كن محبوبًا (3) أ. محمود الفقي -عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
كنت أعلم حين خطت أناملي أول حروف هذا المقال وقررت فيه أن "علامة نجاح الخطيب أن يحبه جمهوره، وعلامة فشله أن يكرهوه"... أن هناك من سيحتج عليَّ بحال الأقوام مع أنبيائهم؛ فيقول: الأنبياء سادة الدعاة والخطباء ولا يجوز أن ننسب إليهم التقصير، ومع ذلك فإن أقوامهم عاندتهم وكرهتهم، فهذا الخليل إبراهيم ألقوه في النار ليحرقوه، وقال له أبوه: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)[مريم: 46]، وها هم يقولون لشعيب -عليه السلام-: (...وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ)[هود: 91]، ويقولون لهود: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ)[الأعراف: 66]، ومن الأقوام من قتلوا أنبياءهم... ألا يدل كل ذلك على شدة الكراهية لهم؟!
وأجيب: ما ذكرتم يدل على العناد لا على الكره، فإن أقوام الأنبياء -رغم عنادهم- كانوا يعلمون ويوقنون أن الحق مع أنبيائهم، وهم في قرارة أنفسهم يودون لو سارعوا إلى تصديقهم... يظهر ذلك في حكاية القرآن عن قوم إبراهيم: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ)[الأنبياء: 65]، "يعني: بعبادتكم ما لا يتكلم، وقيل: معناه أنتم الظالمون لهذا الرجل في سؤالكم إياه"([1])، ويظهر في حديث القرآن عن أهل الكتاب: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)[البقرة: 144]، (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[البقرة: 146]...
فليس هذا كله من قبيل كراهية الأقوام لأنبيائهم، ولكنه استكبار عن قبول الحق بعد اليقين أنه الحق، وليس عن هذا كلامنا... ومنهم من يصده شيء غير التكبر؛ كخشيته على مصالحه الدنيوية أو خشيته من تعيير قومه له، تمامًا كما حدث لأبي طالب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو القائل:
وعرضتَ دينًا قد عرفتُ بأنه *** من خير أديان البرية دينًا
لولا الملامة أو حذاري سبة *** لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا([2]).
أقول: وإن كان بعض الأقوام يكرهون أنبياءهم حقًا، فإن مناط كرههم إياهم غير ما نقصده في مقالنا هذا تمامًا؛ بمعنى: أنهم يكرهونهم تكبرًا وأنفة أو لتفويت مصالحهم الدنيوية عليهم -كما ألمحنا-... لكن ليس من تلك الأسباب بشاعة أسلوبهم في مخاطبتهم، ولا مستواهم العلمي والثقافي الضحل، ولا مخالفة أفعالهم لأقوالهم، ولا تشوش دعوتهم وأدائهم... وهذه الأسباب هي التي قد تسبب كره الناس لخطيب ما، وهي مناط حديثنا.
***
وقد قدمنا في الجزأين السابقين من هذا المقال خمسة بنود لهذه الاستراتيجية؛ "كيف تكون محبوبًا"، وكانت كالتالي:
البند الأول: أحسن فيما بينك وبين الله.
البند الثاني: كن مرحًا متفائلًا.
البند الثالث: يَسِّرْ ما استطعت.
البند الرابع: استعن بالقصص.
البند الخامس: أحبهم أنت، وأشفق عليهم... وموعدنا الآن مع بقية البنود.
البند السادس: بشاشة الوجه في محلها:
كنتُ أحب هذا الرجل حبًا جمًا، وأرتاح لرؤيته، وأحرص أن أتواجد في المكان الذي يكون هو فيه، مع أنه ما أوتي علمًا غزيرًا، ولا لسانًا فصيحًا، ولا كان يملك مالًا فيخصني منه... لكنني كنتُ أحبه لأنه كان يملك شيئًا هو أغلى من المال، وأهم من كثير من العلم، وأكثر تأثيرًا من الفصاحة؛ إنه كان يملك قلبًا طيبًا ووجهًا بشوشًا ولسانًا لينًا... وهذا ما جعلني أتعلق به هذا التعلق.
ولا أشك أن هذا من جملة ما جعل الصحابة يتعلقون بالحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد ظلوا يتذكرون لينه -صلى الله عليه وسلم- لهم وبشاشته وتبسمه في وجوههم، فهذا جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- يقول: "ما حجبني النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي"([3])، وهذا عبد الله بن الحارث بن جزء -رضي الله عنه- يقول: "ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"([4]).
ويتذكر أنس بن مالك بسمة النبي -صلى الله عليه وسلم- على منبره وقد اشتكى الناس مما كانوا عليه يحرصون؛ يقول أنس: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم جمعة، فقام الناس، فصاحوا، فقالوا: يا رسول الله، قحط المطر، واحمرت الشجر، وهلكت البهائم، فادع الله يسقينا، فقال: "اللهم اسقنا" مرتين، وأيم الله، ما نرى في السماء قزعة من سحاب، فنشأت سحابة وأمطرت، ونزل عن المنبر فصلى، فلما انصرف، لم تزل تمطر إلى الجمعة التي تليها، فلما قام النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، صاحوا إليه تهدمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع الله يحبسها عنا، فتبسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا"...([5]).
أخي الخطيب: لقد رأيت من زملائنا من كان يلقي درسًا من أحد الكتب، فقاطعه أحد الحضور بسؤال موضوعي، فانتهره وزجره ولم يجبه، فقد -والله- صُدمتُ من رد فعله، وعجبت كيف لم يغادر السائل المسجد والدرس غاضبًا بعد أن وبخه الزميل وأحرجه!... فلعله كان عاقلًا فصبَّر نفسه بأجر مجالس العلم فقعد، لكنني لست أشك أنه قعد مغضبًا مضطرًا كارهًا لرد فعل الزميل غير محبٍ له.
أخي الخطيب: إن لين الجانب وخفض الجناح وبشاشة الوجه وطيبة القلب أمور تجذب السامعين إليك وتزيد حبهم لك... فاحرص عليها ولا تفرط فيها، وتذكَّر: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159].
البند السابع: أضف إلى السامعين جديدًا:
وهذه المرة ستحبك عقولهم قبل قلوبهم، فإن العاقل حريص دائمًا وأبدًا على ما يشعر أنه يستفيد وينتفع منه، وإن للمعلومة الجديدة ولأسلوب العرض الجديد رونقًا وجاذبية تثير الانتباه وتنصت الأسماع وتنبه الأفهام.
نعم، للشيء الجديد جاذبية خاصة تمحو الملل وتُذْهِب الكآبة ولو كان ذلك الجديد زهيدًا أو ضئيلًا، يضرب ابن الجوزي مثالًا توضيحيًا لذلك فيقول: "الطاعم إذا امتلأ خبزًا ولحمًا حيث لم يبق فيه فضل لتناول لقمة، إذا قدمت إليه الحلوى، فيتناول، فلو قدم أعجب منها، لتناول؛ لأن الجدة لها معنًى عجيب، وذلك أن النفس لا تميل إلى ما ألفت، وتطلب غير ما عرفت، ويتخايل لها في الجديد نوع مراد، فإذا لم تجد مرادها، صدفت([6]) إلى جديد آخر"([7]).
وإن سألت: ما كنه هذا الجديد؟ أقول: هذا في عصر "الأمية الدينية" -للأسف- سهل ميسور؛ فإن الأمة أصبحت بالدين جاهلة إلا القليل، فلو قلتَ: إن أداء الحج مقدَّم على "تجهيز" البنات للزواج عند التعارض، لاكتشفتَ أن ذلك جديد بل وغريب على بعضهم؛ فإن كثيرين يقدِّمون "تجهيز" البنت على أداء فريضة الحج الواجبة عليهم، مع أن "تجهيز" البنات مستحب، والحج ركن من أركان الإسلام!...
وفي بعض المجتمعات ستجد من الجديد الغريب أن تقول: ليس للتزوج من القريبات مزية، بل الاغتراب في الزواج مستحب لأنه من وسائل تحقيق: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[الحجرات: 13]، وعند الشافعية أن الإمام الشافعي "نص على أنه يستحب له أن لا يتزوج من عشيرته، فإن الولد يجيء أحمق"([8])، وكذا قال الحنابلة فيما يستحب عند اختيار الزوجة: "ويختار الأجنبية، فإن ولدها أنجب، ولهذا يقال: "اغتربوا لا تضووا" يعني: انكحوا الغرائب كي لا تضعف أولادكم"([9]).
وفي مجتمعات أخرى ستجد من الغريب أن تقول: أن للبنات حق في الميراث كما للرجال!... وجديد -في بعضها- أن تقول: أن مصافحة الرجال للنساء الأجانب من المحرمات... فذلك يختلف -كما رأيت- من مجتمع إلى آخر حسب قربه وبعده عن تعاليم الإسلام ومبادئه.
وقد يكون الجديد: معلومة شخصية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة... كالاسم الأصلي لمن اشتهر بكنيته من الصحابة: كأبي هريرة وأبي الدرداء وأبي سفيان وأبي أيوب الأنصاري وأبي أمامة وأبي بكرة وأبي دجانة وأبي ذر الغفاري -رضي الله عنهم-... أو البلد الأصلي لمن ليس منهم من مكة ولا المدينة، كسلمان الفارسي وبلال الحبشي...
وقد يكون الجديد: معلومات ثقافية دينية كالأوائل في الإسلام -مثلًا- كأول من أسلم وأول من رمى بسهم في الإسلام، وأول شهيد في الإسلام... ولكن من المهم أن تكون أمثال تلك المعلومات لها علاقة وثيقة بموضوع خطبتك، وأنت -أخي الخطيب- أدرى بذلك.
وقد يكون الجديد: تصحيح لمعلومة خاطئة قد انتشرت سواء كانت دينية أو علمية أو ثقافية، بشرط أن يكون لها تعلق بموضوعك.
وليكن أسلوب عرضك -هو الآخر- متجددًا في كل مرة، فنوِّع طريقة العرض، ولا تلتزم نمطًا وقالبًا واحدًا فتُمِلَّ الناس([10]).
فينبغي عليك -أخي الخطيب- عند تحضيرك لخطبتك وإعداد عناصرها ونصوصها وأفكارها... أن تحرص أن تضع فيها جديدًا ملفتًا، ولا تكونن خطبتك تكرارًا نمطيًا، بل أضف إليهم جديدًا فستحبك هذه المرة عقولهم قبل أن تحبك قلوبهم.
البند الثامن: ابتعد عن المباشرة عند إصلاح الأخطاء:
هي فطرة في الإنسان أن يحب من مدحه ولو بما ليس فيه، وأن يبغض من عابه ولو بما هو فيه... ولا يفعل خلاف ذلك إلا من خالف هواه ونازعه مقتضاه.
وإنك -أيها الخطيب- إن واجهت الناس بعيوبهم مواجهة سافرة خسرت بعضهم لا محالة؛ إذ أن الإنسان لا يحب من يواجهه بأخطائه أبدًا، وحتى العاقل الذي يتقبَّل النصيحة المباشرة إنما يتقبلها على مضضٍ مجاهدًا نفسه وحاملًا إياها على قبولها، أما لو تُرك لجبلته لرفضها ورفض من يقدمونها، وهؤلاء العقلاء ليسوا بكثير، إذ أغلب الناس يأنفون ولا يتقبلون.
فإن أردت اكتساب مودتهم وحبهم وعدم استثارة غضبهم ونفورهم فتجنب النصيحة المباشرة والتوجيه المباشر، فلا تقل لهم: "إنكم تخطئون حين تفعلون كذا"، ولكن قل: "من الخطأ أن يُفعل كذا"، ولا تقل: "رأيت فلانًا يرتكب كذا"، ولكن قل: "بلغ إلى علمي أن أناسًا يرتكبون كذا"... عِبْ الفعل دون أن تمس الفاعل، وانقد الخطأ دون أن تنتقد الخاطئ... ولن أنبهك على ما أنت به خبير من المنهج النبوي المشهور: "ما بال أقوام".
وإن كان لا بد من النصيحة المباشرة - فعلى الأقل-: اذكر المحاسن قبل المساوئ، فإن عمل إنسان عملًا فأحسن في جانب واحد منه، وأخطأ في عشرة جوانب أخرى، فأثن على الجانب الصواب، قبل أن تعيب الجوانب الفاسدة...
فإن لم تجد جانبًا صوابًا تثني عليه، فليكن ثناءً عامًا بصدق لا بكذب، ولن تعدم ذلك، فقل -مثلًا-: "ما دعوتكم إلى فضيلة إلا وجدت منكم مجيبين... لكن البعض يصنع كذا وكذا من الأخطاء، وهم يسيئون بذلك إلى الأكثرين"...
وهذا الأسلوب هو أيضًا أسلوب نبوي قد تعلمناه من سيد الدعاة والخطباء -صلى الله عليه وسلم-؛ فحين أراد -صلى الله عليه وسلم- أن يلفت نظر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- لتقصيره في قيام الليل لم يقل له: لماذا لا تقوم الليل، ولكن قال: "نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل"، فكان عبد الله، بعد ذلك، لا ينام من الليل إلا قليلًا([11]).
ومرة أخرى لم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخريم الأسدي: أنت مخطئ بتطويل شعرك وثوبك، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره"، فبلغ ذلك خريمًا فجعل يأخذ شفرة فيقطع بها شعره إلى أنصاف أذنيه، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه([12])، وهكذا قدَّم -صلى الله عليه وسلم- ذكر المحاسن على المساوئ.
فضخِّم الحسنة وأبرزها مهما كانت صغيرة، ثم اجعل في طياتها الأخطاء مهما كانت كبيرة، فيقتدي الناس بالأولى، ويتحاشوا الثانية؛ كما يتحاشى أحدنا البقعة السوداء أن تصيب ثوبه ما دام ناصع البياض، أما لو أحس بثوبه متسخًا شديد الاتِّساخ فلن يعبأ أن تصيبه بضع بقع أخرى...
([1]) تفسير الخازن (3/229)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.
([2]) السيرة النبوية لابن كثير (1/464)، ط: دار المعرفة بيروت - لبنان.
([3]) البخاري (3035)، ومسلم (2475).
([4]) الترمذي (3641)، وأحمد (17704)، وصححه الألباني (مختصر الشمائل: 194).
([5]) البخاري (1021) واللفظ له، ومسلم (897).
([6]) صدف عن الشيء: أعرض عنه ومال وانصرف وزهد فيه، يُنظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، د. أحمد مختار عمر (2/1281)، ط: عالم الكتب، وغيره.
([7]) صيد الخاطر، لابن الجوزي (ص: 62)، ط: دار القلم - دمشق.
([8]) المهمات، لجمال الدين الإسنوي (7/19)، ط: مركز التراث الثقافي المغربي بالدار البيضاء المغرب، وغيره من كتب الشافعية.
([9]) المغني، لابن قدامة (7/109)، ط: مكتبة القاهرة، وغيره من كتب الحنابلة.
([10]) قد أفردت لذلك مقالًا خاصًا بعنوان: "كيف تكون مملًا؟".
([11]) البخاري (1122)، ومسلم (2479).
([12]) أحمد في مسنده (17622)، وقال محققوه؛ شعيب الأرنؤوط وغيره: "إسناده محتمل للتحسين"، وأبو داود (4089).