كونوا كعجوز بني إسرائيل

كونوا كعجوز بني إسرائيل

أخرج بن حبان في صحيحة عَنْ أَبِي مُوسَى ، رَضِيَ الله عَنْهُ ، قَالَ : أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم أَعْرَابِيٌّ فَأَكْرَمَهُ ، فَقَالَ لَهُ : ائْتِنَا فَأَتَاهُ ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : سَلْ حَاجَتَكَ فَقَالَ : نَاقَةٌ نَرْكَبُهَا ، وَأَعْنُزٌ يَحْلِبُهَا أَهْلِي فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : عَجَزْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِثْلَ عَجُوزِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ الله ، وَمَا عَجُوزُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟! قَالَ : إِنَّ مُوسَى لَمَّا سَارَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ ضَلُّوا الطَّرِيقَ فَقَالُوا : مَا هَذَا ؟! فَقَالَ عُلَمَاؤُهُمْ : إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَخَذَ عَلَيْنَا مَوْثِقًا مِنَ الله أَلاَّ نَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ حَتَّى نَنْقُلَ عِظَامَهُ مَعَنَا قَالَ : فَمَنْ يَعْلَمُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ ؟ قَالُوا : عَجُوزٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا فَأَتَتْهُ فَقَالَ : دُلِّينِي عَلَى قَبْرِ يُوسُفَ قَالَتْ : حَتَّى تُعْطِينِي حُكْمِي قَالَ : وَمَا حُكْمُكِ ؟! قَالَتْ : أَكُونُ مَعَكَ فِي الْجَنَّةِ فَكَرِهَ أَنْ يُعْطِيَهَا ذَلِكَ ، فَأَوْحَى الله - تَعَالَى - إِلَيْهِ أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا ، فَانْطَلَقَتْ بِهِمْ إِلَى بُحَيْرَةِ - مَوْضِعِ مُسْتَنْقَعِ مَاءٍ - فَقَالَتْ : أَنْضِبُوا هَذَا الْمَاءَ فَنَضَبُوهُ ، قَالَتْ : احْتَفِرُوا فَاحْتَفَرُوا ، فَاسْتَخْرَجُوا عِظَامَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، فَلَمَّا أَقَلُّوهَا إِلَى الأَرْضِ إِذَا الطَّرِيقُ مِثْلُ ضَوْءِ النَّهَارِ (  [1] ) .

لقد صور هذا الحديث حال العباد فقسمهم قسمين كما قال الله تعالى ( مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) ( ال عمران : 152 ) ، فسمعنا عن هذا الأعرابي الذي أكرم النبي صلى الله عليه وسلم وأحسن ضيافته فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد إليه الجميل فقال له ائْتِنَا فَأَتَاهُ ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : سَلْ حَاجَتَكَ ، لكم أن تتخيلوا أن رسول الله صلوات الله تعالى عليه الذي معه الوحي يقول له تمني سل ما تريد ، لو قال الأعرابي أريد مرافقتك في الجنة يا رسول الله لنالها ، فيا ترى ماذا طلب هذا الأعرابي لقد كانت أمنيته منصبة نحو الدنيا ، إن غاية ما تمنى الأعرابي أن قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أريد نَاقَة نَرْكَبُهَا ، وَأَعْنُزا يَحْلِبُهَا أَهْلِي ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم أمته أن يغتنموا الفرص ولا يضيعوها وأن يكونوا كعجوز بني إسرائيل التي اغتنمت الفرصة و تمنت أن ترافق نبي الله موسي في الجنة فنالت هذه الأمنية ،وهكذا يتمنى الصالحون فقد جلس عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يوما فقَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَمَنَّوْا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: تَمَنَّوْا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ لُؤْلُؤًا وَزَبَرْجَدًا وَجَوْهَرًا، فَأُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَنَّوْا، فَقَالُوا: مَا تَرَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ رِجَالًا مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمِ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَحُذَيْفَةِ بْنِ الْيَمَانِ فَأَسْتَعْمِلَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ (  [2] ) .

