كورونا ذكرى للبشر
د مراد باخريصة
كورونا ذكرى للبشر
عباد الله:
إنَّ الله سبحانه وتعالى خلق الكون ودبَّره وحركَّه وسيَّره وجعل فيه سنناً كونية وأنظمة إلهية لا تتغير ولا تتخلف.
لقد جعل الله في هذا الكون نظاماً مستقيماً يمشي بحكْمه وحِكمته سبحانه وتعالى ويمضي بقدَره وعدله فمن واكبه فقد فاز فوزاً عظيماً في الدارين ومن خالفه وعانده خسر خسراناً عظيماً في الدنيا قبل الآخرة.
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا* {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه 123: 126].
إن كورونا آية عظيمة من آيات الله الكبرى وسنة كونية من سنن الله العظمى في هذا العصر.
سمع عنه الصغير والكبير والقريب والبعيد والمتعلم والجاهل ولكن تحيَّر فيه الجميع ووقف الكل مذهولاً أمام هذا المخلوق الصغير الذي لا يكاد أن يُرى بالعين المجردة.
كيف لهذا المخلوق البسيط أن يصيب العالم كله في شلل تام فيوقف حركته ويعطل مدارسه وجامعاته ويوقف رحلاته البرية والبحرية والجوية ويغلق الحدود بين دول العالم ويحبس ملايين البشر في بيوتهم ويجمد الحركة الاقتصادية والاجتماعية في أكثر الدول ويلغي كثيراً من الفعاليات والمؤتمرات والنشاطات ويتسبب في انهيارات اقتصادية عالمية مذهلة ويعيد الدنيا بأسرها إلى عقود سابقة.
وأكبر من هذا كله أن يتسبب في توقيف الطواف ببيت الله العتيق الذي لم يتوقف الطواف حوله على مر تاريخ البشرية إلا في حالات نادرة.
سبحان الله العظيم جندي بسيط من جند الله يتسبب في كل ذلك وأكثر وفي فترة قياسية بسيطة.
إنها قدرة الله الجبار القادر وإرادة الله وأمره الذي لا يُغلب ولا يقهر {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف : 21].
يريد الله أن يُرينا ضعفنا وعجزنا وقلة علمنا وبساطة معلوماتنا وهشاشة أجهزتنا وتطورنا كما قال الله: { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء : 28] وقال جل وعلا: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء : 85].
أي والله وقف العالم كله ذليلاً ضعيفاً أمام مخلوق ضعيف فسبحانك ربي ما أعظمك وما أقدرك وما أعظم قوتك وقدرتك.
سبحانك سبحانك ما أكبر سلطانك وما أعظم شأنك وما أوضح برهانك وما أعز بنيانك وما ألطف حنانك.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر : 2].
ظنوا أن أجهزتهم وعلمهم وصناعاتهم وترسانتهم وقواتهم ستدفع عنهم جنديا واحداً من جند الله أو تمنع عنهم عذاب الله فجاءهم بأس الله من حيث لا يشعرون ومن حيث لا يتوقعون.
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل : 26].
{أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [النحل : 45].
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام : 148].
ويقول سبحانه: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء 12: 14].
ظنوا أن الله غافلاً عما يعملون وحسبوا أن الله ناسيا لما يفعلون وأخذوا يظلمون يبطرون ويتبجحون ويتعجرفون ويتكبرون ويحرقون شعوبا مستضعفة في الصين والهند وبورما وسوريا وفلسطين وغيرها من البقاع التي يتحكمون فيها ويفعلون فيها ما يشاءون ويعملون بأهلها ما يريدون فأتاهم الله بحوله وقوته وجاءهم بالأمر من عنده وصدق الله سبحانه وتعالى إذ يقول: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة : 52].
أتاهم أمر الله فأوقف ظلمهم وأشغلهم بأنفسهم وأخرج كثيراً من المظلومين من سجونهم وأوقف اجتماعاتهم وتجمعاتهم وانتشر الداء والوباء بينهم انتشار النار في الهشيم وأراهم الله عجزهم وضعفهم وحقيقة أنفسهم {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل : 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [النساء : 47].
فهل يستطيعون أن يوقفوا أمر الله إذا لم يُردْ الله؟ وهل لهم ملجأ أو ملجأ من أحد غير الله؟
{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود : 43].
{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد : 11].
جاء كورونا ليعلم البشرية كلها أن الله موجود وأن لله الأمر من قبل ومن بعد وأن القوة لله جميعاً فلا السلاح النووي ينفع، ولا القوة الاقتصادية تنفع ولا الأنظمة البشرية تنفع ولا الاستعدادات الطبية والحيوية تنفع.
صرنا نرى دولاً ترى نفسها أنها دول عظمى وأنظمة كبرى وإذا بها اليوم تتسول الكمامات والمناديل أعزكم الله وتشحتها شحاتة ممن هو أقل منهم وأدنى {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر : 31].
نعم ذكرى للبشر عندما نرى كورونا يجعل تلك الشعوب تطبق الإسلام وتلتزم بها من حيث تعلم أو لا تعلم فتتحجب النساء وتغطي شعورهن بل ووجوههن وتستر أياديهن وأرجلهن ويغسلون بالماء عدة مرات في اليوم أيديهم وأعضائهم ويمنعون اختلاط الرجال بالنساء فيما بينهم نظراً لأن مناعة الرجل تختلف عن مناعة المرأة ويوقفون العري والتفسخ والاختلاط والملامسة خشية الفيروس الذي ينتقل باللقاءات والاجتماعات ويخافون من أكل الحشرات واللحوم المحرمة خوفاً من فيروساتها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين، وشدة المئونة، وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم ".
لقد صدق الله القائل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت : 53].
وصدق سبحانه إذ يقول: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل : 93].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطبة الثانية:
جاء كورونا ليعلمّ المسلمين أن يغلقوا محلاتهم للصلوات ولقاء الله في اليوم والليلة خمس مرات قبل أن يضطروا لإغلاقها في جميع الأزمنة والأوقات.
جاء كورونا ليعلم المسلمين أن قضاء الله لا مرد له وأن سنن الله في الكون لا تحابي أحداً يقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث.
فهذه الطواعين والأوبئة والأمراض الفتاكة هي أقدار الله وحكمته يصيب بها من يشاء من عباده الصالحين ابتلاء واختباراً فيكون ذلك البلاء شهادة لهم ورحمة ويصيب بها الكافرين والعصاة فتكون عقاباً وعذاباً لهم في الدنيا قبل الآخرة.
يقول النبي النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «الطاعون شهادة لكل مسلم».
وعن عائشة رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني «أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد» رواه البخاري ومسلم.
فخذوا حذركم واعملوا بالأسباب وتوكلوا على الله والجئوا إليه واجئروا إليه بالتضرع والدعاء برفع الوباء ودفع البلاء عن المسلمين في كل مكان.
وإياكم وشائعات الواتساب وأراجيف الفيس بوك وأكاذيب التلجرام وترهات مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي التي كثرت عندما جلس الناس في بيوتهم وتعطلت مدارسهم وأعمالهم.
وتفائلوا خيراً وأحسنوا الظن بالله فإن الله عند حسن ظن عبده به.
هذا وصلوا وسلموا ..