كورونا احترازٌ واعتبارٌ
راشد بن عبد الرحمن البداح
11 رجب 1441 هـ. الحمدُ للهِ ربِ العالمينَ، يكورُ الليلَ على النهارِ، ويكورُ النهارَ على الليلِ، يُقدرُ الآجال، ويُعقِبُ أجيالاً بأجيالٍ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك له، وهو شديدُ المحالِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه حلَ في هذهِ الدنيا ثم آذَنَ بارتحالٍ، ولو قُدرَ لأحدٍ الخلودُ فيها لكانَ المصطفَى حياً مخلداً، فاللهم صلِ وسلِمْ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ الأكثرِ شرفًا ومَحْتِدًا. أما بعدُ: فاتقوا اللهَ؛ ففي هذا الشهرِ الحرامِ شهرِ رجبٍ الفردِ تتأكدُ التقوى، ويزدادُ فيهِ تعظيمُ اللهِ واستغفارُه: {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.
فيا أيُها المؤمنونَ: مرضٌ انتشرَ، وانشغلَ به عامةُ البشرِ، لكنه ليسَ مرضَ كورونا، لا؛ بل ثمتَ ما هو أشدُ من كورونا. إنه مرضُ الهمِ والوهمِ، وسببُه تداولُ الأخبارِ المزعجةِ، وتَناقُلُ الشائعاتِ، والتي يُضخِّمُها حديثُ المجالسِ، وتغريداتُ تويترَ، ورسائلُ الواتس.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَحِينَ تَقَعُ الْأَزَمَاتُ تَكْثُرُ الشَّائِعَاتُ، وَيَأْثَمُ مَرَّتينِ مَنْ يَنْشُرًها؛ لِأَنَّهُ كَذَبَ، أَوْ نَقَلَ ما لَمْ يَتَثَبَّتْ فِيهِ، وَيَأْثَمُ ثَانِيًا، لِأَنَّهُ أَخَافَ النَّاسَ وَرَوَّعَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ تَرْوِيعُ الْمُؤْمِنِ.
فلنَدَعْ تَنَاقُلَ رسائلِ الواتسِ وتويترَ، ولنأخُذْ الأخبارَ مِنْ مَصَادِرِها الرسْميةِ.
مَعاشرَ المسلمينَ: النَّوَازِلُ الْعَامَّةِ تَنْزِلُ بِالدُّوَلِ مُنْذُ القِدَمِ؛ فتَحَارُ الْعُقُولُ، وَتَكْثُرُ التَّحْلِيلَاتُ وَالتَّوَقُّعَاتُ. وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ الْكَرْبَ، وَأَزَالَ الْوَبَاءَ؛ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ، وَابْتِلَاءً لِمَنْ أَصَابَهُمْ.
أَخْبَرُوا عُمَرَ أَنَّ وَبَاءَ الطَّاعُونِ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّامِ. فَاسْتَشَارَهُمْ، فَاخْتَلَفُوا، فجاءَهمُ الخبرُ أن رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ([1]).
وهَذا الحَديثُ يَدلُّ على أنَّ الإسلامَ سَبَقَ إلى ما يُسمَى بالحَجْرِ الصِّحِّيِ. قالe: لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ([2]).
ومنْ محاسنِ شريعةِ الإسلامِ أنْ جاءتْ بنوعَيِ الطبِ: الطبِ الوقائيِ، والطبِ العِلاجيِ. فلنَفْخَر بدينِنا، ولنُظهِرْ جَمالَه وجَلالَه وكَمالَه للعالَم.
ومِنْ هُنا يُعلمُ أنَّ هذهِ الاحتِرازاتِ الصِّحيةَ في بِلادِنا –حَرَسَها اللهُ–كالحَجْرِ، والتفتيشِ، ومنْعِ السفرِ، وتعليقِ العُمرةِ مؤقتًا؛ هوَ مِن هذا الهَدْيِ الإسلاميِ الكاملِ. وفي المملكةِ أربعةٌ وثلاثونَ مليونِ نسمةٍ، ولم تُسجَّلْ –بحمدِ اللهِ- إلا حالتانِ. أليستْ نعمةً؟!
ولنتأملْ أن مرضُ كورونا منْ يموتُ به أقلُّ ممن يموتُ بالتدخينِ وحوادثِ الطُرقِ ، فلِمَ الهَلَعُ، ولِمَ التهويلُ؟!
فنحتاجُ –إذًا- إلى التَهدئةِ والتَسكينِ، بلا تَهاوُنٍ أو تَهوينٍ. والسكينةُ يُنزِلهُا اللهُ في قلوبِ مَن يُحبُّهم: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) [الفتح: 4].
وَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ مُلَاحَظَةُ عَجْزِ الْبَشَرِ، بِدُوَلِهِمْ، وَأَطِبَّائِهِمْ، وَمُخْتَبَرَاتِهِمْ، وَبإِمْكَاناتِهِمْ عَنْ مُحَاصَرَةِ فَيْرُوسٍ صَغِيرٍ ضَعِيفٍ يَتَنَقَّلُ بَيْنَ الدُّوَلِ، وَيَشُلُّ الِاقْتِصَادَ، وَيُغْلِقُ الْحُدُودَ، وانشغَلَ العالَمُ عنِ الحروبِ إلى حربِ فيروسٍ ضئيلٍ لا يُرَى، (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا). ليُثبِتَ ربُنا لنا عجزَنا، وقدرَته، وضعفَنا وقوتَه، وجهلَنا وعلمَه: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾.
وحينَها يزدادُ المؤمنُ إيمانًا بقُدرةِ اللهِ، ويَمتلئُ قلبُهُ تعظيمًا لهُ –سبحانَه- {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}.
وَلْنَتَفَكَّرْ كَيْفَ يُتَابِعُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ السَّرَّاءَ وَالْبَلَاءَ، وَيَخْتَبِرُهُمْ بِالضَّرَّاءِ وَالنَّعْمَاءِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُمُ الشُّكْرَ وَالصَّبْرَ ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ فيَؤُوبُونَ إِلَيْهِ دَاعِينَ، فَيُجِيبُ دُعَاءَهُمْ، وَيُبَدِّلُهُمْ بِخَوْفِهِمْ أَمْنًا، وَبِوَبَائِهِمْ صِحَّةً.
vمرضٌ آخرُ خطيرٌ؛ ضررُه علينا أشدُّ منْ كورونا، ألا وهوَ مرضُ الذنوبِ. وأعظمُ الذنوبِ الشركُ باللهِ، فهو أعظمُ أسبابِ حلولِ البلاءِ.
ألا وإنَّ أعظمَ دافعٍ للبلاءِ التوبةُ العامةُ، والمواصلةُ أمرًا بالمعروفِ ونهيًا عنِ المنكرِ، فهذا آمَنُ صِمَامٍ، وأنفعُ كمَّامٍ. فما نَزَلَ بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفِعَ إلا بتوبةٍ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
ولَنعمَلْ بالاحتياطاتِ الصحيةِ من غيرِ مبالغةٍ ولا ركونٍ إليها.
أما الأسبابِ الشرعيةِ فهيَ أعظمُ، ومنها:
- صلاتُك الفجرَ جَماعةً بالمسجِدِ، قال e: مَنْ صلَى الفجرَ فهوَ في ذِمةِ اللهِ.
- أن تقولُ عندَ خروجِك من بيتِك: باسمِ اللهِ، توكلتُ على اللهِ، لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ. فمَنْ قالَ ذلكَ: هَداهُ اللهُ، وكفاهُ، ووَقاهُ، ونَحَّى الشياطينَ عنهُ.
- أما أذكارُ الصباحِ والمساءِ فهي حِصنُك الحَصينُ. فاجلِسْ دقائقَ بعد صلاتَي الفجرِ والعصرِ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ).
- وقبلَ ذلكَ ومعَه، وبعدَه: لنُعَلِّقْ قُلُوبَنَا بِربِّنا -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلنَسْأَلْهُ –تَعَالَى- الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، فَلَا يَدْفَعُ الضُّرَّ سِوَاهُ، وَلَا يَرْفَعُ الْوَبَاءَ إلّا هُوَ. ولْنَحْذَرْ أنْ نَشْمَتَ بمنْ أُصيبَ بذلكَ، أو نُرسِلَ النُّكَتَ الساخرةَ، بل يجبُ علينَا أنْ نحمَدَ اللهَ على أنْه عافانا، ونسألَه رفعَ البلاءِ. فاللهم باركْ في صحتِنا، وارزقْنا شُكرَها.
اللهم إنا نعوذُ بكَ من سَيئِ الأسقامِ.
اللهم احفظْ علينا دينَنا وأعراضَنا وبلادَنا وحدودَنا وجنودَنا، وارزقْنا مزيدَ التبصرِ بكيدِ متبعيِ الشُبهاتِ والشهواتِ، الذينَ يُريدونَ أن نميلَ ميلاً عظيمًا.
اللهم احفظْ وليَّ أمرِنا ووليَ عهدِه، وسدِد أُمراءَهم وآراءَهم، وارزقهُم بطانةَ الصلاحِ، واكفِنا وإياهُمْ وبلادَنا شرَّ الأشرارِ وكيدَ الفجارِ، والحاسدينَ.
اللهم اجعلْنا أغنى خلقِك بكَ، وأفقرَ عبادِك إليكَ.
وبارِكْ في أعمارِنا وأعمالِنا، وأرزاقِنا، وقوِّ إيمانَنا، واقضْ ديونَنا، وفرج همومَنا.
اللهم عليكَ بأعداءِ المسلمينَ؛ فإنهمْ لا يُعجِزونَك، اللهم اكفِنا واكفِ المسلمينَ شرَّهم بما شئتَ، يا قويُ يا عزيزُ.
المرفقات
كورونا-احتراز-واعتبار
كورونا-احتراز-واعتبار
كورونا-احتراز-واعتبار-2
كورونا-احتراز-واعتبار-2