عجبا لهذه العجوز التي تركت دنيا الناس وأقبلت نحو الحياة الباقية لقد أيقنت هذه العجوز أن هذه الدنيا زائلة فانية وذاهبة مضمحلة ، وأنها لن تستقيم لأحد فقد طبعت على كدر ، ففي الدنيا فتنٌ وحوادثُ ومصائبُ ونكباتُ، مَرَضٌ وهمٌّ وغمُّ وحزنٌ ويأسٌ.

طُبِعَتْ على كدرٍ وأنت تريدُها *** صفواً من الأقذاءِ والأكدارِ

لقد أيقنت هذه العجوز أن النعيم الباقي الذي لا يزول إنما هو في جنة الله تعالى ، ففي الجنة لا مرض ولا هرم ولا موت ولا شقاء ولا بؤس ، المريض شُفي، و المهموم سُعد، والشيخ عاد شاباً، والعجوز رجعت فاتنة ،لقد تخيلت كيف تكون في الجنة فإذا دخلتها سيذهب بياض شعرها ، ويستقيم إنحاء ظهرها ، ستزول التجاعيد والهالات السوداء من وجهها ، ستعلو النضارة بشرتها ، ستنقلب إلى شابة حسناء تسر الناظرين ، ستعود بكرا في ريعان شبابها ، يوم أن ينادي عليهم فيها « يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ، إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلاَ تَسْقَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلاَ تَمُوتُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلاَ تَهْرَمُوا أَبَدًا وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلاَ تَبْتَئِسُوا أَبَدًا ». فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ( [3]  ) ليس هذا فحسب بل ستكون في أعلى درجات الجنة في صحبة أنبياء الله تعالى ، يا لها من ذكية فاطنه يوم أن قررت أن ترافق كليم الرحمن موسى عليه السلام وأبت إلا أن تضع رحلها في جنة عرضها الأرض والسماء .

إن أفضل ساعة مرت على هذه العجوز منذ أن ولدت تلكم الساعة التي أوحى الله تعالى فيها إلى كليمه موسى عليه السلام (أَنْ أَعْطِهَا حُكْمَهَا ) هذه الكلمة التي تجعلها من أهل الدرجات العلى في الجنة ، تعيش في هذه الدنيا الفانية وتمشي بين الناس وقد سجلت وكتبت هذه مع كليم الرحمن موسى عليه السلام في الجنة ، لك أن تتخيل أن نبيا من أنبياء الله تعالى يقول لك أنت معي في الجنة كيف تكون فرحتك، سيفارق النوم مقلتيك ، تريد أن تنقضي الدنيا مسرعة ، ستقضي أيامك الباقية لك في الدنيا وأنت في شوق ولهفة لهذه اللحظة ،لقد نالت عجوز بني إسرائيل ما تمنت من مرافقة كليم الرحمن موسي عليه السلام في الجنة وهي نفس الأمنية التي تمناها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فنالها لما كان صادقا فيها فعن علي رضي الله عنه قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي وَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ النِّسَاءَ فَانْتَهَى إِلَى رَأْسِ الْمِائَةِ فَجَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْأَلْ تُعْطَهْ اسْأَلْ تُعْطَهْ ثُمَّ قَالَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ لِيُبَشِّرَهُ وَقَالَ لَهُ مَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَارِحَةَ قَالَ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقَكَ قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ مَا سَبَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا سَبَقَنِي إِلَيْهِ ) ( [4]  ) .

