بسخط الله، سخِطَ الله عليه وأسْخَط عليه الناس) رواه الترمذي وابن حبان.
فمهما عمل الإنسان لاستعطاف وجذب قلوب الناس ونيل رضاهم فلن يستطيع خصوصا إذا كان مقابله فعل المحظور وترك المأمور؟ فسينقلب حامده ذاما له.
فالناس أخي الكريم الذين تترك ما يحبه الله تعالى من أجلهم، وترتكب ما يغضب الله تعالى خوفا من ألسنتهم، لن يدخلوا معك في قبرك، ولن يثقلوا ميزان حسناتك، ولن يمسكوا بيدك للمرور على الصراط يوم القيامة، فاحرص على ما ينفعك، ودع الناس وكلامهم، والتمس ما يرضي ربك، والله عز وجل يقول:} أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{، ويقول: }وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ{.
إن من علامات ضعف اليقين بالله عز وجل إرضاء الناس ولو بسخط الله، فلنحرص كل الحرص على بلوغ رضاه جل وعلا دون سواه، فبيده خزائن السموات والأرض.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا==اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت == اللهم أحينا على أحسن الأحوال == اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا == اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا.