كونوا مع الصادقين
محمد بن عبدالله التميمي
الحمد لله الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله الصادق المصدوق {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} عليه وعلى صحبه ومن تبعهم بإحسان من الصديقين والشهداء والصالحين صلوات رب العالمين وتسليمه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ربِّ العالمين، ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾ في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، قال الله تعالى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾، في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "علَيْكُم بالصِّدْقِ، فإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرّى الصِّدْقَ حتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وإيّاكُمْ والْكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النّارِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرّى الكَذِبَ حتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّابًا" قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ، وَلَا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ صَبِيِّهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا ينجز له، اقرؤوا إِنَّ شِئْتُمْ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾. قال البيهقي رحمه الله: "فَأوَّلُ ما دَخَلَ فِي هَذا لُزُومُ الصِّدْقِ ومُجانَبَةُ الكَذِبِ ولِلْكَذِبِ مَراتِبُ، فَأعْلاها فِي القُبْحِ والتَّحْرِيمِ الكَذِبُ عَلى اللهِ، ثُمَّ عَلى نَبِيِّهِ ﷺ، ثُمَّ كَذِبُ المَرْءِ عَلى عَيْنَيْهِ وعَلى لِسانِهِ وسائِرِ جَوارِحِهِ وكَذِبُهُ عَلى والِدَيْهِ، ثُمَّ كَذِبُهُ عَلى الأقْرَبِ فالأقْرَبِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأغْلَظُ ذَلِكَ كُلِّهِ ما يَضُرُّ بِهِ أحَدًا فِي نَفْسِهِ أوْ مالِهِ أوْ أهْلِهِ أوْ ولَدِهِ، ثُمَّ الكَذِبُ المُوبِقُ بِاليَمِينِ أغْلَظُ ذَلِكَ مِنَ الكَذِبِ المُتَجَرِّدِ عَنِ اليَمِينِ، ويَتْلُو الكَذِبَ فِي الكَرامَةِ المَلَقُ، والإفْراطُ فِي مَدْحِ الرَّجُلِ وأقْبَحُ ذَلِكَ ما كانَ فِي وجْهِهِ ويَتْلُوهُ الخَوْضُ فِيما لا يَعْنِي ولا يَرْجِعُ إلى الخائِضِ فِيهِ مِنهُ نَفَعٌ ولا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنَ السُّكُوتِ ضَرَرٌ".
وقد نهى الله جَلَّ وعَلا عَنِ اتِّباعِ الإنْسانِ ما لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، ويَشْمَلُ ذَلِكَ قَوْلَهُ: رَأيْتُ، ولَمْ يَرَ. وسَمِعْتُ، ولَمْ يَسْمَعْ، وعَلِمْتُ، ولَمْ يَعْلَمْ. ويَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ قَوْلٍ بِلا عِلْمٍ، وأنْ يَعْمَلَ الإنْسانُ بِما لا يَعْلَمُ، قالَ تعالى فِيما وصى بِهِ نَبِيَّهُ ﷺ ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ فاللهَ تَعالى يَسْألُ الإنْسانَ عَمّا حَواهُ سَمْعُهُ وبَصَرُهُ وفُؤادُهُ، عَمّا وَقَعَ مِنها مِنَ الخَطايا، وهو سبحانه يَسْألُ سَمْعَ الإنْسانِ وبَصَرَهُ وفُؤادَهُ عَمّا قالَ مِمّا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَيَقَعُ تَكْذِيبُهُ مِن جَوارِحِهِ، وتِلْكَ غايَةُ الخِزْيِ، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} { یَوۡمَ تَشۡهَدُ عَلَیۡهِمۡ أَلۡسِنَتُهُمۡ وَأَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ}، وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كُنّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ ﷺ فَضَحِكَ، فَقالَ: "هلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟" قالَ: قُلْنا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: "مِن مُخاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ؛ يقولُ: يا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قالَ: يقولُ: بَلى، قالَ: فيَقولُ: فإنِّي لا أُجِيزُ على نَفْسِي إلّا شاهِدًا مِنِّي، قالَ: فيَقولُ: كَفى بنَفْسِكَ اليومَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرامِ الكاتِبِينَ شُهُودًا، قالَ: فيُخْتَمُ على فِيهِ، فيُقالُ لأَرْكانِهِ: انْطِقِي، قالَ: فَتَنْطِقُ بأَعْمالِهِ، قالَ: ثُمَّ يُخَلّى بيْنَهُ وبيْنَ الكَلامِ، قالَ: فيَقولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا؛ فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُناضِلُ". قَالَ قَتَادَةُ: ابْنَ آدَمَ، وَاللَّهِ إِنَّ عَلَيْكَ لَشُهودًا غيرَ مُتَّهَمَةٍ مِنْ بَدَنِكَ، فَرَاقِبْهُمْ وَاتَّقِ اللَّهَ فِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَالظُّلْمَةُ عِنْدَهُ ضَوْءٌ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ بِاللَّهِ حَسَنُ الظَّنِّ، فَلْيَفْعَلْ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
عباد الله.. إن نهي الله أن يتبع الإنسان ما ليس له به على يشمل: ما يكون من اتباع للظنون الكاذبة والشائعات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "بئس مطية الرجل زعموا"، فيكون الإنسان ناقلاً لأمور لم يحققها ولم يتثبت منها، فمجرد ما يسمع الشيء أو يقرؤه في مكان فهو يسارع في نقله، وهكذا يدخل فيه كل ما لم يتثبت ويتوثق منه الإنسان في الديانة، فيدخل فيه اتباع الأهواء والبدع، والأمور المضلة.
إن على الإنسان أن يتوثق في كل ما يأتي وما يذر، فلا يفعل شيئاً إلا عنده فيه من الله برهان، ولا يتكلم بشيء إلا ويعلم أنه حق، وأن بيانه فيه مصلحة ونفع، وأنه خير من السكوت، وإلا فـ"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" وما كل ما يُعلم يقال، وما كل ما يسمعه الإنسان يحدث به، قال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع".
حريٌّ بالمؤمن الصادق الذي يخاف على إيمانه، ويخاف أن يُتَخَطَّفَ منه هذا الإيمان، وأن يتحول بعده إلى الشك أو النفاق، حريٌّ به أن يتضاعف خوفه في هذا الزمان، فاللهَ اللهَ بالتَّثَبُّتِ في كل الأمور، عليك يا عبد الله أن تتثبت في كل خطوة تخطوها، فلا تقدم على شيء حتى تتثبت أن هذا من محابِّ الله ولا تتكلم بكلام حتى تعلم أن هذا مما يُرضي الله - تبارك وتعالى - ولا تَتْبَع أحداً في اعتقاد، أو فعل من الأفعال حتى تعلم أن هذا مما يقربك إلى الله.
إن التثبت في الأمور كلها دليل على حُسن الرأي والنظر، وهو بإذن الله مُؤْذِنٌ بحسن العاقبة، فتكون عاقبة الإنسان إلى خير وطمأنينة وثبات إيمان في زمان تزلزل فيه إيمان كثير من الناس، فإذا التبست على المؤمن الأمور فإن الواجب عليه أن يقف.
عباد الله، الزموا ما عرفتم، واثبتوا عليه، وعضوا عليه بالنواجذ حتى تلقوا الله وأما من جعل سمعه، وبصره، وقلبه ميداناً لهذه المقالات، والشبهات، والأهواء، والاختلافات فإن ذلك يورثه الحيرة في أقل أحواله.
الخطبة الثانية
أما بعد: فاتقوا الله واصدقوا عقيدة ونية وحالا ولسانا، واعلموا أن اللسان صغير حجمه وجِرْمُه، عظيم طاعته وجُرْمُه، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وسيحاسب عليه في يوم الوعيد.
أخَذ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يومًا بلسانه وقال: "يا معاذ، كُفَّ عليكَ هذا، فقال معاذ: وإنَّا لَمؤاخذون بما نتكلمُ به يا رسولَ اللهِ؟، فقال: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا معاذُ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن العبد لَيتكلم بالكلمة يَزِلُّ بها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب"، وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته".
المرفقات
1666875915_كونوا مع الصادقين.docx