كونوا كعجوز بني إسرائيل اغتنموا الفرصة التي اغتنمتها اغتنموا مواسم الطاعات التي يضاعف الله تعالى فيها الحسنات ويغفر السيئات ويتجاوز عن المعاصي والزلات ، اغتنموا أوقاتكم بالتسبيح والذكر وقراءة كتاب ربكم

فلو داواك كل طبيب داءٍ *** بغير كلام ليلى ما شفاكا

 اغتنموا أوقاتكم  في ركعات وسجدات لرب الأرض والسماوات ، كان الإمام البخاري صاحب الصحيح رحمه الله تعالي دائما ما يردد

اغتنِم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى      أن يكون موتكَ بغتـة
كم صحيحٍ رأيتَ مِن غير سُقمٍ ذهبَتْ نفسه الصحيحة فلـتـة

كونوا كعجوز بني إسرائيل واغتنموا شبابكم قبل أن تهرموا إن لم تتعبدوا لله في شبابكم فمتى تتعبدون ، إن لم ينكسر صلبكم بين الله تعالى فمتى له تركعون وتسجدون ، أتتعبدون لله حين تخور منكم القوى وتثقلكم الديون وتحل بكم الأمراض والأسقام ،وتنامون على الأسرة البيضاء لا تتحركون ، أتتعبدون لله تعالى حين ترتخي المفاصل وتعجز أعضائكم عن حملكم ، بالله عليكم أخبروني متى لله تتعبدون

أَتَرجو أَن تَكونَ وَأَنتَ شَيخ    كَما قَد كُنتَ أَيّامُ الشَباب
لَقَد كَذَّبتَكَ نَفسَكَ لَيسَ ثَوب دَريسُ كَالجَديدِ مِنَ الثِياب

كونوا كعجوز بني إسرائيل اغتنموا أعماركم التي هي رأس تجارتكم فلا تضيعوها في اللهو والغناء والفجور ، اغتنموا أموالكم طوفوا بها حول بيوت الفقراء والمساكين ، ا مسحوا سواقي دمع الأيتام بها ، أدخلوا بها البسمة على الثكالى والأرامل ، اكفوهم مؤونة الدنيا ليكفيكم ربكم مؤونة الأخرة

قَدَّمْ لنَفسِك خَيراً     وأنتَ مالِكُ مالِكْ
  من قبل تصبح فردا  ولَونُ حالِكَ حالِكْ
 ولست والله تدرى   أيَّ المَسالِكِ سالِكْ
إما لجنات عدن  أو في المهالك هالك

كونوا كعجوز بني إسرائيل وتسابقوا لكي تحطوا رحالكم في الجنة ، قال الحسن البصري رحمه الله تعالى (لا يجعل الله عز وجل عبداً أسرع إليه كمن أبطأ عنه ) فلا يستوي في ميزان الله تعالى من أسرع إليه كمن أبطأ عنه قال الله تعالى ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ  ) ( ص:28 ) .

لكم أن تتخيلوا كيف ستكون أول لحظة لهذه العجوز  وأول ليلة وأول صباح لها في الجنة وقد انتهى العمل والتكليف وفرغ الناس من الحساب و غادرت عالم النفاق و الشرور والحروب والكراهية ، واختفاء الشيب ووهن العظم وضيق الصدر والأدوية والأجهزة والمهدئات ، أما اشتقت لهذه اللحظة أول لحظة لك في الجنة  حين ترى الأنهار والقصور و الثمار والخيام والذهب واللؤلؤ والحرير حين تلتقي بأحبة ماتوا منذ زمن وغابوا عن أعيننا ،  حين يلتقي الابن البار بأمّه، والشيخ الفان بابنته كيف ستكون لحظة رؤية الله سبحانه وتعالى وهو يقول: (قد رضيت عليكم فلا أسخط عليكم أبدا) فيا إلهي، رُدَّنا إلى الوطن الحقيقي الذي لا غربةَ فيه سالمين، وأنعِمْ علينا بالرضا الذي لا سخطَ بعده! اللَّهُمَّ إِنِّا نسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم  فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ .

[1] ـ صحيح بن حبان ( 2 / 500 ) وصححه الألباني في السلسة الصحيحة ( 1 / 313 ) .

[2] ـ المستدرك على الصحيحين وسنده حسن :( 3 /  5005 ) ، فضائل الصحابة:( 2 / 1280 )

[3] ـ صحيح مسلم ( 8 / 7336 ) .

[4]  ـ صحيح بن حبان  ( 7 / 303 )  وحسنه الألباني في السلسة الصحيحة ( 5 / 2301 ) .

المشاهدات 2439 | التعليقات 0